نور الدين زنكي (خطبة)
نـور الدين زنكي
الـخـطبة الأولـى
الحمد لله العلي الأعلى الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حاز من الفضل والشرف الأوفى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى، أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله، فإن من اتق الله، هداه ووقاه في دينه ودنياه.
أيها المسلمون، حديثنا اليوم عن رجل عظيم من عظماء الإسلام، وصفه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: “الرجل العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة، المقيم للجهاد وللعدل”، وقال عنه ابن الأثير في تاريخه: “وقد طالعت سِيَر الملوك المتقدمين، فلم أرَ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريًا منه للعدل”.
وقال ابن خلكان: “له من المناقب والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف”، وقال عنه الذهبي: “كان دينًا تقيًّا، ذا تعبُّد وخوف وورع، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق”، فهل عرفتموه؟
إنه الملك نور الدين محمود زنكي الذي ولد في عام خمسمائة وإحدى عشر بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما، وقد مَنَّ الله على نور الدين بصفات حميدة أهَّلته ليكون -كما يطلق عليه كثير من أهل العلم- سادس الخلفاء الراشدين.
فقد تعلَّم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا ذا همة عالية، وكان كثير العبادة، ذا صلاة وصوم، وله أوراد في الليل والنهار، وكان نور الدين محبًّا للعلم والعلماء مليح الخط، كثير المطالعة، ويتجنب الكبر، ويتشبه بالعلماء.
وكان أيضًا رجلًا جلدًا قويًّا يتسم بالجدية والذكاء، والهمة العالية، صبورًا مقدامًا مهيبًا موقرًا، مع ما فيه من الحلم والرحمة واللين؛ قال ابن الأثير: كان مهيبًا مخوفًا مع لينه ورحمته، كانت إليه النهاية في الوقار والهيبة، شديدًا في غير عنف، رقيقًا في غير ضعف.
ومع هذه الهيبة كان رفيقًا بالناس، يقوم لهم، ويقبل عليهم، ويجلس بجانبهم، ويقول: “هؤلاء جند الله، وبدعائهم ننتصر على الأعداء، ولهم في بيت الله من الحق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم، فلهم المنة علينا”؛
ولذلك فقد كان محبوبًا من الرعية، مُعظَّمًا عندهم؛ قال ابن كثير: “لما مرض نور الدين مرض الشام بمرضه، ثم عوفي ففرح المسلمون بذلك فرحًا شديدًا”؛ انتهى كلامه.
وكان من ورعه -رحمه الله- أنه كان ينفق على أهل بيته من ماله الخاص ومن سهمه في الغنيمة؛ قال ابن الأثير: “وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها”.
أما عدله في رعيته فحسبه أنه أول من أنشأ محكمةً شرعيةً في الإسلام كما قال ابن الأثير.
أيها المسلمون، اتصف نور الدين محمود بعدد من الصفات مكَّنته من تحقيق ذلك النجاح الباهر في بناء وإدارة دولة واسعة منها:
شعوره بالمسئولية الملقاة على عاتقه، وقوة شخصيته، كما تمتع بخصائص عسكرية فذَّة جعلته من أعظم قادة زمانه، ومَكَّنته من تحويل جيشه الصغير إلى أعظم قوة عسكرية في الشرق الأدنى ليكمل ما بدأه أبوه عماد الدين زنكي، فقد ورث نور الدين من والده حب الجهاد والسعي المستمر لتخليص الأمة من الصليبيين والرافضة المجوس.
تمكَّن نور الدين من إبطال المُكُوس والضرائب والجبايات كلها حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنه: “أسقط الكلف السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالًا عظيمةً جدًّا”، ثم قال شيخ الإسلام: “فزاد الله البركات، وفتح البلاد، وقمع العدو، بسبب عدله وإحسانه”.
حكم حلب بعد وفاة والده، وقام بتوسيع إمارته بشكل تدريجي، حتى شملت إمارته معظم بلاد الشام، وتصدَّى للحملة الصليبية الثانية.
أيها الكرام، من أعظم أعماله الجليلة التي سجَّلها له التاريخ: الفتوحات التي تمت في عهده؛ إذ كان أهم أهدافه ومشروع حياته هو الجهاد في سبيل الله، وصفه الذهبي بقوله: “وكان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، قل أن ترى العيون مثله”.
وقال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: “وكان أعرف الناس بالجهاد”.
فكان -رحمه الله- أعظم ما يسعى إليه أمرين:
الأول: تطهير البلاد الشامية من النصارى الصليبيين وإعادة فتح بيت المقدس الذي استولوا عليه على حين ضعف من المسلمين.
والثاني: تطهير البلاد المصرية من الشيعة الإسماعيلية الملقبين زورًا وبهتانًا بالفاطميين.
فأول ما بدأ به أنشأ المدارس العلمية لمحاربة الأفكار المنحرفة -وفي مقدمتها الفكر الشيعي- في كل من حلب ودمشق ومصر، ونصر المذهب السُّنِّي، فسخر نور الدين كل إمكانيات دولته لنشر العلم الشرعي، وأنشأ المدارس، وأوقف عليها الأوقاف، وجلب العلماء من كافة الأمصار، وهو أول من بنى دارًا للحديث في الإسلام سميت (دار الحديث النورية) أراد بها إنشاء جيل يعرف السنة النبوية؛ ليكون أقدر على مواجهة البدع الباطنية، وفتح عشرات المدارس الشرعية، ومدارس للعلوم الهندسية، ومستشفيات لتطبيب المرضى ولتدريس الطب، أشار إليها ابن جبير الأندلسي في رحلته إلى الشام.
