نعمة المطر (خطبة)


نعمة المطر


 

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل من الماء كل شيء حيٍّ، الحمد لله الذي نعمته على عباده تَترى، الحمد لله الأعلى الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والذي أخرج المرعى، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، ومن تبع هداه إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فتقوى الله هي طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72].

 

عباد الله، إننا في هذه الأيام نتقلب في نعمة من نِعَمِ الله وافرة؛ فسماؤنا تُمطِر، وأشجارنا تُثمر، وأرضنا تخضر، وما هذا إلا نعمة ورحمة من الْمُنْعِم الرحمن المنَّان.

 

فلولا الله ما سقينا، ولا تنعَّمنا بما أُوتينا؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 68 – 70]، أجاج؛ أي: شديد الملوحة.

 

عباد الله، إن إنزالَ الغيث نعمة من أعظم النعم وأجَلِّها، امتنَّ بها سبحانه على عباده، وأشاد بها في كتابه؛ فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].

 

أيها المسلمون، إن مما يدل على عِظَمِ نعمة الغيث تلك الأوصاف التي ذكرها الله تعالى في كتابه، فأحيانًا يصف الماء بالبركة، وأحيانًا يصفه بالطُّهر، وأحيانًا بأنه سبب الحياة، ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة؛ يقول سبحانه: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ﴾ [ق: 9]، ويقول سبحانه: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾ [الفرقان: 48]، ويقول سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [النحل: 65].

 

أيها الإخوة المسلمون، إن رحمة الله بنا عظيمة، ونِعَمَه علينا كثيرة، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، وأن ننسُبَ الفضل له، فما مُطِرنا إلا بفضل الله ورحمته.

 

جاء في صحيح البخاري ومسلم عن زيد الجهني أنه قال: ((صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبحَ بالحديبية على أثَرِ سماء كانت بليلٍ؛ أي: بعد ليلة ممطرة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنَوءِ كذا أو كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)).

 

كان أهل الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة كوكب من الكواكب اسمه النَّوء، فكانوا يعتقدون أنه هو الموجِد والفاعل الْمُحدِث للمطر، فأنكر الله عليهم ذلك، وأبطل قولهم، وجعله كفرًا.

 

أيها الإخوة المسلمون، إن المؤمن المستبصر دومًا وأبدًا يتأمل ويتدبر في مخلوقات الله، ويتخذ من كل حركة وسكون في هذا الكون آيةً تدل على عظمته سبحانه وتعالى، وقوته وقدرته، وكرمه وفضله.

 




وفي كل شيء له آية
تدلُّ على أنه الواحدُ

قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164].

 

وفي نزول المطر عِبَرٌ وآيات عظيمة ذكرها الله في كتابه العزيز، فينبغي أن نعتبر بها حقَّ الاعتبار.

 

ومن هذه العِبَرِ والآيات ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57].

 

ومن العِبَرِ والآيات كذلك قوله عز وجل: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [الرعد: 12، 13].

 

وفي إحيائه للأرض بعد موتها العِبرةُ، ومثالٌ لقدرته في إحيائه للموتى يوم القيامة؛ ولذا نجد أن الله كثيرًا ما يربط بين إحياء الأرض بعد موتها وبين إحياء الموتى من قبورهم: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39].

 

نعم، إن إحياء الله الأرض بعد موتها لَدليلٌ واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى؛ وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ [الزخرف: 11]؛ أي: كذلك خروجكم من قبوركم بعد موتكم، فالذي أحيا الأرض بعد موتها قادرٌ على بعثكم بعد موتكم.

 

عباد الله، وكان من هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم مع الغيث ما روته عائشة رضي الله عنها حين قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيمًا أو ريحًا، عُرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغَيم فرِحوا؛ رجاءَ أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، ما يُؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب وقالوا: هذا عارض ممطرنا))؛ [أخرجه الإمام أحمد في مسنده] وروى مسلم في صحيحه حديثًا عن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخيرَ ما فيها، وخيرَ ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشرِّ ما فيها، وشر ما أُرسلَتْ به، قالت: وإذا تخيلت السماء تغير لونه، ودخل وخرج، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرِّيَ عنه، فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها فسألته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعله – يا عائشة – كما قال قوم عاد: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ﴾ [الأحقاف: 24])).

