من التأريخ الاقتصادي: البيزرة
من التأريخ الاقتصادي: البيزرة
فيما يتجاوز الفنون الأدبية، فإن للصيد حضورًا في الخط والرسم والحفر على الخشب، وما يتصل بذلك من صناعات، وأكثر مناظر الصيد ورودًا في العلب العاجية بالأندلس الصيد بالبُزاةِ أو الصقور، وأقلُّها الصيد بالكلاب والفهود، أو الصيد بالحِراب أو السهام.
وفي الحياة الاجتماعية أصبحت البيزرة “مؤسسة” لها قواعدها وأصولها، ولها ما يسميه المشارقة “زمام”، أو ما يسميه الأندلسيون “خُطَّة”، يتولَّاها صاحب الصيد، أو رئيس البيازرة، أو أمير شكار، وللبيازرة في بعض المدن أحياء خاصة بهم.
وأما في ميدان التأليف في الصيد، فقد برزت ثلاثة اتجاهات رئيسة: أولها وأقدمها: الاتجاه اللغوي؛ وهو ما يكتبه علماء اللغة من مؤلفات في الطيور والجوارح، حين كانوا يسجلون معاجم صغيرة لكل موضوع، ككتبهم في الإبل والخيل والنبات وغير ذلك، فمن كتبهم: كتاب البازي، وكتاب الحمام، وكتاب العقاب لأبي عبيدة، وكتاب الطير للسجستاني، وكتاب الوحوش للأصمعي؛ وثانيها: كُتُب تعالج الصيد من الزاوية الفقهية؛ مثل: الصيد والذبائح لمحمد بن الحسن، وآخر بعنوان مماثل للشافعي، وقد أضحى النوع الأول من الكتب مادة للمعاجم الموضوعية؛ كالمخصَّص لابن سِيده، كما أضحى النوع الثاني فصلًا في الكتب الفقهية؛ أما الاتجاه الثالث في التأليف، فيتمثل في تطور “هواية” الصيد إلى علم يدعى “البيزرة”، وثمة ما يقوِّي الترجيح بأن هذا النوع من التأليف بدأ في أواخر العصر الأموي، وأوائل العصر العباسي.
ورد في كتاب (الكافي في البيزرة) لمؤلِّفه عبدالرحمن بن محمد البلدي، الذي عاش خلال القرن السادس الهجري على الأرجح: البيزرة مأخوذة من “بيزار”، وهذه في الأصل “بازيار”، وهي صيغة فارسية عُثِرَ على استعمالها في دور مبكر نسبيًّا في كتاب كليلة ودمنة، أما ما قبل ذلك، فلا نقطع بأنها كانت مستعملة، فحين تحدث صاحب كتاب الطيور عن الغطريف بن قدامة الغساني لم يسمه بازيارًا، وإنما دعاه “صاحب ضواري هشام بن عبدالملك والوليد”، وتماثلها لفظة “بزدار”، وتقارنها لفظة “صقار”، وهي أقل منها استعمالًا في القديم.
ولعل الصيد – بمعنى البحث عن الغذاء – أن يكون من أقدم ضروب النشاط الإنساني؛ إذ يذهب بنا التصور إلى أنه اقترن بحياة الإنسان، منذ أن وُجِدَ على ظهر هذه الأرض، أما استخدام الطائر أو الحيوان لصيد بعض الحيوانات الأخرى، فلعله يمثِّل مرحلة حضارية راقية لا تقترن بالمعنى البدائي الذي واكب مفهوم الصيد، وكما أن أوائل الأمور في سائر أنواع النشاط الإنساني يصعب تعيينها، فكذلك الحال في أول من اهتدى إلى استخدام الجوارح والحيوانات في الصيد، ولكنا نجد أنفسنا فجأة أمام “مهارة” انتقلت من بدايات أولية إلى أن أصبحت ذات أصول محكَمة، وشاعت بين مختلف الأمم؛ فالقول بأن هذه الأمة أو تلك أول من اهتدى إلى الصيد بالجوارح أمرٌ لا يمكن التأكد من صحته، إلا بوضع تاريخ تسلسليٍّ للحضارات بحسب القدم.
