{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}


هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

خلاصة خطبة جمعة

 

الإحسان لغةً:

الإحسان ضد الإساءة، وهو فِعْلُ ما ينبغي أن يُفعَل من الخير، وهو مصدر أحسن؛ أي: جاء بفِعْلٍ حسَنٍ، ويُقال على معنيين؛ أحدهما: متعدٍّ بنفسه، كقولك: أحسنت كذا: إذا حسَّنته وكمَّلته، وثانيهما: متعدٍّ بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى كذا؛ أي: أوصلت إليه ما ينتفع به.

 

وقيل الإحسان لغة: هو فعل ما هو حسن، مع الإجادة في الصنع.

 

الإحسان اصطلاحًا:

قال الكفوي: “الإحسان: هو فِعْلُ ما ينفع غيره بحيث يصير الغير حسنًا به؛ كإطعام الجائع، أو يصير الفاعل به حسنًا بنفسه”.

 

وقال السعدي: “هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون”.

 

والمعنى الآخر ورد في حديث جبريل الطويل، فشرعًا الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.

 

فهو إذًا فِعْلُ ما ينبغي أن يُفعَل من الخير فضلًا ومحبة، والأفضل أن يكون ذاتيًّا دائمًا دون نقص أو انقطاع؛ لأنه عملٌ بالفضائل، ولأنه قُربة إلى الله تعالى.

 

وجاءت مادة “حَسَنَ” في القرآن الكريم بجميع صِيَغِها ما يقرب من مائة وخمس وتسعين مرةً، منها اثنتا عشرة مرة بلفظ “إحسان”، وهذا دليل على أهمية هذا المقام في الإسلام؛ حيث أمَرَ به الله عز وجل في مثل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90].

 

وقد يختلف معنى الإحسان بالسياق الذي يَرِدُ فيه؛ فإن وَرَدَ مقرونًا بالإيمان والإسلام، كان بمعنى المراقبة، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: ((فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)).

 

أما إذا وَرَدَ مطلقًا، فالمراد به فِعْلُ ما هو حسن؛ أي: إن الشيء ملائم للطبع، وضده القبح؛ بمعنى كونه منافرًا للطبع، وقيل أيضًا: إن الإحسان هو فعل ما ينبغي فعله من المعروف؛ وهو نوعان: أحدهما: الإنعام على الغير، والثاني: الإحسان في فعله، وذلك إذا علِم علمًا محمودًا، وعمِل عملًا حسنًا، وهذا فيما ورد في الإحسان الأُولى في الآية، أما الإحسان الثانية فقد قيل فيها: إنها إحسان الله للعبد؛ وهي كل ما يسَّر من نعمة تنال الإنسان في نفسه، وبدنه، وأحواله، هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فهي ما يعطيه الله للعبد من جزاء على فعله الذي أحسن فيه في الدنيا، من جنة وما فيها من نعيم وثواب، ومغفرة للذنوب، وبُعْدٍ عن النار، واستجابة للدعاء، وغيرها مما يُكرِم الله به العبد.

 

المعنى الإجمالي للآية:

وقوله: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60] يقول تعالى ذكره: هل ثوابُ خوفِ مقام الله عز وجل لمن خافه؛ فأحسن في الدنيا عمله، وأطاع ربه، إلا أن يُحسِن إليه في الآخرة ربُّه؛ بأن يجازيَه على إحسانه ذلك في الدنيا، وقال ابن عباس: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله، وعمِل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؟ وقال ابن عاشور:

والإحسان الأول: الفعل الحسن، والإحسان الثاني: إعطاء الحسن، وهو الخير، فالأول من قولهم: أحسن في كذا، والثاني من قولهم: أحسن إلى فلان.

 

والاستفهام مستعمل في النفي؛ ولذلك عقَّب بالاستثناء، فأفاد حصر مجازاة الإحسان في أنها إحسان، وهذا الحصر إخبار عن كونه الجزاء الحقَّ، ومقتضى الحكمة والعدل.

 

من صور الإحسان في العبادة:

والإحسان في العبادات يكون باستكمال شروطها وأركانها، واستيفاء سُنَنِها وآدابها، مع استغراق المؤمن في شعور قويٍّ بأن الله عز وجل مراقِبُه حتى لكأنه يراه تعالى، ويشعر بأن الله تعالى مُطَّلِع عليه، كما جاء في حديث جبريل.

