نظام الوراثة في الإسلام (خطبة)
نظام الوراثة في الإسلام
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمَده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 ـ 71]، أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخيرُ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، اقتضت حكمةُ الله جل وعلا أن مَن عاش من بني آدم فلابد له من موت وفناء، إنه قضاءٌ وقدر.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامتُه يومًا على آلةٍ حَدباء محمولُ
|
فقد حكم الله علينا جميعًا بالفناء والإبادة، فقال الله: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ [الرحمن: 26].
وقال: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185].
لكلِّ شيءٍ إذا ما تَمَّ نقصانُ فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسانُ هي الحياةُ كما شاهدتها دولٌ مَن سرَّه زمن ساءَته أزمانُ
|
هذه حقيقة يجب علينا أن نتأمَّلها، وأن نكون مُدركين لها، وليس الحديث عن المصرع الأخير، ومَثوى المؤمن الانتقال من هذه الدار إلى دار الجزاء، وإنما أردت ذلك توطئةً وتمهيدًا؛ ليكون الكلام على أمرٍ آخر، وهو ما يتعلق بنظام الميراث في الإسلام، هذا أمرٌ من الأهمية بمكان، ففيه قوامُ الأُسر والمجتمعات، وفيه إزالةُ الضغائن والأحقاد أردت أن أبيِّن أن العبد إن انتقل من الدنيا يكون قد وَرِث العبد منهم ميراثًا، وخلَّف ثروةً هائلة لطالَما جمعها، فلا بد أن يكون تاركًا لها؛ كما قال الله: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ [الأنعام: 94]، فهذا المتروك الذي يتركه العبد يوم أن يَفِدَ إلى الله وحيدًا فريدًا كما قيل:
تجرَّد من الدنيا فإنك إنما خرجتَ إلى الدنيا وأنت مُجَرَّدُ
|
وهكذا يعود العبد مجردًا اللهم إلا قطعة من القماش الأبيض، وربما كان صدقة من المحسنين، كما قد حصل لكثير من الناس الذين كانوا يمتلكون الثراء والملك، ولكنهم لم ينتفعوا به آخر المطاف، فلابد أن يكون ترك شيئًا، فهذا المتروك كيف يكون تقسيمه، وكيف يكون الأمر فيه؟ هل للعباد أن يدخلوا في ذلك بالأهواء، أو أن يكون ذلك راجعًا إلى الأمزجة، أو على حسب ما يريده الناس، كل هذا لا واحد يَصلُح لذلك، فلقد بيَّن الله جل وعلا وفصل في ذلك أيما تفصيل يوم أن بعث محمدًا سيد الأولين والآخرين، بعَثه بشريعة غرَّاء وبمنهاج مفصل؛ قال الله: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12]، فصَّله الله وبيَّنه أعظم بيان، وقال سبحانه: ﴿ إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9] قبل أن يكون هذا التفصيل والبيان كان الناس قبل الإسلام يعيشون في وباء وشقاء في كل المستويات، ومن ذلك فيما يتعلق بتوزيع الثروة والمال، فكان القوي هو الذي يأخذ التركة، وتُحرم المرأة والأطفال، فلا يعطون من الميراث شيئًا، وإن كانوا مستحقين، لذلك يعيش الأطفال فقراءَ أيتامًا، وتعيش المرأة أرملة مستعبدة من قِبَل الأقوياء، فإنهم كانوا يقرؤون في قواميسهم الجاهلية أن من كان قويًّا عزيزًا كان له استحقاق في المال، من أقرى الضيف ونازل الأبطال، هو الذي يحوز المال على حد قولهم:
لا يَندبون أخاهم حين يَطلُبهم في النائبات إلى ما قال برهانًا
|
فمن كان من الأقوياء أخذ المال وترك الآخرين يعيش في فقرٍ وضَعف ومَهانة وذِلَّة، فجاء الإسلام وقضى على هذه الجاهلية الجهلاء، وبيَّن الله أن ذلك من الضلالة بمكان، فقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
كانوا يعيشون في ضلالات كثيرة، ومن تلك الضلالات والجهالات: عدم إعطاء أهل الحقوق حقوقَهم، وقد يُعذرون للقرون المتفاضلة بين زمن المسيح عيسى ابن مريم وبَعثة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن ما هو عذر المسلمين وهم يعيشون بعد البَعثة النبوية، وقد تجاسَر الكثير، أو تجاهَل الكثير يدخلون في ذلك ظالمين لأرحامهم، فيما يتعلق بالميراث والله جل وعلا أرحمُ بعباده من أنفسهم، وهو أرحم بالأبناء من الآباء وبالآباء من الأبناء؛ يقول الله: ﴿ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ﴾ [النساء: 11].
