من هم أشد كفرا ونفاقا؟


من هم أشد كفرًا ونفاقًا؟

 

﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 97]، والمقصود بالأعراب “أهل البادية”[1]، وفي ذلك تحذير شديد للمؤمنين أن ينتبهوا لأخلاق الأعراب بوجه خاصٍّ؛ وذلك أن كفرهم ونفاقهم أشدُّ من كفر ونفاق عرب الحضر، ويُعزى ذلك “لتوحشهم وقساوتهم، وعدم مخالطتهم لأهل العلم، وقلة استماعهم للكتاب”[2]؛ قال ابن عاشور: “لفظ (الأعراب) للاهتمام به من هذه الجهة؛ أي تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب؛ لأنهم لبُعدِهم عن الاحتكاك بهم، والمخالطة معهم، قد تَخْفَى عليهم أحوالهم، ويظنون بجميعهم خيرًا”[3].

 

وسبب أنهم أجدر ألَّا يعلموا حدود الله أنهم لم يَسُسْهُم أحدٌ، بل تعودوا على الانطلاق في الصحراء والترحال؛ فحياتهم قاسية، جعلت في طبعهم الجفاوة وعدم الانضباط، أخلاقهم أخلاق الجِمال، وليس معنى ذلك أنهم لا ينضبطون؛ فإنًّه “وإن كان الإيمان يُعدِّل من هذه الطباع، ويرفع من تلك القيم، ويصلهم بالأفق الوضيء المرتفع على الحسية”، ولكن ذلك وإن لم يكن مستحيلًا، إلا أن الجهد المبذول لتجنيدهم أشد من تجنيد غيرهم، وتعويدهم على الطاعة كذلك أصعب من تعويد غيرهم، وهكذا، فهم لا يصلحون لأن ينضووا تحت لواء المجاهدين، وإن جاز الاستعانة بهم، “من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن”[4]؛ قال المناوي: “(من بدا جفا)؛ أي: من قطن البادية صار فيه جفاء الأعراب، (ومن اتبع الصيد غفل)؛ أي: من شغل الصيد قلبه، ألهاه وصارت فيه غفلة، (ومن أتى أبواب السلطان افتتن)؛ لأن الداخل عليهم إما أن يلتفت إلى تنعمهم فيزدري نعمة الله عليه، أو يهمل الإنكار عليهم فيفسُق”[5].

 

فالبدوي يحتاج إلى الجِمال في ترحاله، فهو كثير الترحال، والجِمال تحتاج لمعاملة خاصة، فهو حيوان حقود، إذا غضِب من شيء فإنه يكتم غضبه، لكن لا ينسى الإساءة مطلقًا ويخزن، حتى يأتي الوقت المناسب فينتقم حينها، والجمل إذا اغتاظ أو غضب، فإنه يتحول إلى وحش كاسر، وهو في الأحوال العادية سهل سَلِس الانقياد، لكنه إذا اغتاظ أو غضب، فإنه سيتحول إلى وحش كاسر حقيقة، ولما كانت الإبل أكثر مخالطة للبدو في الصحراء، فإنه كثيرًا ما يتخلق بأخلاقها ويغدر مثلها.

 

قال الرازي: “والسبب فيه وجوه: الأول: أن أهل البدو يشبهون الوحوش، والثاني: استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يُوجِب مزيد التِّيه والتكبُّر، والنخوة والفخر، والطيش عليهم، والثالث: أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدِّب، ولا ضبط ضابط، فنشؤوا كما شاؤوا، ومن كان كذلك، خرج على أشد الجهات فسادًا، والرابع: أن من أصبح وأمسى مشاهدًا لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبياناته الشافية، وتأديباته الكاملة، كيف يكون مساويًا لمن لم يؤاثر هذا الخير، ولم يسمع خبره”[6].

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألَا إن القسوة وغِلَظَ القلوب في الفدَّادين[7] عند أصول أذناب الإبل؛ حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر))[8]، والفدادين: أصحاب الحروث والمواشي[9]، أو الإبل الكبيرة[10]؛ قال ابن حجر: “الفدَّادين هم أصحاب الإبل الكثيرة من المائتين إلى الألف، وقال أبو العباس: الفدادون هم الرُّعاة والجمَّالون”[11].

 

وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ها هنا جاءت الفتن نحو المشرق والجفاءُ، وغِلَظُ القلوب في الفدَّادين، أهلِ الوبر عند أصول أذناب الإبل والبقر في ربيعة ومضر))[12]، يقصد الخيانة وأنهم لا ينضبطون في جيش؛ قال الخطابي: “إنما ذمَّ هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم عليه عن أمور دينهم، وتلهيهم عن أمر الآخرة، وتكون منها قساوة القلب، والمراد بالفدَّادين “ضد أهل المدر فهو كناية عن سكان الصحارى”[13].

 

أهل الوبر (سكان الخيام)، الفدَّادون (رعاة الإبل) يتخلقون بقسوتها، أهل المدر بيوتهم من طين، ولا يرتحلون.

 

قوله: “أهل الوبر”؛ أي: ليسوا من أهل المدر[14]؛ لأن العرب تعبر عن أهل الحضر بأهل المدر وعن أهل البادية بأهل الوبر[15]، وقوله: (وربيعة ومضر) قبيلتان يرجع إليهما نسب أكثر العرب، ولا خلاف في نسبتهم إلى إسماعيل عليه السلام[16]؛ يقول الحافظ ابن حجر: “والذي يظهر أنها من جهة ذكر ربيعة ومضر؛ لأن معظم العرب يرجع نسبه إلى هذين الأصلين، وقريش الذين بُعِثَ فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أحد فروع مضر”[17].

 

 

 

فهذا هو الأقرع بن حابس سيد بني تميم، من أعراب البادية؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسنَ بنَ عليٍّ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد، ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم))[18]، لِمَ لا وقد اشتهر عندهم في الجاهلية وأد البنات؟ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبِّلون الصبيان، فما نقبِّلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة))[19]، وحاصل المعنى لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه[20].

 

وفي ذلك إيماءة لطيفة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجاوز وأصحابه فتح مكة، وخضعت له الجزيرة العربية، وقد شرع بعد في غزو الروم، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، فإن الله تعالى بشَّره بأن ما قضاه من جهد في جهاد هؤلاء العرب أشد مما سوف يبذله هو وأصحابه في جهاد الروم، ولعل الله تعالى يُخرِج من أصلابهم مَن ينصر هذا الدين، مثلما فعل أهل المدينة المنورة، وهو ما شرح صدر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى جهاد “الطلب”، واشرأبَّت له نفوسهم، ففتح أبناء هؤلاء البدو بعدما أسلم آباؤهم مع صحابة رسول الله والتابعين كثيرًا من البلدان في عهد عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وذلك لما اختلطت أنسابهم، وتخلَّقوا بروح الإسلام.


[1] أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري، ج: 2، ص: 101، أبو حيان، البحر المحيط، ج: 6، ص: 226، التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، ج: 1، ص: 625.

[2] البحر المديد، ج: 2، ص: 439.

[3] التحرير والتنوير، ج: 10، ص: 186.

[4] رواه الطبراني في المعجم الأوسط، ج: 1، ص: 175، رقم: 556، وصححه الألباني: السلسلة الصحيحة، ج: 3، ص: 267، رقم: 1272، الجامع الصغير من رواية ابن عباس 1/ 1125، 1/ 1107 رقم: 11069.

[5] التيسير بشرح الجامع الصغير، ج: 2، ص: 788.

[6] تفسير الرازي، ج: 8، ص: 125.

[7] وهم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم، يُقال: فدَّ الرجل إذا اشتد صوته؛ [النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 419)].

[8] رواه البخاري، ج: 11، ص: 81، رقم: 3057.

[9] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، ج: 23، ص: 90.

[10] شرح الزرقاني، ج: 4، ص: 479.

[11] فتح الباري لابن حجر، ج: 6، ص: 352.

[12] رواه البخاري، ج: 11، ص: 317، رقم: 2327.

[13] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، ج: 23، ص: 90.

[14] فالمدر هي البيوت المبنية من طين يابس، وأهل المدر هم أهل البيوت المبنية من الطين اليابس، فلا يرتحلون كأهل الوبر.

[15] فتح الباري لابن حجر، ج: 6، ص: 352.

[16] فتح الباري لابن حجر 6/ 542، عمدة القاري للعيني 16/ 81.

[17] فتح الباري، ج: 6، ص: 531.

[18] رواه البخاري، ج: 18، ص: 403، رقم: 5538.

[19] رواه البخاري ج18 ص 404 رقم 5539

[20] بدر الدين العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج32 ص 178





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الحج والحقوق
شرح جامع الترمذي في السنن (باب ما جاء في الصلاة الوسطى أنها العصر وقيل إنها الظهر)