 

والإحسان في العبادة درجتان:

الأولى: أن يعبد الإنسان ربَّه بقلب حاضر كأنه يراه، وهي عبادةُ طلبٍ وشوقٍ، ورغبة ومحبة، وهذه أعلى المرتبتين، والثانية: إذا لم يعبد ربه كأنه يراه، فليعبده كأنه هو الذي يراه، عبادة الخائف منه، الهارب من عقابه.

 

وأوضحت السنة النبوية أن الإحسان كالروح يجب أن يسري في كل أمور المسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء…))؛ [رواه مسلم]، فتقوم حياة المسلم كلها على الإحسان في كافة أمور حياته، في سلوكياته وعبادته وأموره المختلفة.

 

 

ومن صوره أيضًا الإحسان للوالدين:

ولهذا الإحسان صور كثيرة؛ ومنها: طاعتهما فيما يأمران به، وخفض الصوت عندهما، ومخاطبتهما بلين، وتوقيرهما والتذلل لهما، والإنفاق عليهما وسد حاجتهما، والدعاء لهما، سواء في حياتهما أو بعد موتهما، وإيصال الخير إليهما، وكف الأذى عنهما، والاستغفار لهما، وإكرام صديقهما، وإنفاذ عهدهما؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]؛ قال القرطبي: “قال العلماء: فأحقُّ الناس بعد الخالق المنَّان بالشكر والإحسان، والتزام البر والطاعة له والإذعان – من قَرَنَ الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته، وشكره بشكره؛ وهما الوالدان؛ فقال تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ [لقمان: 14]”.

 

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، قال: قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)).

 

ومن صوره الإحسان بين الزوجين:

بالنسبة للزوجة في حسن معاملتها، وإيفائها كافة حقوقها، وحسن عشرتها، والاحتكام إلى أهلهما إن اختلفا، وعدم الإضرار بها بوجه من الوجوه، كما ورد في غير آية من القرآن، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن عندكم عَوانٌ))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))؛ [أخرجه الترمذي].

 

ومن كانت طريقته الإحسان، أحسن الله جزاءه: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].

 

قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، فإحسان المرأة عِشْرَةَ زوجها وطاعته، والحرص على رضاه، مما يوجب المودة والرحمة مع زوجها، وكذلك الزوج يحسن إلى زوجته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرًا))، وهو من أعظم أبواب السعادة الزوجية.

 

وقال أيضًا: ((خيركم خيركم لأهله))؛ قال الشوكاني: “في ذلك تنبيه على أن أعلى الناس رتبةً في الخير، وأحقهم بالاتصاف به، هو من كان خير الناس لأهله؛ فإن الأهل هم الأحقاء بالبِشْرِ وحسن الخلق، والإحسان، وجلب النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك، فهو خير الناس، وإن كان على العكس من ذلك، فهو في الجانب الآخر من الشر، وكثيرًا ما يقع الناس في هذه الورطة؛ فترى الرجل إذا لقِيَ أهله كان أسوأ الناس أخلاقًا، وأشجعهم نفسًا، وأقلهم خيرًا، وإذا لقِيَ غير الأهل من الأجانب لانت عريكته، وانبسطت أخلاقه، وجادت نفسه، وكثُر خيره، ولا شكَّ أن من كان كذلك، فهو محروم التوفيق، زائغ عن سواء الطريق، نسأل الله السلامة”.

 

وكان يُقال: “من قل خيره على أهله، فلا ترجُ خيره”.

 

ومن صوره الإحسان للناس كافة:

والإحسان في باب المعاملات مع الآخرين يكون بالرفق والتعاون، والاحترام، وإيفاء الحقوق؛ ذكرت الآية ثمانية أصناف يجب لها الإحسان وهي بنص الآية: ﴿ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 36].

 

وقد وَرَدَ توجيه نبوي في الإحسان إلى الخادم، وذلك بإعطائه أجرَه قبل أن يجِفَّ عرقه، وبعدم تكليفه ما لا يطيق، فإن كان مقيمًا بالبيت، فليأخذ حقه من الطعام والكساء؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أتى أحدكم خادمه بطعام، فإن لم يُجلِسه معه، فلْيُناوِلْهُ لُقْمَةً أو لُقْمَتَين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولِيَ علاجه))؛ [رواه البخاري].

