من صور الاستخلاف في الأرض
خطبة: من صور الاستخلاف في الأرض
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
الأمر بالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله ثابت عند المسلمين:
يقول الله عز وجل في محكم التنزيل:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 244، 245]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36]، ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41].
أخرج البخاري في “صحيحه” (2892) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها”.
وعد الله للمجاهدين في سبيله في الدنيا والآخرة:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55] ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
أما الجزاء يوم القيامة وفي الجنة فحدث ولا حرج، منه:
﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154] ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169 – 171].
أخرج البخاري في “صحيحه” عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تكَفَّل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته، بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة”.
أخرج مسلم في “صحيحه” (1913) عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمِنَ الفتَّان”.
وأخرج أبو داود في “سننه” (2500)، والترمذي (1621)، وأحمد (23951)، من حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كل الميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتان القبرب.
وأحوال الناس مع هذا الأمر الواضح صنف من عدة أصناف:
صنف هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 74] ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 20].
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110].
صنف جاهدوا بأموالهم وأنفسهم:
وهذا الصنف أقل درجة من الصنف الذي قبله، قال الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 74، 75].
ولهم فضل عظيم، قال الله عز وجل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218].
وصنف قعدوا بغير عذر وفرحوا بهذا القعود:
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81-87].
وصنف معذورون وتأمل أسباب عذرهم وحالهم عند القعود:
﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 91 – 93].
تأمل قول الله عز وجل في الشرط، أن المعذورين السابقين ليس عليهم حرج بشرط: إذا نصحوا لله ورسوله، صلى الله عليه وسلم. كم كنت أتمنى أن يتسع الوقت والمجال للحديث عن النصيحة، فالحديث عنها طويل جليل، ولكن لعل هذا يكون في مقام آخر إن شاء الله.
أخرج مسلم في “صحيحه” (1908) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من طلب الشهادة صادقًا أعطيها ولو لم تصبه”.
وأخرج مسلم في “صحيحه” (1909) عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغَه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه”.
وأخرج مسلم في “صحيحه” (1910) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق”، قال ابن سهم: قال عبدالله بن المبارك: فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الغزو هو الخروج للجهاد في سبيل الله، وهو من كمال الإيمان وتمامه، وبالجهاد ترتفع كلمة الله، وينشر دينه، ويحفظ على المسلمين وحدتهم وقوتهم.
وفي هذا الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من مات ولم يغز”؛ أي: لم يخرج للجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل طوال عمره وحياته، “ولم يحدث به نفسه”؛ أي: لم يوجه همته إليه ولم يتمنَّ مباشرة الجهاد والغزو مع القدرة عليه، “مات على شعبة من نفاق”؛ أي: أشبه المنافقين المتخلِّفين عن الجهاد في هذا الوصف؛ فإن ترك الجهاد أحد شعب النفاق، ويحتمل إرادة النفاق الأكبر؛ لأن الذي لا يريد نصرة المسلمين منافق.
وهذا من الحث على الغزو وعلى تحديث النفس به، ويكون الغزو والحرب والجهاد لمن يستطيع، أما تحديث النفس لمن عجز عنه وحيل بينه وبينه؛ فإنه ينبغي أن يحدث نفسه به ويكون على نية الجهاد والغزو، بحيث إنه لو تيَسَّر له لفعله في أي وقت.
كما أن في الحديث تحذيرًا شديدًا من ترك الغزو إذا كان مستطيعًا وقادرًا عليه، ومن ترك تحديث النفس به لمن لم يكن مستطيعًا له.
أخرج مسلم في “صحيحه” (1911) عن جابر قال: ” كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقال: إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض”.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ لأصحابه فضل بعضهم على بعض، ويظهر فيهم مناقبهم، ويعذر مريضهم، ويعين ضعيفهم.
وفي هذا الحديث يخبر جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، وهي غزوة تبوك، كما وقع عند البخاري، وقد كانت غزوةً شديدةً قطع فيها الصحابة مسافات شاسعةً في الحر الشديد نصرةً لدين الله، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: “إن بالمدينة لرجالًا” ما شاركوا في الغزو، ولا خرجوا للجهاد، ولكن “ما سرتم مسيرًا”؛ أي: ولا مشيتم مسافةً أو طريقًا، “ولا قطعتم واديًا” وهو الأرض المنخفضة تقع بين الجبال، “إلا كانوا معكم”؛ أي: شاركوكم في الأجر والثواب، كما في الرواية الأخرى: “شركوكم في الأجر”؛ وذلك أن عدم خروجهم كان لأجل ما بهم من مرض منعهم من استطاعة السفر، فضلًا عن أن يشاركوهم في الحرب والقتال، وفي حكمهم الفقراء والضعفاء الذين لم يقدروا على الغزو لضعفهم، أو لعدم وجود زاد لهم أو دابة يركبونها، فكان لهم الأجر مثلكم؛ لنيتهم الصالحة، وهذا تمييز لهم عن المنافقين الذين يتخلفون عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بأعذار غير حقيقية خوفًا من الجهاد والقتال، واستثقالًا لمشقة وعناء السفر.
