من آداب طالب العلم (1)
من آداب طالب العلم (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
«فإن طلب العلم عبادة من أجلِّ العبادات وأفضلها، فقد جعله الله تعالى في كتابه قسيمًا للجهاد في سبيل الله؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]؛ يعني بذلك الطائفة القاعدة: ﴿ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْيُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُفِيالدِّينِ»[1]، والفقه هو العلم بالشرع فيدخل فيه علم العقائد والتوحيد وغير ذلك؛ قال الإمام أحمد: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيتُه، قالوا: وكيف تصح النية يا أبا عبد الله؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره.
1- والإخلاص في طلب العلم يحصل بالآتي:
أ- بأن ينوي امتثال أمر الله بطلب العلم؛ لأن الله قال: ﴿ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19] وذكر فضل أهل العلم، فقال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].
ب- حفظ شريعة الله؛ لأن حفظ شريعة الله يكون بالتعلم والحفظ في الصدور، ويكون بالكتابة.
ج- حماية الشريعة والدفاع عنها؛ لأنه لولا العلماء ما حميت الشريعة ولا دافع عنها أحد.
د- اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يمكن أن يتبع شريعته حتى يتعلم هذه الشريعة.
وليحذر طالب العلم من حب الظهور والتفوق على الأقران وجعله سلمًا لأغراض من جاه أو مالٍ، أو تعظيمٍ أو سمعة، أو طلب محمدة أو صرف وجوه الناس إليه، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية أفسدتها، وذهبت بركة العلم؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[2].
2- أن يكون طالب العلم على طريق السلف الصالح في جميع أبواب الدين من التوحيد والعبادات والمعاملات وغيرها، وعليه ترك الجدل والمراء والخوض في علم الكلام لما يجلبه من الآثام، وأن يبتعد عن التنطع والتكلف بل يجعل علمه سهلًا ميسرًا.
3- ملازمة خشية الله تعالى، والمحافظة على شعائر الإسلام، وإظهار السنة ونشرها بالعمل بها والدعوة إليها؛ قال الإمام أحمد: «أصل العلم خشية الله تعالى»، والخشية هي الخوف المبني على العلم والتعظيم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].
4- دوام المراقبة لله، والمراقبة أن يعبد الله كأنه يراه؛ يقوم للصلاة فيتوضأ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، يقوم يتوضأ وكأنه ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، عندما قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا»[3]، وهذا أمر مهم.
5- التحلي بآداب النفس من العفاف والحلم والصبر والتواضع للحق، وخفض الجناح متحملًا ذلَّ التعلم لعزة العلم، ذليلًا للحق، بعيدًا عن الخيلاء؛ وذلك لأن المقام يقتضي أن يكون عند طالب العلم عفة عما في أيدي الناس، وعفة عن النظر المحرم، وحلم لا يُعاجل العقوبة إذا أساء إليه أحدٌ، وصبر على ما يحصل له من الأذى مما يسمعه، إما من عامة الناس، وإما من أقرانه، وإما من معلمه فيصبر ويحتسب، والتواضع للحق، وكذلك للخلق، فالتواضع للحق بمعنى أنه متى بان له الحق خضع له ولم يتبع سواه بديلًا، وكذلك للخلق فكم من طالب فتح على معلمه أبوابًا ليست على بال منه، فلا تحقرن شيئًا، وكذلك ينبغي لطالب العلم أن تعلوه السكينة والوقار، والمقصود أن يحذَر كل الحذر من الإعجاب بالنفس، ففي الحديث: «مَنجَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ،لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إلَيْهِ يَومَ القِيامَةِ»[4]، فالإعجاب يكون بالقلب فقط، فإن ظهرت آثاره فهو خيلاء.
6- أن يكون بعيدًا عن الكبر والحسد، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه: «بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»[5]، وبطر الحق: هو رد الحق، وغمط الناس؛ يعني: احتقارهم وازدراءهم.
والحسد هو أول ذنب عُصي الله به؛ قال تعالى عن الشيطان: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 76].
7- القناعة والزهد: «الزهد في الحرام والابتعاد عن حماه بالكف عن الشبهات وعن التطلع إلى ما في أيدي الناس»، فالتحلي بالقناعة من أهم خصال طالب العلم.
ومعناه أن يقتنع بما آتاه الله تعالى؛ لأن بعض طلبة العلم وغيرهم تجده يريد أن يكون في مصاف الأغنياء والمترفين، فيتكلف النفقات في المأكل والمشرب والملبس والفرش، ثم يثقل كاهله بالديون وهذا خطأ، فالقناعة خير زاد المسلم، وفي الحديث: «قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ»[6].
قيل لمحمد بن الحسن الشيباني رحمه الله: لِمَ لا تصنف كتابًا في الزهد؟ قال: «قد صنفت كتابًا في البيوع، يعني: الزاهد من يتحرز عن الشبهات والمكروهات في التجارات، وكذلك في سائر المعاملات والحِرَف»؛ ا.هـ.
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله عن شيخه محمد الأمين الشنقيطي: كان رحمه الله متقللًا من الدنيا، وقد شافهني بقوله: «لقد جئت من بلاد شنقيط ومعي كنز قلَّ أن يوجد عند أحد وهو القناعة، ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها، ولكني لا أُوثر الدنيا على الآخرة، ولا أُبدل العلم بنيل المآرب الدنيوية»، فرحمه الله رحمة واسعة.
8- التحلي بحسن السمت والهدي الصالح من دوام السكينة والوقار، وعليه أن يجتنب اللعب والعبث، والعبث هو أن يفعل فعلًا لا داعي له، أو يقول قولًا لا داعي له.
قال محمد بن سيرين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، وكذلك البعد عن التبذل في المجالس بالسخف والضحك والقهقهة، وكثرة التندُّر وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح بيسيره ونادره، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر ويزيل المروءة، وخاصة عند عامة الناس، فإن ذلك يُذهب هيبة طالب العلم وهيبة العلم الذي يحمله.
قال الأحنف بن قيس: جنِّبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصَّافًا لفرجه وبطنه، وقد قيل: «من أكثر من شيء عُرف به»[7].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] صحيح البخاري برقم (7312)، وصحيح مسلم برقم (1037).
[2] (14 /169) برقم (7457) وقال محققوه: إسناده حسن.
[3] صحيح البخاري برقم (164)، وصحيح مسلم برقم (226).
[4] صحيح البخاري برقم (3465)، وصحيح مسلم برقم (2085).
[5] صحيح مسلم برقم (19).
[6] صحيح مسلم برقم (1054).
[7] شرح حلية طالب العلم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص (15 /46) بتصرف.