منهج اعتصار الألفاظ الشرعية في استنباط الأحكام الفقهية
منهج اعتصار الألفاظ الشرعية في استنباط الأحكام الفقهية
تتفاوت دلالة ألفاظ اللغات ودلالة أنواع كلام اللغة الواحدة تفاوتًا في تطرُّق الاحتمال إلى المراد بذلك الكلام، وبعض المتكلمين أقدر على نصب العلامات في كلامه على مراده منه من بعضٍ آخر، ومن هنا وُصِف المتكلمون والخطباء بالفصاحة والبلاغة.
والمقصود من هذه المقدمة التوطئة لموضوع المقالة بُغيةَ معالجة ما اتسع من خلاف الفقهاء رحمهم الله بالوقوف على أحد أسباب ذلكم الخلاف؛ وهو:
تقليب اللفظ الشرعي، وإهمال الاستعانة بالسياق، وسبب الورود، وما يحتف بالكلام من القرائن، وما يتبعه من المبيِّنات والمقيِّدات والمخصِّصات المتصلة والمنفصلة، وإغفال النظر في فهم الصحابة رضي الله عنهم، وما عليه عمل المسلمين وسبيل المؤمنين.
وفهم النص الشرعي بشموله وما ينطوي عليه من مقاصدَ واعتباراتٍ، مع ما قد يستدعيه هذا النظر الكُلِّيُّ من استقراءٍ وسَبْرٍ، واعتبار وهضم للنصوص الشرعية، من غير تَجْزِيء، هذا مما تتفاوت فيه مراتب الفقهاء، ومن أجَلِّ مَن راعى ذلك ابن تيمية، فإن تقريراته العلمية تشعُّ نورًا، وتتناثر حكمة، وتفيض فقهًا، والله يهدي لنوره من يشاء، ﴿ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الشورى: 52].
ويؤكد ما سبق تقرير النووي في مقدمة شرحه صحيح مسلم أن ما انتهى إليه الجمهور في جواز رواية الحديث بالمعنى بشرطه، هو ظاهر صنيع الصحابة فيما بلغنا عنهم من مرويات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك خلص ابن حجر إلى عدم الاحتفاء بتمحُّل الشراح في توجيه دقائق ألفاظ الحديث، منزوعةً من سياقها وسبب ورودها وألفاظها في الروايات الأخرى، وقال: “الإطالة في مثل هذا غير طائلة”؛ [فتح الباري، مَثلًا: 1/ 148].
قال ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة (ص28) مبينًا ذلك: “ومن هنا يقصر بعض العلماء، ويتوحل في خضخاض من الأغلاط، حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجِّه رأيه إلى اللفظ مقتنعًا به… ومن هنا ظهر تقصير الظاهرية وبعض المحدِّثين المقتصرين في التفقُّه على الأخبار”.
على أن المحدثين المتقدمين تفطَّنوا في صنعة الإسناد والرواية لمن ينظر إلى ظاهر السند، مُغفِلًا بواطن العلل، ومتنكِّبًا ما خَفِيَ من آفات الأسانيد التي ظاهرها الصحة لمن اشتبه عليه، فصانوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وابن عاشور تفطَّن إلى مآلات هذه الطريقة في التفقه (ص48 – 49)؛ فقال: “وأنت إذا نظرت إلى أصول الظاهرية تجدهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نَوطَ أحكامها بالحكمة؛ لأنهم نفَوا القياس والاعتبار بالمعاني، ووقفوا عند الظواهر فلم يتجاوزوها؛ ولذلك ترى حِجاجَهم وجَدَلَهم لا يعدو الاحتجاج بألفاظ الآثار… وهو موقف خطير يخشى على المتردِّي فيه أن يكون نافيًا عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار”.
وقد يكون الداعي إلى الاقتصار على ظاهر اللفظ الاعتبار بالتعبُّد؛ أي: تغليب المعنى التعبدي، ومن شأن ذلك ترك تعليل الحكم والإعراض عن الاجتهاد واستنباط علته، ولا سيما في أحكام المعاملات والجنايات.
وقد آل هذا المسلكَ ببعض فقهاء المذاهب المشتهرة إلى التمسك بظواهر ألفاظ الشارع، أو بالوصف الوارد عند التشريع، ثم قد يضيق ذرعًا بالفروع الملتحقة وما يستجد من النوازل.
هذا، وقد نظَّر لمدرسة ابن تيمية في التفقُّه واعتبار المعاني الشرعية في الأحكام الفقهية: تلميذه البار ابن القيم في كتابه “إعلام الموقِّعين”، بما لا غُنْيَةَ للفقيه عنه، والمفتي أو الحاكم ومن ينيب من المسؤولين والقضاة مطالَبون بالاجتهاد، واستفراغ الوسع في فَقْهِ ذلك، من أحكام الشريعة، وطلب العلوم المؤهلة لهذا المقام، وهو عمل شريف مرضيٌّ عند الله لمن حسُن قصده، وأخلص وجهه لله، لِما يتأثر عنه من إقامة الدين، ونشر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم على مراد الله ورسوله؛ كما قال ربنا سبحانه: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
وقد جربتُ في بحثي بقسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء بالرياض الموسوم بالنوازل في الرضاع، أن أجْمَعَ كل ما ورد من النصوص والآثار في باب الرَّضاع؛ لسبرها وتقسيمها، والنظر في دلالاتها بمجموعها، حتى أميِّز المشتبه من المحكَم، وأحقق الخاص من العام، وأعلم المنسوخ من الناسخ، والمجمل من المبيَّن، والمقيد من المطلق، فخلصت من ذلك إلى قواعد محكمة، وأصول راسخة، تنتظم معها أحكام الباب المقررة في كتب الفقه الإسلامي إلى جانب المسائل النازلة المعاصرة؛ مثل: مُدرَّات الحليب وأثرها في انتشار التحريم، ورضاع المستأجر رحمها، وبنوك الحليب، ومسألة موانع در الحليب، ورضاع المصابة بالإيدز، واستبدال إرضاع الأم بالحليب الصناعي، مع دراسة أثره واقعًا في أطفال المسلمين، إلى غير ذلك من المسائل النازلة في باب الرضاع.
ولا يخفى على شريف عِلْمِ القارئ رجوع عمر عن التمسك بظاهر لفظ الحديث: ((أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله))، إلى رأي أبي بكر في قتال مانعي الزكاة إذ قال أبو بكر: “الزكاة حق الإسلام”، متأوِّلًا حديث: ((إلا بحق الإسلام))، “ولأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة”، فكان هدي أبي بكر تقديم الحقائق الشرعية، والمعاني على الألفاظ المجردة والمباني.
على أن المقاتَلة لا تقتضي القتل ضرورةً، ولذلك لم يُنقَل أنه قتل أحدًا منهم صبرًا، وفوق كل ذي علم عليم.
والحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله.