نحو اقتصاد مبني على مصادر الطاقة
نحو اقتصاد مبني على مصادر الطاقة
يمرُّ العالم بمنعطف جديد حرج؛ فالمجاعات والأوبئة والحروب لم تتح طوال قرون سوى ازدياد بطيء في عدد سكان العالم، والحال أن إنجازات العلم والتكنولوجيا، وما ينجم عنها من نمو اقتصادي، تشجع منذ عدة عقود من السنين ازديادًا سكانيًّا بلغ حدًّا من السرعة بحيث يحتمل أن يتضاعف عدد البشر من الآن وحتى ثلاثين أو أربعين سنة، وهذا التضاعف المتصل بارتفاع معدل متوسط الحياة أمر لا مفرَّ منه.
فلماذا لم تبدأ خطورة المشاكل المتصلة بأهمية الموارد الطبيعية بالظهور إلا منذ بضع سنوات؟ إن هناك تقارير ودراسات عديدة كان ينبغي لها أن تلفت الأنظار إلى هذه الأمور، ونذكر منها بوجه خاص Resources for Freedom وأحدث منها Resources and Man (1969) وقد انتشرت هذه الدراسات بصورة أساسية في الأوساط المتخصصة من التكنولوجيين، وعلماء الاقتصاد، وبين السياسيين إلى حد ما، بدون أن تتغلغل في طبقات أخرى من الجمهور. وفي عام 1972 نشر تقرير ((وقف النمو)) من أجل الرأي العام العالمي، وهو ثمرة أعمال مجموعة من العلماء من مختلف الفروع استخدموا طرائق مجددة. وقد أثار هذا الكتاب اهتمام الجمهور بمشاكل المستقبل، فكان له تأثير تجاوز كثيرًا آمال مؤلفيه. والفكرة القائلة بأننا نعيش في كوكب محدود، ذي موارد محدودة، تحرز تقدمًا بين معظم الذين أعاروها بعض الاهتمام.
يقول دينيس غابور في كتابه الخروج من عصر التبذير: إن مجتمعنا الصناعي الاستهلاكي قد استغل دونما رويَّة الموارد المعدنية غير القابلة للتجديد والسهلة المنال، وخرب مساحات من الأرض كانت من قبل خصبة. وبتلويثنا الهواء والماء عرضنا الحياة للخطر وقتلناها في أكثر من مكان.
إن على المجتمع ((المتوازن)) أن يوفر مستوى عيش مرضيًا على الصعيد المادي بدون أن يعرض نوعية العيش للخطر. وإن رفاهية هذا المجتمع ونموه لا يمكن أن يكونا مضمونين إلا إذا استغلت الهيئة الاقتصادية الموارد الطبيعية استغلالًا أكثر ذكاءً وبالانسجام مع الطبيعة.
فينبغي أن يتحول الاتجاه إذن نحو اقتصاد مبني، بقدر الإمكان، على مصادر للطاقة لا تنفد عمليًّا، وعلى استخدام المواد الأوليَّة المتوفرة بكثرة أو القابلة للتجديد، وعلى إعادة تصنيع مستمرة للمواد النادرة، وعلى إدارة ذكية للموارد الغذائية ولنوعية البيئة، وعلى تكنولوجيات منخفضة القوة في الطاقة وفي المواد.
ولبلوغ هذه الأهداف ينبغي علينا بمنتهى السرعة أن نصلح المؤسسات على المستويين الوطني والدولي، وأن نغير حياة المجتمع وأسلوبه وظروف عمله، وأن نغير على المدى البعيد سُلَّم القيم فيه.
وأخطر مشكلة إنما تتعلق بالمرحلة الانتقالية. فمن الأساسي تجنب الظواهر المؤذية أثناء انتقال المجتمع من النمو المستمر غير المنضبط إلى حالة التوازن. ولكي نتلافى وقوع تحوُّل مقلق جدًّا في المؤسسات والهيئات الاقتصادية والصناعية، علينا أن نواجه في الوقت المناسب المشاكل الحرجة المقبلة على البشرية.