وفي الحديث: فضل النية في الخير، وأن الإنسان إذا نوى العمل الصالح، ولكنه لم يستطع القيام به لعذر؛ فإنه يكتب له أجر ما نوى.
آفة اللسان وكثرة الخوض والكلام:
أخرج الترمذي في “جامعه” (2616) عن معاذ بن جبل قال: “كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يومًا قريبًا منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على مَنْ يَسَّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؛ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل. قال: ثم تلا: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾ [السجدة: 16] حتى بلغ: ﴿ يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله. فأخذ بلسانه. قال: كُفَّ عليك هذا. فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم”.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
فليحرص كل واحد منا على ألا ينطق بلسانه إلا ما يرضي ربه عند لقائه، وأن يتفقد نيته، فإن النية تبلغ بالرجل المبلغ العظيم. أقول ما تسمعون، وإني أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم – قال الله عز وجل عنه في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
الاستخلاف في الأرض سنة قائمة ثابتة:
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، وقال الله تعالى: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26].
قال ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (35/ 42): وقوله عز وجل: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] يعم آدم وبنيه. “والخليفة ” هو من كان خلفًا عن غيره. فعيلة بمعنى فاعلة. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول: “اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل”؛ الحديث أخرجه مسلم في “صحيحه” (1342) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
وأخرج البخاري في “صحيحه” (2843) عن زيد بن خالد الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ جَهَّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا.
وفي القرآن: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ ﴾ [الفتح: 11]، وقوله: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 81].
والمراد “بالخليفة” أنه خلف من كان قبله من الخلق.
الاستخلاف في تولي أمور المسلمين:
والخلف فيه مناسبة كما كان أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خلفه على أمته بعد موته، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف على المدينة من يكون خليفة له مدة معينة، فيستخلف تارة ابن أم مكتوم وتارة غيره، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك.
الاستخلاف في قيادة الجيوش وفي الغزو:
أخرج البخاري في “صحيحه” (4261) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: “أمَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ قُتِل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر، فعبدالله بن رواحة، قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين؛ من طعنة ورمية”.
صدق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما عاهدوا الله عليه، فواصلوا الجهاد حسبةً لله، وإعلاءً لرايته، وبذلوا في ذلك النفس والنفيس، حتى فتح الله عليهم البلدان، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ففازوا بخيرَي الدنيا والآخرة.
وفي هذا الحديث يخبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عين زيد بن حارثة رضي الله عنه أميرًا على الجيش في غزوة مؤتة، وكانت في العام الثامن من الهجرة، وكان عدة المسلمين ثلاثة آلاف، وعدة الكافرين مئتي ألف: مئة ألف من الروم، ومئة ألف من نصارى العرب، وكان سبب هذه الغزوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه إلى ملك بصرى بكتاب، فمسكه وربطه، وضرب عنقه، وبصرى تقع في منطقة على أطراف الشام، وهي تقع اليوم ضمن حدود الأردن لتضم عمان، والزرقاء، ومأدبا، والسلط، فاشتد الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس للقتال، وأوصاهم: إن قتل زيد بن حارثة رضي الله عنه، فجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يتولى القيادة بعد استشهاده، ويكون أميرهم، وإن قتل جعفر رضي الله عنه، فعبدالله بن رواحة رضي الله عنه يتولاها من بعده.
فلما وقعت المعركة قتل هؤلاء الثلاثة على الترتيب المذكور، وذكر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان موجودًا في تلك الغزوة، فبحثوا عن جعفر بن أبي طالب، فوجدوه بين القتلى، ووجدوا في جسده بضعًا وتسعين؛ من طعنة برمح، ورمية بسهم، والبضع هو العدد من ثلاث إلى تسع.
ولما مات الثلاثة الذين عينهم النبي صلى الله عليه وسلم لقيادة الجيش، تولى بعدهم خالد بن الوليد رضي الله عنه دون أن يعهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بالإمارة بها، حين رأى المصلحة في ذلك، فانحاز خالد رضي الله عنه بجيش المسلمين- أي: تركوا مراكزهم- يتجهَّز بهم للانسحاب؛ حفاظًا على قوة وعتاد المسلمين، وقابل جيش الروم انسحاب المسلمين بانسحاب منهم أيضًا على كثرة عددهم وعدتهم؛ وذلك أن جيش المسلمين قد أثخن فيهم القتل والجراح؛ فقد ورد في البخاري: أن خالدًا رضي الله عنه قال: “لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية”، فانصرف خالد رضي الله عنه بالناس، فتمكن من الانسحاب بمن معه من المسلمين، فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فتحًا وانتصارًا.
أخرج البخاري في “صحيحه” (4262) عن أنس رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب. وعيناه تذرفان: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم”.
الاستخلاف سنة قائمة، ويجب أن نتجهز لها:
كل جيل يجب أن يقوم بما عليه، فلا تقف الدعوة والدين على أحد، ويجب على كل جيل أن يعد الجيل الذي بعده، وعلى كل قائد أن يعد القائد بعده، فكما قلنا: الاستخلاف سنة ماضية، ونحن مسؤولون عما قدمنا.
