من أقوال السلف في ليلة القدر
من أقوال السلف في ليلة القدر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فطوبى لمن وفَّقه الله فقام ليلة القدر؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1 – 3]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: “فالعمل الذي يقع فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر خالية منها، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول؛ حيث منَّ الله تعالى على هذه الأمة الضعيفة القوَّة والقُوَى بلَيلةٍ يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر؛ أي: عمر رجل معمر عمرًا طويلًا، نيفًا وثمانين سنة.
وهنيئًا لمن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه))؛ [متفق عليه].
للسلف أقوال كثيرة في ليلة القدر، اخترت بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
ليلة القدر خير الليالي:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: “وليلة القدر خيرته من الليالي”.
تسمية ليلة القدر بهذا الاسم:
• قال مجاهد: “﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]؛ ليلة الحُكم”.
• قال الإمام البغوي رحمه الله: “سميت ليلة القدر؛ لأنها ليلةُ تقديرِ الأمور والأحكام، يقدِّر الله فيها أمر السَّنَة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة… وقيل: لأن العمل الصالح فيها يكون ذا قدر عند الله لكونه مقبولًا”.
• قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “في تسميتها بذلك خمسة أقوال؛ أحدها: القَدْر: العظمة، الثاني: من الضيق؛ أي: هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون، الثالث: أن القدر: الحُكم، الرابع: لأن من لم يكن له قدرٌ، صار بمراعاتها ذا قدرٍ، الخامس: لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر”.
• قال الإمام القرطبي رحمه الله: “سُمِّيت بذلك لأن الله تعالى يُقدِّر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة”.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: “سُمِّيت ليلة القدر لعظيم قدرها، وفضلها عند الله”.
ليلة القدر في شهر رمضان:
• قال ابن مسعود رضي الله عنه: “من يقمِ الحول يُصبْها، فبلغ ذلك ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: يرحم الله أبا عبدالرحمن، أمَا إنه علِم أنها في شهر رمضان، ولكن أراد ألَّا يتكل الناس”.
• قال الإمام الشوكاني رحمه الله: “ليلة القدر في شهر رمضان”.
الاختلاف في تعين ليلة القدر:
• قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافًا كثيرًا، وتحصَّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولًا”.
• قال الإمام الشوكاني رحمه الله: “وقد اختُلف في تعين ليلة القدر على أكثر من أربعين قولًا، قد ذكرناها بأدلتها، وبينَّا الراجح منها في شرحنا للمنتقى”.
أقوال السلف في تحديد ليلة القدر:
• قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لا أرى ليلة القدر إلا ليلة السابعة والعشرين”.
• قال زيد بن ثابت وبلال رضي الله عنهما: “هي ليلة أربع وعشرين”.
• قال زر بن حبيش رحمه الله: قلت لأبي بن كعب: يا أبا المنذر، أخبرنا عن ليلة القدر، فإن ابن أمِّ عبد يقول: من يقمِ الحَولَ يُصبها، فقال: رحِم الله أبا عبدالرحمن، أما إنه قد علم أنها في رمضان، ولكنه كرِه أن يخبركم فتتَّكلوا، هي والذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين، فقلنا: يا أبا المنذر، أني علمت هذا؟ قال: بالآية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فحفِظناها وعددناها، هي والله لا تُنسى، قلنا: وما الآية؟ قال: ((تطلع الشمس كأنها طَاسٌ، ليس لها شعاع)).
• قال أبو رزين العقيلي رحمه الله: “هي أول ليلة من شهر رمضان”.
• قال الحسن رحمه الله: “ليلة سبع عشرة، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر”.
• قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: “النفس أمْيَل إلى أنها في الأغلب ليلة ثلاث وعشرين، أو ليلة سبع وعشرين، على ما قال ابن عباس أنها سابعة تمضي، أو سابعة تبقى، وأكثر الآثار الثابتة الصحاح تدل على ذلك”.
• قال الإمام السمعاني رحمه الله: “الصحيح أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان”.
• قال الإمام القرطبي رحمه الله: “قيل: هي ليلة التاسع عشر”.
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: “ليلة القدر في رمضان بلا شكٍّ، من ليلة إحدى وعشرين إلى آخر ليلة، فكل ليلة من هذه الليالي يمكن أن تكون ليلة القدر”.