ولا تستطيع البشرية حل هذه المشاكل الكثيرة بدون تصحيح العيوب التي تشوب تصرفات جهاز اتخاذ القرار في المجتمع. ووجود هذه المشكلة يرجع هو نفسه إلى عجزنا عن إنشاء جهاز ملائم للعصر التكنولوجي؛ مما يحدونا إلى دراسة الأسباب الكامنة وراء هذا الإخفاق.
إن أعظم الموارد شأنًا إنما ترتبط بالتغذية، وبالطاقة، وبالمواد الأولية. والمشاكل التي تحيق بالتزوُّد بها متشابكة تشابكًا شديدًا. وبحسب بعض التقديرات المتفائلة يمكن حل هذه المشاكل في حدود البنية الحالية لاقتصاد الأسواق والتكنولوجيا ولكن ليست الحال كذلك ولا ريب.
والعلم والتكنولوجيا أداتان نفيستان لمواجهة وحل المشاكل الخطيرة التي تطرحها محدودية الموارد. ومع ذلك، علينا أن نعترف بأن بنية النظام الاقتصادية الحالية لا تتيح الإتيان بحل سريع لبعض المشاكل الملِحَّة.
والواقع أن المشكلة بقيت، من الناحية العملية، غير مقدرة حق قدرها، ومن ثمَّ فإن أعمال البحث التي كان يمكن أن تمكننا من مواجهة أزمة الطاقة في فترة أقل صعوبة لم يباشر بها في وقت مبكر.
إن المشاكل المرتبطة بالطبيعة المحدودة للموارد الطبيعية هي ذات طابع دولي. فلكي يكون حلها ممكنًا، من الضروري أن تعترف جميع بلدان العالم بأنها مترابطة فيما بينها وأن تقبل بأن تعامل كعناصر في منظومة واحدة. ومن المؤسف أن الهيئات السياسية الحالية في بعض الدول تنقصها أجهزة اتخاذ القرارات والبنى المؤسسية الفعالة ضمن المنظومة العالمية. وهذا ما يعلل الصعوبات التي تظهر في استخدام وتوجيه جهود واسعة من التعاون الدولي في باب العلم والتكنولوجيا.
إن لدى مجتمعنا نزعة واضحة إلى تبذير الموارد الطبيعية، في مجال الطاقة وفي مجالي المواد الأولية والسلع الغذائية على حد سواء. وهذا التبذير يعزى إلى حد كبير إلى التكنولوجيات المستعملة، حتى أكثرها تقدمًا.
وعواقب هذا الاتجاه بدأت بالظهور على صعيدين:
• صعيد البيئة التي تميل إلى التدهور في عدة مناطق من العالم، وبخاصة في البلدان الصناعية.
• صعيد الموارد التي راحت تقل، ومن هنا كانت الضغوط الواضحة على أسعارها لقد أصبح ضروريًّا والحالة هذه تخفيف التبذير من أجل إطالة أمد جاهزية الموارد الطبيعية والحد من اضطرابات المنظومة البيئية.
لذا يجب النظر إلى تخفيف التبذير كواحد من الجوانب المهمة في إدارة الموارد، وأن يدرج في الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لجميع البلدان.
كما أن التبذير الطائش للموارد الذي هو من مميزات المجتمعات الأكثر تصنيعًا يجب أن يُعاد النظر فيه حتمًا. ففي جميع قطاعات الاقتصاد، يمكن- بلا ريب- إجراء تخفيض كبير في استهلاك الوحدة الإنتاجية من الموارد الطبيعية بدون أن يؤدي ذلك إلى تدني نوعية العيش أو مستواه.
وحقيقة الأمر فإن التبذير يبدو وكأنه نتيجة ملازمة لمميزات عصرنا الاقتصادية والثقافية. فلكي تحقق البشرية مزيدًا من التقدم عليها أن تخرج من عصر التبذير.