هل فعلا “شيوخ أبي داود كلهم ثقات”؟
هل فعلًا “شيوخ أبي داود كلهم ثقات”؟
الحمد لله، يتناول هذا الملخص بحث الشيخ ماهر الفحل – حفظه الله – المنشور ضمن “بحوث في المصطلح” في دراسته مسألة توثيق شيوخ أبي داود؛ حيث يشير إلى أن هناك مقولة شهيرة تقول: “أبو داود لا يروي إلا عن ثقة“.
يسعى الشيخ – حفظه الله – في هذا البحث إلى فحص مدى دقة هذه المقولة وتطبيقها العملي، ويستند في تحليله إلى دراسة تاريخية واستقرائية لشيوخ أبي داود.
البحث متميز ومنهجي، ويعد إضافة قيِّمة وبارزة في مجاله، كما يمثل محاولة جادة لفهم منهج أبي داود في سننه. من أبرز مميزات هذا البحث الاستقراء الشامل، وتعدد الأمثلة، والإحالات الدقيقة إلى كتب التراجم والرجال؛ مما يجعل البحث متكاملًا ويوضح الفكرة بشكل قوي ومدعوم بالأدلة. ومن يقرأ للشيخ – حفظه الله – لن يجد هذا الأمر غريبًا عليه.
أبرز محاور البحث كالتالي:
– نشوء القاعدة “أبو داود لا يروي إلا عن ثقة”:
ذكر الشيخ – حفظه الله – أن نشوء مقولة توثيق شيوخ أبي داود يعود إلى ما قبل الحافظ ابن القطان (ت 628هـ)، وقد استند العلماء إلى استقراء منهج أبي داود في انتقاء شيوخه، فلا يوجد نص ثابت عن أبي داود بهذه القاعدة.
من الممكن أن نقول: إن هذه القاعدة لم تأتِ من فراغ، بل نشأت من مراقبة العلماء لممارسات أبي داود في انتقاء شيوخه. يشير الشيخ ماهر الفحل – حفظه الله – إلى نقل بهذه المقولة يعود إلى الحافظ ابن القطان الذي استقرأ مرويات أبي داود، وخلص إلى أن أبا داود غالبًا لا يروي إلا عن ثقة.
قال ابن القطان في “بيان الوهم والإيهام” (5 /39 عقيب 2279): فإن قيل: فإن أبا داود لا يروي إلا عن ثقة؟ قيل: هذا لم نجده عنه نصًّا، وإنما وجدناه عنه توقيًا في الأخذ. ثم أورد بعض الوقائع الدالة على ذلك.
وبالرغم من أن أبا داود كان تحت تأثير منهج شيخه الإمام أحمد بن حنبل الذي كان دقيقًا في اختيار من يأخذ عنهم، فإن التوثيق في عصر أبي داود كان يعتمد على تجاربهم الشخصية وتقييمهم المباشر للرواة؛ مما يجعل استقراءاتهم خاضعة للأخطاء البشرية أو اختلافات المنهج.
وهنا ملاحظة مهمة، ألا وهي فكرة أن التوثيق استقرائي تعني أن هذا الحكم بُني على ملاحظة الأغلب، وليس قاعدة مطلقة. لهذا السبب نجد أن ابن القطان نفسه يشير إلى أن هذه القاعدة لم تكن نصًّا مكتوبًا لأبي داود، بل كانت استنتاجًا من خلال تتَبُّع منهجه؛ ولكن هذه النتيجة لا تعني أن أبا داود التزم بهذا بشكل صارم في كل رواية.
– الطبيعة الاستقرائية للقاعدة:
يشير الشيخ – حفظه الله – إلى أن هذه القاعدة هي نتيجة استقرائية وليست شرطًا ثابتًا، فهي تمثل أغلبية ولا تشمل كل شيوخ أبي داود؛ إذ نجد أن بعض شيوخه مجهولو الحال أو تم انتقادهم من قبل نُقَّاد الحديث.
إن استقراء شيوخ أبي داود يظهر أن قاعدة “أبو داود لا يروي إلا عن ثقة” هي قاعدة أغلبية وليست كلية أو مطلقة. أضاف ابن حجر العسقلاني توضيحًا مهمًّا عندما قال في “تهذيب التهذيب – ط دبي” (3 /305): “وهذا مما يدل على أن أبا داود لم يروِ عنه، فإنه لا يروي إلا عن ثقة عنده”، مشيرًا إلى أن مفهوم “الثقة” قد يختلف من شخص إلى آخر، وذلك عندما ذكر قيد “عنده”. ما يعتبره أبو داود ثقة قد لا يكون كذلك عند نُقَّاد آخرين.
وهذا الاختلاف بين المحدِّثين يفتح الباب أمام تفسيرات مختلفة لمفهوم “الثقة”. ربما وجد أبو داود أن بعض الرواة موثوقون بناءً على تجاربه معهم، لكن ذلك لا يعني أنهم لم يُنتقدوا من قِبَل غيره؛ بل إن بعض الرواة المعتبرين ثقات عند أبي داود قد يكونون قد أخطأوا أو ضُعِّفوا في مواقف معينة؛ مما يجعل الحكم عليهم معقدًا.
على سبيل المثال، ذكر ابن حجر عن أبي عبدالله بن الموَّاق في ترجمة عمر بن هشام القبطي في “تهذيب التهذيب – ط دبي” (9 /833-834) رقم (5245) أنه “من مشايخ أبي داود المجهولين”، وقال فيه الذهبي: “لا يكاد يُعْرَف”. وهذا يؤكد أن قاعدة “أبو داود لا يروي إلا عن ثقة” لا يمكن تعميمها على كل شيوخه أو رواياته.