ليلة القدر ليس لها ليلة معينة:
• قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: “ليلة القدر… ليس لها ليلة معينة لا تَعْدوها، والله أعلم… ليست في ليلة واحدة معينة في كل شهر رمضان، فربما كانت ليلة إحدى وعشرين، وربما كانت ليلة خمس وعشرين، وربما كانت ليلة سبع وعشرين، وربما كانت ليلة تسع وعشرين، وقوله: ((في كل وتر)) يقتضي ذلك”.
• قال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: “ليلة القدر مستديرة في أوتار العشر الأواخر من رمضان، هذا هو الصحيح المعوَّل عليه، وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر؛ لأن الأوتار مع كمال الشهر ليست الأوتار مع نقصانه؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لثالثة تبقى، لخامسة تبقى، لسابعة تبقى))، وقال: ((التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة)).
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان… وتكون في الوتر منها، لكن الوتر يكون باعتبار الماضي، فتُطلَب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لتاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى))؛ فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين، يكون ذلك ليالي الأشفاع، وتكون ليلة الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وهكذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر، وإن كان الشهر تسعًا وعشرين، كان التاريخ بالباقي كالتاريخ الماضي، وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أن يتحرَّاها في العشر الأواخر جميعه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تحرَّوها في العشر الأواخر))، وتكون في السبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين.
• قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: “وهل هي معيَّنة؟ الصواب أنها ليست معيَّنة، لكن بعض الليالي أرجى من بعض، وأما أنها معينة بليلة واحدة فلا، ولا يمكن أن تجتمع الأدلة إلا بهذا القول”.
إخفاء ليلة القدر ليقع الجِدُّ في طلبها:
• قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: “ليلة القدر… ساعة الجمعة، اشتركا في إخفاء كل منهما؛ ليقع الجد في طلبهما؛ قال ابن المنير في الحاشية: إذا عُلِم أن فائدة الإيهام لهذه الساعة ولليلة القدر بَعْثُ الداعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بيَّن لاتَّكل الناس على ذلك، وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلبها”.
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: “هي تنتقل، والله سبحانه وتعالى له حكمة في تنقُّلِها؛ حتى لا يعتاد الناس أن يقوموا تلك الليلةَ المعيَّنةَ، وألَّا يقوموا غيرها”.
من علامات ليلة القدر:
قال العلامة العثيمين رحمه الله: “ليلة القدر لها علامات: هدوء الليلة، وبياض السماء بياضًا بيِّنًا واضحًا، ومنها: شدة الضوء والنور؛ لأنه إذا نزلت الملائكة لا تنزل إلا بالخير والنور، وهذا لا نطَّلِع عليه في وقتنا الحاضر ما دامت هذه الأنوار من الكهرباء ساطعةً فلا نُحسُّ به، لكن فيما قبل لما كانت البلاد ليس فيها أنوار من الكهرباء، كانت تتميَّز ليلةُ القدر عن غيرها ميزةً واضحةً بيِّنةً، ومنها: راحة المؤمن، واطمئنان قلبه، وانشراح صدره، وتوفيقه للدُّعاء والذكر، والأنس والنشاط، وهذه من الله عز وجل وليست باختيار الإنسان، وهذا يشهد له الواقع، ومنها الرؤية قد يراها بعض الناس، ويكون هذا من نعمة الله عليه إذا وُفِّق للقيام بما ينبغي أن يقوم به في تلك الليلة، ومنها: حضور القلب في القيام؛ لأن القيام له خاصية في ليلة القدر، وهناك أيضًا علامة أخرى بعد انتهاء الليل؛ وهي طلوع الشمس، فإنها تطلُع صافيةً ليس لها شعاع، وهذا يستفيد منه المرء بأن يزداد فرحًا إذا كان قد وُفِّق في تلك الليلة للقيام والعمل الصالح”.
من فضائل ليلة القدر:
• قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]: “أُنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة من الذكر الذي عند رب العزَّة، حتى وُضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم جعل جبريل ينزل على محمد بحراء بجواب كلام العباد وأعمالهم”.
• قال مجاهد في قوله تعالى: ﴿ سَلَامٌ هِيَ… ﴾ [القدر: 5]: “سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سُوءًا، أو يعمل فيها أذًى”.
• قال الضَّحَّاك رحمه الله: “لا يُقدِّر الله في تلك الليلة ولا يقضي إلا السلامة، وقال: لا يحل لكوكب أن يُرجَم به فيها حتى تصبح”.
• قال عطاء رحمه الله: “﴿ سَلَامٌ ﴾ [القدر: 5]: يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته”.