فالله هو الذي يعلم أنت لا تعلم أيها المسلم، فالله بيَّن وفصَّل في ذلك تفصيلًا، وجعله نظامًا تولَّى قسمته من السماء السابعة.
كانت الشريعة كلها وحيًا يوحى مِن قِبَل الأمين جبريل إلى أمين أهل الدنيا محمد صلى الله عليه وسلم في كثير من التشريعات، إلا ما يتعلق بالحقوق، فبيَّن الله ذلك كله، وجعله في ثلاث آيات من القرآن الكريم، اشتملت على كل الفرائض، فبيَّن الله ميراث الأبوين وميراث الزوجة أو الزوجات، وميراث البنت أو البنات، وميراث الأخت والإخوة والصغار والكبار، وأشار إلى ما يتعلق بالعصبات، كلُّ ذلك في كتاب الله، لا يجوز لمسلم أن يردَّ أمرًا قضاه الله، ولذلك كانت المحاكم والقضاة، فما كان القُضاة يديرون القضاء والأحكام في محاكمهم إلا بهذا البيان الذي عناه الله بقوله: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11]، ثم بيَّن الله ميراث الزوجة أو الزوجات، فقال: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12].
فهذه هي آيات المواريث اجتمع فيها كلُّ الأنصبة، وما يتعلق بتوريث الآباء والأبناء والبنات والأخوات، هذا أمرٌ قضاه الله خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية.
روى الإمام الترمذي في جامعه وأبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن سعد بن الربيع قُتل معك يوم أحد شهيدًا، وخلف ابنتين، وإن عمهما أخذا ميراثهما، ولا ينكحان إلا بمال، بمعنى أن المرأة يكون لها حُظوة إن كان لها شيء من المال، فقالت: ولا ينكحان إلا بمال، فقال الرسول لتلك المرأة: (اذهبي حتى يقضي الله في أمرك شيئًا)، فذهبت المرأة، فإذا الآية الكريمة ينزلها الله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11].
فيستدعي الرسول امرأةَ سعد بن الربيع وعم البنتين، فيقول الرسول لذلك العم: (أعطِ امرأة سعد بن الربيع الثمن، وأعطِ البنتين الثلثين، وخُذ ما بَقِيَ من المال)، فجعل العم عصبة لقوله: (ألحقوا الفرائضَ بأهلها، فما بَقِيَ فلأَولى رجلٍ ذكرٍ)، وقد كان هذا العم آخذًا كلَّ المال بناءً على ما كان عليه الناس قبل الإسلام.
فيا أمة العقيدة والتوحيد، هذا النظام العظيم يتولى الله قسمته، وإن كثيرًا من دول الكفر بعد أن عانقوا الكفر أكثر من سبعين عامًا، لم يستطيعوا أن يوصلوا الحقوق إلى ذويهم، فمن ذلك المذهب الشيوعي الاشتراكي في بلاد روسيا يوم أن استمرَّ أكثر من سبعين عامًا وهم يحاربون الملكية الفردية، ويقولون بتأميم الأموال، فكسل الناس عن العمل؛ لأن أموالهم يأخذها الحزب، وبعد ذلك أباح التعددية وأباح الملكية الفردية، لكن إذا مات الميت أخذ الحزب أمواله، فضاق الأبناء وضجَّت الزوجات، أنكون فقراءَ بعد أن يتوفَّى الزوج أو الأب، فإنه لابد من حلول، فإذا بحكومة تلك البلاد ترسل وفدًا من روسيا إلى القاهرة إلى الأزهر، من أجل أن يتعلموا قانون الوراثة على ضوء الإسلام؛ لأنه أعدل القوانين وأعظم القوانين، فالذي قنَّنها هو الله سبحانه: ﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
وهكذا بعض الناس الذين كانوا ينادون بالمساواة بين الذكر والأنثى، فلابد أن تأخذ البنت ما يأخذه الولد حينما انصدموا بالواقع، تراجعوا عن هذه النظريات، فالله أعطى الابن اثنين وأعطى البنت واحدًا، يعلم الله أن الأصح للبنت هو الواحد، وأن الأفضل للولد هو الاثنين؛ كما قال ربنا: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11].
فيجب على المرء المسلم أن يكون مِطواعًا منقادًا لأمر الله، فلا ينبغي أن يكون غشاشًا أو محتالًا أو مقدمًا لنفسه وهواه يعيش مبدأ الأنانية، يكفيه أن يعيش هو بالمال أما أخواته وبناته وعماته، ومن له حقوق في هذا المال، يحاول أن يسقط ذلك، إما عن طريق الوصية، أو عن طريق الوقف أو الحِيَل، واللف والدوران، هذا أمرٌ عظيم عند الله؛ يقول سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، ثم ماذا يا مسلم، هَبْ أنك جمعت المال والعقار والسيارات والأراضي من الحلال ومن الحرام، فقل لي بربك أتعيش مدى الحياة، كلا والله إنك ميِّت، وتاركٌ هذا المال كله.
لكل شيءٍ إذا ما تَمَّ نقصانُ فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسانُ هي الحياة كما شاهدتَها دولٌ مَن سرَّه زمنٌ ساءَته أزمانُ
|
فكل جديد سيَبلى، وكل حي سيموت، وكل غني فإلى ضعف وفقر؛ يقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، ثم يوم القيامة تحاسب على مثاقيل الذر، وهؤلاء الورثة خصماؤك بين يدي الله، فأين المفر والإله الطالب؟ يوم أن يأتي الورثة الأطفال يطالبونك بالمال وقد جعلته لنفسك عبد الله، فتأمل لنفسك مخرجًا قبل أن تَفِدَ إلى الله جلَّ وعلى، فلقد ندِم الكثير، فأرادوا أن يندموا حين لات مندم، يوم أن قرَعوا على أسنانهم، وعَضُّوا أنامل الندم، يوم لا ينفع الندم.
إن السعيد اللبيب من راجع نفسه في حال الصحة والنشاط، فتأمل في حق الأيتام في حق الفقراء في الضعفاء، ومن الضعفاء النساء التي لا تستطيع أن تراجع عند الحاكم، وعندها ضعف في التعبير في الشخصية، يجب أن ترحم المرأة، إن المرأة يقدِّسها العالم الغربي أيما تقديس، وكذلك اليهود ينزلون من شأنها، لكن الإسلام حفِظ لها حقوقها ومكانتها، وحفظ لها ممتلكاتها، فيجب على المسلمين أن يعرفوا قدرَ هذه الحقوق وإلا كانت خصمًا له يوم القيامة؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 – 37]، وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
كذلك من القوانين العرفية التي ليست من الإسلام في شيء ما يتعلق بأمر الكَبَارة، إذا مات الرجل قالوا: اعطوا كبير أولاده أفضل المال وأكثر المال، هذا أمر ليس بصحيح، فهذا الكبير إن كان قد عمِل مع والده فهو بِرٌّ وطاعة، وإن كان قد اكتسب لنفسه فتلك ممتلكاته، أما إن كانت ممتلكات الرجل أعني بذلك الأب الذي ورث للأبناء، فالكبير والصغير على حد سواء، فلا ينبغي للكبير أن يأخذ حقَّ الضعيف أو حق الصغير، فإنه اليوم إن كان صغيرًا غدًا يكون كبيرًا، وكم من ظالمٍ ظلَم في حال كبره بعض الصغار، فلما كبر الصغار انتقموا من هذا الكبير، وكم من مشاكل ومصائب شعواء بين الورثة بعد موت مورثهم، ووالله ثم والله لو رضِي هؤلاء كلهم بتحكيم أمر الله، وانقادوا للرضا لِما قضاه الله وقدره، لرأيت الخير والوئام والعدل والشفقة والرحمة والخير موجودًا في هذه الأُسر، لكنهم يتعاملون كتعامُل الحيتان أو كتعامل الذئاب والوحوش، فالوحش الكاسر الكبير يقضي على الصغير، وهكذا الحوت الكبير يفترس الصغير، هذه حياة لا تنبئ بخير، وإنما تنبئ بشر والعياذ بالله، ويقول الله: ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]، فالله لم يترك الخلق سدًى، بل أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وهكذا يقول سبحانه: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، ونبينا يصرخ من المدينة النبوية قائلًا: (ألْحِقوا الفرائض بأهلها)، أعطوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث، وهكذا من القوانين ومن الحيل والمكر الذي يتخذه بعض الآباء، فهو يميل لبعض الأبناء، فيوصي لأولاده، هو يريد أن يوصي لأكبر أولاده أو لأحد من أولاده، لكنه يعلم أن الوصية للوارث لا تجوز، فيوصي إما لزوجة ابنه أو لأبناء أبنائه، من أجل أن يخرج من الملامة، من ملامة بقية الأبناء، على أن الأبناء يتربصون بأخيهم وبأبناء أخيهم الدوائرَ، ولو وجدوا الفرصة أن يَقتُلوه أو يفعلوا شيئًا لفعلوه، ومن الذي زرع هذا؟ زرعه الأب والعياذ بالله.