التطبيق العملي لهذه القاعدة:
عند تطبيق هذه القاعدة على أرض الواقع، نجد أن أبا داود لم يكن ملتزمًا بها بشكل صارم. وقد ذكر الشيخ – حفظه الله – الكثير من الحالات التي تدل على أن أبا داود لم يُلزم نفسَه بهذه القاعدة. فقد روى أبو داود عن عدد من الرواة الذين ضعَّفهم هو نفسه أو نقاد آخرون. على سبيل المثال، نجد أن أبا داود ضعَّف إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، وإسماعيل بن موسى الفزاري، ومع ذلك روى عنهما.
قال أبو داود عن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، كما نقله ابن حجر في “تهذيب التهذيب – ط دبي” (1 /390-392) رقم (237): قال أبو داود: ليس بشيء. وقد روى عنه أبو داود في “سنن أبي داود – ط دلهي مع عون المعبود” حديثين هما: (2329)، (4032).
قال أبو داود عن إسماعيل بن موسى الفزاري، كما نقله ابن حجر في “تهذيب التهذيب – ط دبي” (1 /880 – 883) رقم (535): صدوقٌ في الحديثِ، وكان يتشيّعُ. وقد روى عنه أبو داود في “سنن أبي داود – ط دهلي مع عون المعبود” حديثين هما: (2149)، (4486).
قد يدل هذا التناقض في تطبيق القاعدة على أحد أمرين:
إما أن أبا داود كان يأخذ بعين الاعتبار عوامل أخرى غير مجرد “الثقة”، مثل الحاجة إلى مرويات معينة، أو ربما غياب البديل الأفضل في بعض الحالات. وهذا يعكس المرونة التي كانت لدى المحدِّثين في تعاملهم مع الرواة، حيث قد يتساهلون في بعض الحالات بضوابط محددة تدعمها القرائن.
وإما أن يدل على عدم صحة القاعدة أو عدم ثبوتها من الأساس، ويقوي هذا أنها قاعدة استقرائية لم تأتِ عن نصٍّ صريح واضح، وهذا هو الراجح والله أعلم.
وقد ذكر الشيخ – حفظه الله – الكثير من الأمثلة، فليُرجع إليها لأهميتها في بيان تناقض التطبيق العملي للقاعدة وعدم ثبوتها.
خطورة تعميم القاعدة وجعلها كلية لا أغلبية:
أبرز الشيخ – حفظه الله – خطورة اعتماد هذه القاعدة التي لم تثبت نصًّا، وجَعْلِها كلية، في الحكم على مرويات أبي داود في كتبه.
عرض الشيخ – حفظه الله – لانتقادات علمية منهجية، تتسم بالدقة واللياقة، لبعض الذين اعتمدوا على قاعدة “أبو داود لا يروي إلا عن ثقة” بشكل غير دقيق؛ مما أدى إلى ترقية بعض الرواة إلى مرتبة “الثقة” بدون مبرر كافٍ، أو دراسة شاملة لحالهم. وقد ذكر العديد من الأمثلة لهذه الانتقادات.
وأبرز الشيخ – حفظه الله – عند المقارنة بين صنيعهم وصنيع ابن حجر، في كتابه “تهذيب التهذيب”، أن ابن حجر كان أكثر حذرًا وحيادًا في توثيق الرواة مقارنة. كان ابن حجر يميز بين “الثقة عند أبي داود” وبين “الثقة المطلقة”.
خطورة تطبيق القاعدة على مصنفات أبي داود بخلاف السنن:
أشار الشيخ – حفظه الله – إلى أن هذه القاعدة لا يمكن بحال تعميمها على مصنفات أبي داود بخلاف السنن، مثل “المراسيل”، بل النقاش مقتصر على “السنن”، مع عدم ثبوتها على إطلاقها فيه.
ثم ناقش – حفظه الله – خطورة توسيع تطبيق القاعدة لتشمل جميع مصنفات أبي داود، فإن ذلك سيؤدي إلى نتائج خاطئة. السبب هو أن أبا داود في بعض مصنفاته الأخرى كان أقل تشدُّدًا في اختيار الرواة، مثل كتابه “المراسيل”؛ لذا فإن نقل هذه القاعدة إلى تلك المصنفات قد يضر بالدقة العلمية في نقد الرجال، فالتوثيق المفرط بناءً على هذه القاعدة دون تدقيق قد يؤدي إلى قبول روايات ضعيفة أو مجهولة. وهذا من الأمور التي قد تؤثر على دقة استنباط الأحكام الشرعية والفقهية من تلك الروايات.
الخلاصة:
قاعدة “أبو داود لا يروي إلا عن ثقة” هي قاعدة استقرائية وليست شرطية، ولا تصلح كمعيار عام لتوثيق كل شيوخه، بل هي قاعدة استقرائية جزئية لا تشمل جميع الرواة في مصنفاته؛ لذلك من غير المقبول الاعتماد عليها لتوثيق رواة غير معتمدين أو ضعفاء في مصادر أخرى. تطبيق هذه القاعدة بشكل مفرط دون مراجعة حالة كل راوٍ يؤدي إلى توثيق غير مبرر لبعض الرواة. كما أن توثيق الرواة لا يجب أن يعتمد على هذه القاعدة وحدها، بل يجب مراجعة كل رواية بشكل نقدي منفصل.