 

وهذا الفعل – يا عباد الله – منه صلى الله عليه وسلم من عدم أمنِهِ من مكر الله، وقد عاب الله قومًا أمِنُوا مَكْرَه؛ قال سبحانه: ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]، ومن فَعَلَ هذا الهَدْيَ النبوي – أي: خاف عند الغَيم أو الريح – ربما رماه بعض الناس بالتشاؤم، وهذا من الجهل بالسنة النبوية، والله المستعان.

 

أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكان من هَدْيِهِ عليه الصلاة والسلام مع الغيث هو أنه إذا أمطرت السحاب، سُرِّي عنه هذا الخوف؛ كما قالت عائشة هذا عنه: (فإذا أمطرت سُرِّي عنه)؛ [أخرجه مسلم].

 

بل إنه يفزَع إلى المطر يكشف عن ثوبه؛ كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أصابنا مطر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسَر عن ثوبه حتى أصابه المطر؛ وقال: إنه حديثُ عهدٍ بربه))؛ [أخرجه مسلم].

 

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: ((اللهم صَيِّبًا نافعًا))؛ [أخرجه مسلم].

 

وكان من هَدْيِهِ عليه الصلاة والسلام مع الغيث أنه إذا كثُر وخاف من الضرر على الناس قال: ((اللهم حوالَينا ولا علينا، اللهم على الآكامِ والظِّراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر))؛ [متفق عليه]، والآكام والظِّراب هي الجبال الصغيرة، وتأمل هذا الدعاء النبويَّ العظيم؛ حيث خصَّ بقاء المطر في هذه الأماكن؛ لأنها أسهل في الزراعة، وأيسر في الرعي من شواهق الجبال العظيمة التي لا تُنال إلا بالمشقة.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه كان غفارًا.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فإن من تدبَّر الآيات التي تتحدث عن الغيث يجِد أنها في نهايتها تذكُّر إحياء الله للموتى؛ لأن ظاهرة المطر دليل واضح على إمكانية بعث الله الموتى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39]، وقال الله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57]، وكثيرٌ مثلها في القرآن.

 

وذلك أنه إذا نُفخ في الصُّور النفخة الأولى، صعِق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ويبقى الناس موتى ما شاء الله، وكل شيء يبلى من ابن آدم إلا عَجَب الذَّنَب – وهو آخر فقرة من فقرات الظهر – يبقى تحت الأرض مدفونًا، حتى إذا أراد الله إحياء الموتى أرسل سحابًا يمطر على الأرض أربعين صباحًا كماء الرجال، فينبت الإنسان كما ينبت الزرع، حتى يكتمل نموه، فينفخ النفخة الثانية فترجع كل روح إلى جسدها، ويقومون من قبورهم، ويصوِّر ابن القيم هذا بأبيات جميلة؛ يقول فيها:


 

ألَا وصلوا – عباد الله – على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين.

 

اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

 

اللهم اجعلنا ممن يعظُم شعائرك.

 

اللهم إنا نسألك شكرًا لنِعَمِك، وابتغاء مرضاتك.

 

اللهم اجعل القرآن ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وجِلاء أحزاننا.

 

اللهم اجعله شفيعًا لنا، وشاهدًا لنا، لا شاهدًا علينا.

 

اللهم ألْبِسْنا به الحُلَلَ، وأسكنَّا به الظُّلَلَ.

 

واجعلنا به يوم القيامة من الفائزين، وعند النَّعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.


اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وتولَّ أمرنا.

 

اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقى، والعَفاف والغِنى.

 

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
مكتبه السلطان – نوادر العرب | طرائف البخلاء و قصص العرب التي صارت مضربا للمثل | مجموعة قصص مضحكة
كتاب تصميم الألعاب التعليمية للمعاقين عقليا ؛ النظرية والتطبيق