إذا كان ربُّ البيت بالدفِّ ضاربًا فشيمة أهل البيت كلهم الرَّقصُ
|
هذا صحابي جليل من الذين يخافون الله والدار الآخرة، يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله، إني نحلت ابني النعمان هبة، فقال له الرسول: (هل نحلت أولادك كلهم)، قال: لا، قال: (إذًا لا تشهدني على جَور)، ثم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، فلابد من العدل في الوصية، ولابد من العدل في العطية، هذا إذا أردت أن يكون أولادك كأسنان المشط، متآخين متعاونين متباذلين متزاورين، فإياك أن تزرَع الضغينة والشحناء، إياك أن تزرَع البغضاء بين أولادك، ثم بعد ذلك ربما لعنك البعض، سبَّك البعض، تنكَّر لك، وأنت الذي جمعت هذه المصائب وأنت الذي زرعتها في أوساطهم، فأنت جمعت بين غضب الله، بين الشحناء والبغضاء، بين أولادك، فضررت نفسك حيًّا وميتًا، فلابد من العدل في كل شيء؛ يقول سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
اللهم بارِك لي ولكم في القرآن العظيم وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أيها المسلمون، أُوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فما فاز إلا المتقون، ومن اتقى وأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وخاف الله جل وعلا في الدنيا والآخرة.
معاشر المؤمنين، إن مما يندى له الجبين يوم أن تتذكَّر أحوال إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها، وما يصابون به من المصائب والنكبات والابتلاءات، فيجب على المؤمن أن يتحرق قلبُه لذلك، ومما هو معروف ومسموع ومشاهد حال إخواننا المسلمين في بلاد باكستان، فلقد بلغ عدد الضحايا والقتلى بسبب الزلازل والبراكين أكثر من مائة ألف، وهذا أمر قدره الله – سبحانه وتعالى – فيجب على المسلم أن يتذكر مأساة المسلمين، وإن تذكرت أحوال إخوانك، فأنت مأجور في الدنيا والآخرة، فعلينا أن ننصر إخواننا، ونمدَّ لهم يد العون فإن ربنا – سبحانه وتعالى – يقول: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، ويقول جل وعلا في كتابه الكريم ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، فلو تصدقت يا عبد الله بمائة ريال، فالله يدفع عنك من الشر ومن المصائب والنكبات بقدر نيَّتك، وبحسب ما بذلت من أجل إخوانك، فالله الله في نصرة إخوانكم بالمال والدعاء والتضرع والابتهال، فإنك مأجورٌ على ما تقوم به من الخير، ويجب على المسلم أن يكون سخيًّا محسنًا لا أن يكون بخيلًا، فلو أن واحدًا منا راجع نفسه وخفَّف من بعض الأمور الاضطرارية، ولو وفَّر بعض الأمور الاضطرارية، لو لم يأكل مثلًا لحمًا أو فاكهة، إن هذا من الضرورة على أن بعضهم يرى من الضروري أن يَخزن، فلو وفَّر قيمة هذا القات على أنه ليس بأمرٍ ضروري، لكن لو أنه يقسم ذلك على نصفين، فمن خزن بألف، فليخزن بخمسمائة، وهكذا فكم يتوفر من المال والنقد، فلابد أن تكون عاقلًا أيها المسلم، فقد تقدم الناس في عالم الاختراع والصناعة، ونحن ولا حول ولا قوة إلا بالله حتى على مستوى الليمون الأخضر، صار يستورد من بلاد مصر وغيرها.
لقد استغنى الكثير من المسلمون بزراعة القات، وهذا لا يعد تقدمًا، وإنما تأخرٌ والله المستعان، فعلى أية حال انصروا إخوانكم بالمائة ريال والكثير والقليل، فمن كان يريد أن يتبرع عن طريق البنك اليمني، فلهم هناك رقم حساب، فليذهب بحاله وليدفع وليأخذ إشعارًا من البنك، وهو مأجور على ذلك، ومن كان لديه مال قليل، فسوف يقوم بعد الصلاة أحد طلاب العلم بكرتونة على باب المسجد، فجودوا على إخوانكم، يُخلف الله عليكم بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نقص مال من صدقة)، فالله يزيد في هذا المال وينمي هذا المال، ولقد ذكر بعض الفقهاء أن من أسباب الغنى هو الإنفاق في سبيل الله، فجُدْ على نفسك، وجُدْ على إخوانك، وعلِّم نفسك البذل، وعلِّم أولادك فعلَ الخير، فبقدر ما تجود يجود الله عليك، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال بن رباح وكان أمين الصندوق: (أنفق يا بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا).
أسأل الله بمنِّه وكرمه وبأسمائه الحسنى وبصفاته العلا – أن يجعلنا هداةً مهتدين، وأن يريَنا الحق حقًّا، فيرزقَنا اتباعه، والباطل باطلًا، فيرزقنا اجتنابه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.