أو القول بأن “الطيور” الصالحة للتدريب متوفرة في بلد دون آخر، وأنها حيث توفرت جذبت انتباه الناس في ذلك البلد نحو معاملتها للطيور الأخرى، التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها بالقوة، وحين أخذ الحديث عن فنِّ الصيد يشيع بين العرب، حاولوا توزيع الأوليَّات على الأمم والأقاليم، فقال بعضهم: أول من لعب بالبُزاة والشواهين ملك من ملوك الروم، وأول من لعب بالصقور العرب، وأول من لعب العقبان أهلُ المغرب، فكأنهم نظروا في ذلك إلى تكاثر هذا الجارح أو ذاك في بلد دون آخر، وبهذا يرتبط مثل قول الجاحظ وغيره: البازي أعجمي، والصقر عربي.
على أية حال: لقد عرفت معظم الأمم فن الصيد، وشاركت في تطويره، ولكنها تفاوتت في تفضيل جارح على آخر.
ولقد كان للصيد – بمعناه العام – عند العرب في جاهليتهم مكانة هامة، ويبدو أن الأمر بدأ في صورة حاجة اقتصادية، ثم لم يلبث أن تطوَّرَ إلى متعة عمن يجدون الكفاية المعيشية، واقترنت الظاهرتان معًا كما يعكسهما الشعر الجاهلي.
ولقد تعايشت الغايتان: طلب المتعة، وسد الحاجة الاقتصادية في ممارسة الصيد في العصور الإسلامية، إلا أنه سرعان ما غلبت الأولى على الثانية، دون أن تقضِيَ عليها.
لأننا نعتقد أن هناك أسبابًا متعددة ألْقَتِ الغاية الاقتصادية القائمة على كسب الطعام في الظل، وإن لم تنعدم جملة، ولكن الفرق الأساس في طبيعة التجربتين أعطى للأولى جانب الصدارة في الخبر، بينما ظلت تجربة الصائد الفقير “روتينًا” عاديًّا.
وسرعان ما انتقلت الغاية الاقتصادية إلى مستوًى جديد؛ فبدلًا من طلب الصيد للغذاء، أصبحت هناك فئات كبيرة من الناس تتعيَّش بتدريب الجوارح، أو بخدمتها ومراعاتها، أو بصيدها لتبيعها إلى من يقدرون على اقتنائها.
وأصبحت الطيور الجوارح تدخل في قائمة السلع، وتصنَّف بحسب جودتها، وتقرن جودتها بمنشئها.
كذلك ازدهرت بعض السلع المتصلة بها؛ كالدستبان والكمة والأجراس، وليس من قبيل الخبر العابر أن يُقال: إن من خصائص سجستان صنع جلاجل البُزاة، ولنا أن نتصور مقدار ما كان ينفقه الفرد الواحد على استتمام “هوايته” المفضلة، مما حكاه أسامة بن منقذ عن أبيه؛ فقد كان مرشد والده يبعث قومًا من أصحابه ليشتروا له البزاة، حتى أنفذ بعضهم إلى القسطنطينية، وكان أكثر ما يستدعي البزاة ويشتريها من وادي ابن الأحمر بالغلاء.
هذا عدا ما كان يدفعه من مرتبات للبازيارية والكلابزة والخدم، وما ينفقه على طعام البزاة والكلاب، وعلى معالجتها إن ألمَّ بها مرض، وما يستتبع ذلك كله من توفير الوسائل اللازمة لها، ومن إعداد الخيل وفرسانها لمرافقة الصائدين، وقد حُكِيَ أن نفقات أرزاق البزدارية والكلابزية والفهادين في عهد المتوكل كانت نصف مليون درهم في السنة، وأنها بلغت عند بعض خلفاء الفاطميين خمسين ألف دينار سنويًّا.