فائدة في الصلاة على الميت الغائب:
ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أصحابه يوم مات النجاشي ملك الحبشة رحمه الله، فنعاه لهم، وصفهم وصلى عليه صلاة الجنازة.
أخرج البخاري في “صحيحه” (1245) عن أبي هريرة رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعًا”.
فهذا الحديث دليل على مشروعية الصلاة على الغائب، إلا أن بعض العلماء كالحنفية والمالكية قالوا: إن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلا تشرع صلاة الغائب لغيره.
وقد رد جمهور العلماء ذلك بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صحيح، والأصل: أن الأمة مأمورة بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به.
وقد اختلف العلماء القائلون بمشروعية الصلاة على الغائب، هل تشرع الصلاة على كل غائب أم لا؟ وكلهم يستدل بصلاة النبي صلى عليه وسلم على النجاشي.
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه تشرع الصلاة على كل غائب عن البلد، ولو صلي عليه في المكان الذي مات فيه.
والقول الثاني: أنه تشرع الصلاة على الغائب إذا كان له نفع للمسلمين؛ كعالم أو مجاهد أو غني نفع الناس بماله ونحو ذلك، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، واختارها الشيخ السعدي وبه أفتت اللجنة الدائمة.
والقول الثالث: أنها تشرع الصلاة على الغائب بشرط ألا يكون قد صلي عليه في المكان الذي مات فيه، فإن صلي عليه فلا تشرع صلاة الغائب عليه. وهذا القول رواية أخرى عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومال إليها من المتأخرين: الشيخ ابن عثيمين.
وأعدل الأقوال في هذه المسألة قولان:
الأول: أنه لا يصلى إلا على من لم يصل عليه.
والثاني: أنه يصلى على من له منفعة للمسلمين؛ كعالم نفع الناس بعلمه، وتاجر نفع الناس بماله، ومجاهد نفع الناس بجهاده، وما أشبه ذلك، والله أعلم.
الخاتمة:
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عَدْل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همنا وغمنا.
اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألقِ في قلوبهم الرعب، وألقِ عليهم رجزك وعذابك، إله الحق. اللهم عليك باليهود المعتدين، والصهاينة الظالمين، اللهم سَلِّط عليهم جندك، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم طال البلاء على أهل غزة، اللهم فالطُفْ بهم، وأنزل عليهم رحماتك، وارفع البلاء عنهم، وتولَّ أمرهم، وأطعم جائعهم، واكْسُ عاريهم، واشْفِ مرضاهم وجرحاهم، وتقَبَّل شهداءهم، يا رب، لا تَكِلْهم إلى أنفسهم، ولا إلى أعدائهم.. فمن غيرك يرحمهم وأنت أرحم الراحمين، يا رب أنت اللطيف الخبير، وأنت على كل شيء قدير، انصرهم على أعدائهم، فأنت مولانا ومولاهم، نعم المولى ونعم النصير، ربَّاه تجاوز عنا وعن تقصيرنا في حقِّهم، ولا تؤاخذنا بما يقول السفهاء منا.
اللهم انصر إخواننا في غزة، وفي كل ديار المسلمين، واربط على قلوبهم، وأنزل عليهم من رحماتك، اللهم داوِ جَرْحاهم، واشْفِ مرضاهم، وتقَبَّل شهداءهم، اللهم إنهم إخواننا، قد ظلموا بغير حق، وأخرجوا من ديارهم بغير حق، اللهم انتصر لهم، واربط على قلوبهم، وردَّهم إلى ديارهم، ومساجدهم سالمين آمنين.
اللهم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا رب السماوات والأرض، يا من بيده مقاليد الأمور، نسألك أن تنصر إخواننا على عدوِّك وعدوِّهم وعدونا نصرًا عزيزًا مؤزرًا. اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، واجعل الدائرة تدور على أعدائهم وأعوانهم. اللهم ارفع الحصار عن إخواننا، واجعل ديارهم وأوطانهم آمنة مطمئنة، اللهم انصر إخواننا، وارحم شهداءهم، واشف جرحاهم، وفكَّ أسراهم، واحفظهم من كل مكروه وسوء.
اللهم إنا نسألك باسمك القهار أن تقهر من قهر إخواننا، ونسألك أن تنصرهم على القوم المجرمين. اللهم بارك جهاد المجاهدين في كل أرض المسلمين، وأيِّدهم بجنودك ونصرك يا قوي يا كريم. اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم من كان من والدينا حيًّا، فأطل عمره في طاعتك، ومُنَّ عليه بالصحة والعافية وحسن الخاتمة، ومن سبقنا منهم إليك، فاغفر له ذنبه، ووسِّع له في قبره مد بصره، وآنس وحدته ووحشته.
اللهم رَبِّ لنا أبناءنا، وأصلح نساءنا، واهْدِ بناتنا، وارزقهن العفاف، ووفق المسلمين لكل خير وبر.
وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.