من قلب الزمن الجميل.. ذكرياتي مع أستاذي الجليل
من قلب الزمن الجميل
ذكرياتي مع أستاذي الجليل
مهما حاولنا النسيان، إلا أن الذكريات تبقى محفورةً داخلنا، تذهب بنا إلى عالم جميل، نتذكر فيه أجمل اللحظات، حتى وإن كانت مؤلمة، يبقى لها رونق خاص بالقلب، فقد تجمعنا الدنيا بأشخاص، أو قد نمر بأماكن لم نعتبرها في بداية الأمر مهمةً، ولكن عند الابتعاد والفراق نشعر بقيمتها، ومدى تأثيرها.
ذكريات حفرناها داخل أعماقنا، وصور حفِظناها في عيوننا، وحنين حبسناه داخلنا، وأشواق باتت فينا متلألئة، ودٌّ مُفعم بالحب لا يمكن أن نخفيه فينا، لا يستطيع إنسان أو أي قوة في الوجود أن تمحو هذه الذكريات تمامًا.
أعود بأفكاري للزمن الجميل، وأرجع بإحساسي إلى الماضي الجليل، أُفتش بين ثنايا الضحكات عن سعادتنا، وتأخذني المشاعر الدافئة إلى أحلامنا، وأرى الثواني تمضي من أمامنا، ولا تزال نفس المشاعر فينا، دفاترنا ما زالت مملوءة برسم طفولتنا، ومقاعدنا ما زالت تحوي دفء حكاياتنا.
الذكريات هي التي تفرض نفسها وقتما تشاء، وتنشط داخل القلب حيث تريد، نسير في دروبنا التي مشيناها أيام صبانا، ونتساءل: متى نعود لأفراحنا؟ ومتى نتخلى عن أتراحنا؟ ومتى نحقق أحلامنا؟ ومتى نسمع صدى ضحكاتنا؟
أستاذي الجليل، كنت أحب أن أسمعه وهو على المنبر، كنت أمشي ثلاثة كيلومترات حتى أصل إلى المسجد الذي يخطب فيه، واليوم الذي لا أجده كنت أصاب بالإحباط، كنت أستمتع بأسلوبه الراقي، وإلقائه الرائع، وعلمه الغزير.
أستاذي الكبير: في عام ستة وثمانين وتسعمائة وألف كان مديرًا لمدرسة بسنتواي، وكان أول تعييني مدرسًا هناك، في نفس العام حرر لي خطابًا أن أكون مسؤولًا بدلًا منه على المدرسة، كان ينتدب عددًا من القدامى، إلا أنه في هذا اليوم انتدبني رغم حداثة عملي بالمهنة، كم كانت سعادتي رغم أنه لا تربطني به أي صلة! ومن فخري واعتزازي لا زلت أحتفظ بهذا الخطاب حتى الآن.
معلمي الغالي: ذهبت إليه أستشيره في مسألة تخصني، كان أول لقاء به في بيته، كان ذلك في الثمانينيات، وكنت متوترًا قلِقًا، إلا أنه أراحني وطمأنني بمشورته؛ حيث قال: ربما أصابك شيء من الظلم، لكنه أفضل من أن تكون ظالمًا، ارضَ بالأمر وسيعوضك الله، بعد أن سرد لي الآيات والأحاديث، وسمعت له ورضيت بمشورته، وقبِلت نصيحته، فكانت أفضل نصيحة لي في حياتي، وعوضني الله تعالى بالكثير والكثير، فالحمد لله والفضل لله، ثم له.
أستاذي الفاضل: في أول التسعينيات أرسلت له أطلب يد ابنته، رد عليَّ الذي أرسلته قائلًا: كان أول ما قال لما عرضنا عليه الأمر: “((إذا جاءكم من ترضَون دينه وخُلُقه، فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض))، ونحن رضينا به نسبًا وحسبًا ليتفضل”.
وكانت هذه الكلمات بمثابة النور الذي أضاء حياتي، والفرحة التي غمرتني إلى أخمص قدمي.
تقدمت وقبلت وكان الأمر سهلًا بسيطًا، لم يستغرق إلا شهرًا وثلث الشهر، وكانت ابنته أم عمرو زوجتي في بيتها الجديد.
كان يحب التيسير والبساطة، وكان يتصف بالشهامة والشجاعة، وكان الكرم كله والإيثار، تشرفت بنسبه أي شرف، وفرحت معه أي فرح.