 

أما عن الإحسان في العلاقات الاجتماعية، فقد أمَرَ به الإسلام، وذَكَرَ الهروي أن من منازل إياك نعبد وإياك نستعين (الفتوة)؛ وقال: “هي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: ترك الخصومة، والتغافل عن الزَّلَّة، ونسيان الأذية، والدرجة الثانية: أن تقرِّب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك؛ سماحةً لا كظمًا، ومودةً لا مصابرةً”.

 

قال ابن القيم في ذلك: “هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب؛ فإن الأولى تتضمن ترك المقابلة والتغافل، وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك، ومعاملته بضد ما عاملك به، فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطتين، فخُطَّتُك: الإحسان، وخُطَّتُه: الإساءة”.

 

قال أبو الفتح البستي:

 

وهكذا يتنوع الإحسان تبعًا لأحوال الآخرين، فهو للأقرب ببرهم والرحمة بهم، والعطف عليهم، مع الأقوال والأفعال الطيبة.

 

ولليتامى بصيانة حقوقهم، وتأديبهم، وتربيتهم، وعدم قهرهم، وللمساكين بسدِّ جوعتهم، وستر عورتهم، والحث على إطعامهم، وإبعاد الأذى والسوء عنهم.

 

ولعامة الناس بالتلطُّف في القول، والمجاملة في المعاملة، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وردِّ حقوقهم، وكف الأذى عنهم.

 

والإحسان للحيوان بإطعامه إذا جاع، ومداواته إذا مرِض، والرفق به في العمل، وإراحته من التعب.

 

ومن صوره الإحسانُ والإتقان في الأعمال:

والإحسان في العمل إنما يكون بإجادته، وإتقان صنعته، مع البعد عن التزوير والغش؛ رُوِيَ في الحديث النبوي: ((إن الله يحب إذا عمِل أحدكم عملًا أن يتقنه))، والإتقان إحسان الصنع.

 

ومن غشَّنا، فليس منا، فما أحوجنا اليوم لإتقان المعلم في تدريسه، والطبيب في مداواته المرضى، والجندي في حمايته للأمة، والتاجر في معاملاته وغيرها!

 

ومن صوره الإحسان في الكلام:

قال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53]؛ قال ابن كثير: “يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلامَ الأحسن، والكلمة الطيبة؛ فإنهم إذا لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفِعال، ووقع الشرُّ والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدوٌّ لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم، فعداوته ظاهرة بيِّنة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة؛ فإن الشيطان ينزغ في يده؛ أي: فربما أصابه بها”.

 

من فوائد الإحسان:

1- نجاة المجتمع وانتشار الحياة الطيبة بعيدًا عن الغش والحقد والكره، وغير ذلك.

 

2- المحسن يكون في معية الله عز وجل؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

 

3- المحسن يكتسب بإحسانه محبة الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، وقال: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].

 

4- للمحسنين أجر عظيم في الآخرة، ويكونون في مأمن من الخوف والحزن؛ قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112].

 

5- المحسن قريب من رحمة الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56].

 

قال ابن قيم الجوزية ما خلاصته: الإحسان على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علمًا، وإبرامه عزمًا، وتصفيته حالًا.

 

الدرجة الثانية: الإحسان في الأحوال؛ وهو أن تراعيها غيرةً، تسترها تظرُّفًا، وتُصحِّحها تحقيقًا، والمراد بمراعاتها حفظها وصونها غيرةً عليها أن تَحُول، فإنها تمر مَرَّ السحاب، وتكون المراعاة أيضًا بدوام الوفاء وتجنُّب الجفاء.

 

الدرجة الثالثة: الإحسان في الوقت؛ وهو ألَّا تزايل المشاهدة أبدًا، ولا تخلط بهمَّتِك أحدًا، والمعنى في ذلك أن تتعلق همتك بالحق وحده، ولا تُعلِّق همتك بأحد غيره.

 

وقال المقنع الكندي:

 

ولا ننسى أن نُحسِنَ إلى إخواننا في غزة، فقد تركهم الكل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، فنُحسن إليهم، كل واحد حسب قدرته وطاقته؛ دعاءً، وتبرعًا، وتألمًا لمصابهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
The Qur'an translated by M.A.H. Habib & Bruce Lawrence – Open Letters Review
فوائد معرفة مصادر السيرة النبوية