من درر العلامة ابن القيم عن الجهاد
من درر العلامة ابن القيم عن الجهاد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالجهاد من المواضيع التي تكلم عنها العلامة ابن القيم رحمه الله في عدد من كتبه، وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
[كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله وآثر راحته على التعب في سبيل الله:
من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سلبه الله إياه، وقيَّض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلًا وآجلًا، وإن حبسه وادَّخره منع التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنؤه، وعلى مخلفه وزره. وكذلك من رفَّه بدنه…وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.
[كتاب: روضة المحبين ونزهة المشتاقين]
جهاد الهوى:
جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه.
[كتاب: مفتاح دار السعادة]
الجهاد من أفضل الأعمال بعد الفرائض:
كثير من الأئمة صرَّحوا بأن أفضل الأعمال بعد الفرائض طلبُ العلم.
وأما الإمامُ أحمد فحُكي عنه ثلاث روايات:
إحداهن: أنه العلم، والرواية الثانية: صلاة التطوُّع، والرواية الثالثة: أنه الجهاد.
[كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين]
فضل الجهاد وثواب المجاهدين:
المجاهدون في سبيل الله، وهم جند الله الذين يُقيم بهم دينه، ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم بيضة الإسلام، ويحمي بهم حوزة الدين، وهم الذين يقاتلون أعداء الله ليكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، قد بذلوا أنفسهم في محبة الله ونصر دينه وإعلاء كلمته ودفع أعدائه، وهم شركاء لكل من يحمونه بسيوفهم، في أعمالهم التي يعملونها، وإن تناءت ديارهم، ولهم مثل أجور من عبد الله بسبب جهادهم وفتوحهم، فإنهم كانوا هم السبب فيه. والشارع قد نزل المتسبب منزلة الفاعل التام في الأجر والوزر؛ ولهذا كان الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلال لكل منهما بتسببه مثل أجر من تبعه. وقد تضافرت آيات الكتاب وتواترت نصوص السنة على الترغيب في الجهاد، والحضِّ عليه، ومدح أهله، والإخبار عمَّا لهم عند ربهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات.
[كتاب: الفروسية المحمدية]
الاستعداد للجهاد:
المسابقة والمناضلة هي من باب الاستعداد للجهاد، فإذا تعلم الناس أسبابه وتدربوا فيها، وتمَرَّنوا عليها قبل لقاء العدوِّ، ألفاهم ذلك عند اللقاء قادرين على عدوِّهم، مُستعدِّين للقائه.
[كتاب: الكلام على مسألة السماع]
ثمرة الجهاد:
وثمرة الجهاد تسليم النفس التي اشتراها سبحانه من العباد وجعل الجنة ثمنها.
[كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد]
مراتب الجهاد:
الجهاد أربع مرتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
مراتب جهاد النفس:
جهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرَّها لم ينفعها.
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانيِّين.
مراتب جهاد الشيطان:
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان:
أحدهما: جهاده على دفع ما يلقى إلى العبد من الشُّبُهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانية: جهاده على دفع ما يلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.
مراتب جهاد الكفار والمنافقين:
وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مرتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان.
مراتب جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات:
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات، فثلاث مراتب؛ الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه.
جهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار:
جهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواصِّ الأمة، وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه، والمعانون عليه، وإن كانوا هم الأقلِّين عددًا، فهم الأعظمون قدرًا عند الله.
من لم يجاهد نفسه لا يمكنه جهاد عدوِّه:
من لم يجاهد نفسه أولًا لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويُحاربها في الله، لم يُمكنه جهاد عدوِّه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوِّه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين يديه قاهر له، مُتسلِّط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه في الله.
تأثير الجهاد في دفع الهَمِّ والغَمِّ:
تأثير الجهاد في دفع الهَمِّ والغَمِّ، أمر معلوم بالوجدان، فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه، اشتدَّ همُّها وغَمُّها، وكربها وخوفها، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحزنَ فرحًا ونشاطًا وقوةً كما قال الله سبحانه: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [التوبة: 14، 15]، فلا شيء أذهب لجوى القلب وغمِّه وهَمِّه وحزنه من الجهاد.
الجهاد من أعظم أسباب حفظ الصحة:
الجهاد…فيه من الحركات الكلية التي هي من أعظم أسباب القوة، وحفظ الصحة، وصلابة القلب والبدن ودفع فضلاتهما وزوال الهَمِّ والغَمِّ والحزن.
هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد:
لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه، واستولى على أنواعه كلها، فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب، والجنان، والدعوة، والبيان، والسيف، والسنان، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده؛ ولهذا كان أرفع العالمين ذكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُبايع أصحابه في الحرب على ألا يفرُّوا، وربما بايعهم على الموت.
كان يقول: ((الحرب خدعة)).
كان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوِّه، ويُطلع الطلائع، ويبيتُ الحرس.
كان إذا لقي عدوَّه، وقف ودعا، واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، وخفضوا أصواتهم.
كان يرتب الجيش والمقاتلة…ويعبئهم عند القتال بيده، ويقول: تقَدَّمْ يا فلان، تأخَّرْ يا فلان، ويجعل في كل جنبةٍ كفئًا لها.
كان يُبارز بين يديه.
كان يلبس للحرب عُدَّته، وربما ظاهر بين درعين.
كان إذا أراد أن يُغِير انتظر، فإن سمع في الحي مؤذنًا، لم يغزُ وإلا أغار، وكان ربما بيَّت عدوه، وربما فاجأهم نهارًا.
كان يحب الخروج يوم الخميس بكرة النهار.
كان العسكر إذا نزل انضم بعضه إلى بعض حتى لو بسط عليهم كساء لعمَّهم.
كان إذا لقي العدو، قال: ((اللهم منزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم)) وربما قال: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾[القمر: 45، 46].
كان يقول: ((اللهم أنزل نصرك، وكان يقول: اللهم أنت عضدي وأنت نصيري، وبك أقاتل))، وكان إذا اشتدَّ له بأس، وحمي الحرب، وقصده العدو، يُعلِمُ بنفسه، ويقول: ((أنا النـبي لا كـذب، أنا ابن عبد المطلـب)).
وكان الناس إذا اشتدت الحرب اتقوا به صلى الله عليه وسلم، وكان أقربهم إلى العدوِّ.
كان يجعل لأصحابه شعارًا في الحرب يُعرَفُون به إذا تكلموا، وكان شعارهم مرة: (أمت أمت) ومرة: (يا منصور) ومرة: (حم لا ينصرون).
كان يلبس الدرع والخوذة، ويتقلَّد السيف، ويحملُ الرمح والقوس العربية، وكان يتترَّس بالتُّرْس، وكان يحب الخيلاء في الحرب.
كان يأمر أمير سريَّته أن يدعو عدوَّه قبل القتال إما إلى الإسلام والهجرة، أو الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيب، أو بذل الجزية، فإن هم أجابوا إليه قبل منهم، وإلا استعان بالله وقاتلهم.
كان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله، ويقول: ((سيروا بسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدًا)).
قاتل مرة بالمنجنيق نصبه على أهل الطائف.
كان ينهى عن قتل النساء والولدان.