حماي العزيز: من أجمل الأيام وأحلى الأوقات لما كان ينتدبني لأكون مكانه على المنبر، كان يشجعني ويقيمني، ويعلمني ويرشدني، وكان هذا مصدر فخر لي مدى حياتي، ثم كان الأجمل عندما نعود إلى البيت بعد الانتهاء ونجلس على المائدة بعيدًا عن مثلث الشر؛ حيث خيرات الله مما يحبه هو، وبالتبعية مما أحبه معه، كنت مشتركًا معه بالفطرة في كثير من الأشياء الرائعة.
والد زوجتي الكريم: لما سافرت أنا وابنته زوجتي الغالية، وابننا البكر، عام أربعة وتسعين وتسعمائة وألف، كان يخصص لنا ورد يدعو لنا بالحفظ والتوفيق والبركة، وفعلًا استجاب ربي لكل دعواته، حفظنا ووفقنا، وبارك لنا في أرزاقنا، فلله الحمد والشكر، وله العفو والمغفرة والرحمة، ولما رجعنا من السفر، ذهبت لأبي وأمي وإخوتي، وفي اليوم نفسه بعد أقل من ساعة، ذهبت إليه في بيته؛ لأعانقه وأُطَمْئِنه، وكنت أقصد أن أبرَّه كما أبر والدي تمامًا، وأُجِلَّه كما أُجِلُّ والدي كذلك، وأقدره كما كنت أقدر أبي، أسأل الله أن يتقبله وأبي في الصالحين.
والدي الغالي: استدعاني في يوم ليقول لي بعض الأمور الخاصة، وفي طيات الكلام استشعرت أنه لا يحب ألَّا يُغضب أحدًا، كان حريصًا أن يكون متسامحًا مع كل من حوله، متوددًا لكل من يعرفه، لطيفًا مع الكبير والصغير.
حبيبي الغالي: زُرْتُه في آخر عهده بهذه الدنيا؛ الأربعاء، قال لي: اجلس يا أبا عمرو بجواري، جلست وقرأت بعض آيات القرآن، وبعض آيات الشفاء، إلا أنني شعرت بالقلق، وما كان لي إلا أن أتمسك بالأمل، وأدعو الله له بالشفاء.
آخر يوم له في الدنيا ٨/٢/٢٠٢٣: كان في المشفى، أجرى تحاليل لم تكن إيجابية إلا في هذا اليوم، وكان في أحسن حالاته، قرأ آية الكرسي، وقرأ الفاتحة ثلاث مرات، ثم قال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم أسلم روحه لباريها، واسترد الباري أمانته، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لفراقك يا غالي لمحزونون.
إننا لا نعرف القيمة الحقيقية للحظات العمر إلا بعد أن تغيب في أعماق الذاكرة، قد نغيب كالغروب، وقد يلهينا الزمن، ولكن لا تزول منا ذكريات عشناها بكل مشاعرنا.
وهكذا؛ فإن ذكرياتنا الجميلة نور نستضيء به في القادم من أيامنا؛ لذلك لا بد أن نكتبها في مفكرتنا حتى لا ننساها، أما الذكريات الصامتة بين القلب والعقل، والتي تكسر القلب وتضني العقل، قد تأخذنا بعيدًا، وإلى حيث لا نعلم في زحمة الحياة، ولكن رغم هذا وذاك، تبقى الذكرى الطيبة بالنفس، وتبقى اللحظات الجميلة بالروح؛ لذلك لا نندم على ذكرى عشناها، حتى لو صارت ذكرى تؤلمنا، فإن كانت الزهور قد جفت، وضاع عبيرها، ولم يبقَ منها غير الأشواك، لا تنسى أنها منحتنا يومًا ما عطرًا جميلًا.
والدي العزيز: الحاج عبدالعظيم الأنصاري: كنت تحب التعاون على البر لا على الشر، والتناصح بالهدى لا بالضلال، والتناصر بالحق لا بالباطل، فلك مني عهد مهما طال الزمن أو قصر، مهما صدق الوافي أو نكر، مهما قل الحزن أو كثر، مهما اشتد الألم أو قهر، ستظل يا أستاذي للدنيا نورًا، ستظل يا شيخي في قلبي حياة، و يبقى – كذلك – نبض القلب لا ينسى الأحبة، نتذكر ونسترجع تلك الذكريات الجميلة؛ لكي نعرف قدر من نحب، ومكانة من نصاحب، ويتضح لدينا بصورة أكثر مما كنا نتوقع.
إنها لحظة وفاء وزهرة ثناء.
رحمك الله يا أستاذي رحمة واسعة، أسكنك الله الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.