وكان من أساسات هذه المدارس المتنوعة غرس العقيدة الصحيحة لمواجهة العقائد الباطنية، وإقامة الشعائر الإسلامية للقضاء على الشعائر البدعية.
وجعل من مهمات التعليم حفظ القرآن وفهمه، فأوقف أوقافًا عظيمةً على القرآن وحُفَّاظه ومعلميه، فاتسع حفظ القرآن في الناس، وكثر الحُفَّاظ في دولته، وشجَّع الأيتام على حفظ القرآن بأوقاف خصهم بها.
وكان ينفق على تعليم العلم، وتحفيظ القرآن بسخاء بالغ، ولا يلتفت إلى نقص الموارد بسبب ذلك.
وفي المدارس التي أسَّسها نور الدين، ونشرها في طول الشام وعرضها تربَّى جيل متعلم ينهض بالأمة من تخلُّفها، وينحاز إلى قضاياها، فوقف ذلك الجيل في ساحات الوغى قبالة الباطنيين حتى أسقط الدولة العبيدية الباطنية التي رزح المسلمون تحت نار حكمها الجائر الفاسد ثلاثة قرون إلا قليلًا.
ثم لما هيأ الأمة بهذه القاعدة العظيمة بدأ مشروعه الكبير وهو الجهاد في سبيل الله، فأكرمه الله بفتح مصر وتخليصها من الدولة الفاطمية العبيدية الإسماعيلية، التي نشرت الكفر والإلحاد مئات السنين، ولطالما تحالفت مع أعداء الأمة ضدها.
تصوروا أيها الإخوة لو أن الأمر استمر على حكم هؤلاء المجوس عُبَّاد النار أعداء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى الآن، كيف سيكون الحال بأمة الإسلام؟
أيها المؤمنون، وضع نور الدين نصب عينيه قتال الصليبيين منذ بداية استلامه لإمارة حلب وإنهاء جميع معاقل الصليبيين في بلاد الشام، وكان هدفه الكبير وغايته العظمى تحرير القدس.
حتى إنه أمر ببناء منبر؛ ليضعه في المسجد الأقصى بعد أن يقوم بفتح المدينة وقد صنع هذا المنبر في دمشق بواسطة مَهَرة الحرفيين من دمشق وحلب، نقل هذا المنبر بالفعل إلى القدس بعد فتحها على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
ومن الملامح البارزة في حياة نور الدين محمود علاقته بصلاح الدين الأيوبي؛ إذ تولى نور الدين تربية صلاح الدين منذ صغره؛ فكان له بمنزلة الوالد والمعلم، وكان يُدرِّبه على فنون القتال، ويغرس فيه حُبَّ الجهاد في سبيل الله، ثم عيَّنه بعد ذلك قائدًا للشرطة، ثم أرسله بصحبة عَمِّه أسد الدين شيركوه إلى مصر، وبعد انتصار أسد الدين ووفاته، تولى صلاح الدين الوزارة في مصر للدولة العبيدية، رغم كونه سنيًّا، وعمل صلاح الدين على تنفيذ أحلام نور الدين، وأحلامه الشخصية، وأحلام المسلمين جميعًا بالقضاء على الدولة العبيدية، وتمَّ هذا بفضل الله وكرمه، وعادت مصر دولةً سنيةً مرةً أخرى، وأضاء وجهها المشرق من جديد.
بارك الله لي ولكم.
الـخـطبة الـثـانـية
الحمد لله، أمر أن لا تعبدوا إلا إيَّاه، وجعل الجنة لمن أطاعه واتَّقاه، وجعل النار لمن تعدَّى حدوده وعصاه، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المُسْداة، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
ففي مدة قصيرة لا تتجاوز ثمانيةً وعشرين عامًا فعل الملك العادل نور الدين ما لم تفعله دول في قرون، صلح في نفسه، واستقام فيما بينه وبين ربه، فأصلح الله به أديان الناس وأصلح به دنياهم، وكان ملكهم عزًّا للإسلام ورحمةً على الأنام، وفي ذلك أعظم العِبَر؛ فقد استطاع أن يحرر حوالي خمسين مدينةً وقلعةً.
وفي عام خمسمائة وتسعة وستين من الهجرة، كان نور الدين قد أعدَّ عدته للهجوم النهائي على بيت المقدس وتحريره، إلا أن المنية عاجلته، فتوفي -رحمه الله- في الحادي عشر من شوال لعام خمسمائة وسبعين من الهجرة.
وافت نور الدين زنكي المنية وهو في التاسعة والخمسين من عمره، وذلك بعد أن فاجأته الحمى وهو في طريقه إلى مصر، وحين ذاع خبر وفاته أدرك العالم الإسلامي أنه خسر بطلًا عظيمًا لطالما رفع راية الحق عاليًا، فأفل نجم نور الدين زنكي.
لكن مشيئة الله في نصر الإسلام والمسلمين لم تغب، فكلما أفل نجم بطل، ظهر آخر على الساحة، فاستلم الراية هذه المرة صلاح الدين الأيوبي، وبدأت رحلته في قيادة الأمة وتحقيق النصر العظيم في موقعة تاريخية مشهورة حَرَّر فيها القدس الشريف.
رحم الله هذا الرجل المبارك، فقد أيقظ في الأمة روح الجهاد وبعث فيها الحياة، وحمى ديار المسلمين من الأعداء.
صلوا وسلموا…