• قال الشعبي رحمه الله: “هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر”.
• قال الكلبي رحمه الله: “الملائكة ينزلون فيها كلما لقوا مؤمنًا أو مؤمنة، سلموا عليه من ربه، حتى مطلع الفجر”.
• قال الفراء رحمه الله: “لا يقدِّر اللهُ في ليلة القدر إلا السعادة والنِّعَم، ويقدِّر في غيرها البلايا والنقم”.
• قال الإمام السمعاني رحمه الله: “﴿ سَلَامٌ هِيَ ﴾ [القدر: 5]؛ أي: سلامة، والمعنى: أنه لا يُعمَل فيها داء ولا سحر، ولا شيء من عمل الشياطين والكهنة”.
• قال الإمام البغوي رحمه الله: “ليلة القدر سلام وخير كلها، ليس فيها شر”.
• قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “ليلة القدر… يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة؛ لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع نزول البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَقِ الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم”.
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “إن شهر رمضان شهرٌ يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في ليلة القدر”.
خروج الشمس صبيحتها لا شعاع لها:
• قال الإمام النووي رحمه الله: “قوله: ((إنها تطلع يومئذٍ لا شعاعَ لها))؛ قال القاضي عياض: قيل: لا شعاع لها: إنها علامة جعلها الله تعالى لها، قال: قيل: بل لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها، ونزولها وصعودها بما تنزلت به، سترت بأجنحتها وأجسامهما اللطيفة ضوءَ الشمس وشعاعها، والله أعلم”.
التماس ليلة القدر يحتاج إلى مجاهدة:
• قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “التماس ليلة القدر يستدعي محافظة زائدة، ومجاهدة تامة، ومع ذلك فقد يوافقها أو لا… فالقائم لالتماس ليلة القدر مأجور، فإن وافقها، كان أعظم أجرًا”.
سؤال الله جل وعلا العفو ليلة القدر:
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها، وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يَرَون لأنفسهم عملًا صالحًا، ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر… من عظُمت ذنوبه في نفسه، لم يطمع في الرضا، وكان غاية أمله أن يطمع في العفو، ومن كملت معرفته، لم يَرَ نفسه إلا في هذه المنزلة”.
الاعتكاف لالتماس ليلة القدر:
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: “المعتكف يلتزم المسجد لطاعة الله عز وجل؛ ليتفرَّغ للطاعة؛ فالإنسان في بيته وسوقه يلهو عن الطاعة، فيتفرَّغ للطاعة، ويتفرَّغ لانتظار ليلة القدر؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأُوَل يلتمس ليلةَ القدر، ثم اعتكف العشر الأواسط يلتمس ليلة القدر أيضًا، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر، فاعتكف العشر الأواخر، فينبغي أن يعلم المعتكف أنه ليس المرادُ من الاعتكاف أن يكون سحوره وفطوره في المسجد فقط، إنما المراد من الاعتكاف أن يتفرَّغ للطاعة، وأن ينتظر ليلة القدر”.
الاعتكاف لالتماس ليلة القدر ولو رأى ليلة القدر:
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: “الاعتكافُ مسنونٌ في العشر الأواخر كُلِّها، حتى لو رأى ليلة القَدْر؛ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد عَلِمَ أن ليلة القدر ليلة الحادي والعشرين، واستمرَّ في اعتكافه؟ بلى، وهو عالِمٌ بها، وأنها قد مَضَتْ، ومع ذلك اعتكف العشر الأواخر، فنقول: ربما يكون اعتكافُكَ بعد أن رأيتها بمنزلة الرَّاتبة للفريضة؛ يعني أنه يُكمِل أجر الليلة، فهل منا مَنْ يتأكَّد أنَّه أعطى ليلة القدر حقَّها؟ أبدًا، كُلُّنا مُقصِّرون، نسأل الله أن يعاملنا بعفوه”.
ليلة القدر وليلة الإسراء:
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، فحظُّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختُصَّ به ليلة المعراج منها أكمل من حظه من ليلة القدر، وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج، وإن كان لهم فيها أعظم حظٍّ”.
استدراك ما فات من ضياع العمر بقيام ليلة القدر:
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “يا من ضاع عمره في لا شيء، استدرِكْ ما فاتَكَ في ليلة القدر؛ فإنها تُحسَب بالعمر… فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقِيَ من الشهر؛ فعسى أن يُستدرَك به ما فات من ضياع العمر”.