من أدب النبوة: عدم الاشتغال بعيوب الناس
من أدب النبوة عدم الاشتغال بعيوب الناس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُبصِرُ أحدكم القَذَاة في عين أخيه، وينسى الجِذعَ – أو الجَدْلَ – في عينه معترضًا)) [صحيح].
فهذا من الأمراض الاجتماعية التي تتفشى بين كثير من الناس، والقذاة؛ أي: ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو وسخ، (وينسى الجذع أو الجَدْلَ)؛ أي: الخشبة الكبيرة أمام عينيه؛ يعني: أنه لا يرى إلا عيوب الآخرين وإن دقَّت وصغُرت وتناهت في الصغر، بينما لا يرى عيب نفسه وإن كان كبيرًا ظاهرًا لكل ذي عين؛ فينشغل بعيوب غيره، وينسى عيوب نفسه.
يقول الشاعر:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلُّك عَوراتٌ وللناس ألْسُنُ وعينك إن أبدت إليك مساوئًا فصُنْها وقُلْ: يا عينُ للناس أعْيُنُ |
إذا اشتغل الإنسان بخطايا الناس وعيوبهم، فلا شك أن هذا سيشغله عن إصلاح نفسه، ومن ثَمَّ تكثر خطاياه، ولا يتوب منها، ولا يعاتب نفسه؛ لأنه غير متفرِّغ لإصلاح نفسه.
وقد قيل: استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس.
وقد نبهنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهمية خلق الإنصاف بين الزوجين؛ فقال: ((لا يفرك مؤمن مؤمنةً؛ إن كَرِهَ منها خُلُقًا، رضيَ منها آخر))؛ [مسلم]، لا يفرك: لا يُبْغِض.
من أدوية هذا الداء: إذا أردت أن تذكر عيوبَ صاحبك، فاذكر عيوبك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشرَ مَن آمَنَ بلسانه ولم يدخُلِ الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته))؛ [صحيح].
(لا تغتابوا المسلمين)؛ أي: لا تذكروهم في غيبتهم بما يسوؤهم ويحزنهم، (ولا تتبعوا عوراتهم)؛ أي: ولا تبحثوا عن سَقَطاتهم وزلَّاتهم، وكشف سترهم، (فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)؛ أي: يكون الجزاء من جنس العمل، فكما تتبعوا سقطات المسلمين وزلَّاتهم واغتابوهم لفضحهم، سخَّر الله تعالى له من يتبع عورته، فيفضحه حتى وهو في بيته.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته، حتى يفضحه بها في بيته))؛ [صحيح ابن ماجه].
وقال السخاوي رحمه الله تعالى: “وقد روينا عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، أنه قال: أدركت بهذه البلدة – يعني المدينة – أقوامًا لم تكن لهم عيوب، فعابوا الناس؛ فصارت لهم عيوب، وأدركت بها أقوامًا كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس؛ فنُسِيَتْ عيوبهم”.
ذِكْرُ مساوئ الشخص بقصد النصح للآخرين بعدم معاملته، أو الابتعاد عنه جائزٌ شرعًا، إذا كان بقدر الحاجة، ولا يعتبر من الغِيبة المحرَّمة، وهناك مواضع ستة ذكرها العلماء أن الغِيبة تجوز فيها، وقد ذكرها النووي في رياض الصالحين؛ وهي:
الأول: التظلُّم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك؟ ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا؟ وحديث هند وقولها للنبي صلى الله عليه وسلم: “إن أبا سفيان رجل شحيح”.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم؛ وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة، ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته، أو إيداعه أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته، ويجب على المشاور ألَّا يُخفِيَ حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها: إذا رأى متفقهًا يتردد إلى مبتدع أو فاسق، يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته؛ كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وأخذ الْمَكْسِ وجباية الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره.
السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب كالأعمش والأعرج، والأصم والأعمى، والأحول وغيرها، جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى؛ ومن أدلة جواز ذلك في التعريف حديث: ((… فقام رجل يُقال له ذو اليدين…))، وغير ذلك، واتفاق العلماء على ذكر الرواة ونحوهم بأوصافهم التي يُعرَفون بها، وإن كانت مذمومة؛ كالأحول والأعرج والأعمش، ونظائر ذلك كثيرة، وأما التحذير، فدليله عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((… ائذنوا له، بئس أخو العشيرة…))، وقوله لفاطمة بنت قيس: ((… أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جَهْمٍ فلا يضع عصاه عن عاتقه))، وأما المجاهر بالفسق، فدليل جواز غِيبته قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا))؛ [رواه البخاري].
فاللهم اهدِنا سواء السبيل، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وتقبَّل منا واغفر لنا، وارحمنا واهدِنا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.