هل لك سر عند الله؟ (خطبة)


هل لك سر عند الله؟ (خطبة)

 

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:

فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((انطلق ثلاثةُ رهطٍ ممن كان قبلكم حتى أوَوا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم)).

 

وأنا أقرأ عليكم هذا الحديث – أحبتي الكرام – تخيلوا هذه القصة، تخيلوا هذا الموقف، يحكيه خير البرية، وأصدق الإنسانية؛ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فهو واقع حصل، حكاه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به كما كان؛ لأنه لا ينطق عن الهوى؛ ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4].

 

قال عليه الصلاة والسلام: ((فقال رجل منهم))؛ أي من الثلاثة الذين دخلوا الغار، وانحدرت صخرة من الجبل فسدَّت عليهم الغار، فأصبحوا في مكان لا يعلم بهم إلا الله وحده، ليس بينهم وبين الموت إلا أوقات محدودة.

 

((فقال رجل منهم)) في هذا الموقف العصيب: ((اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبِق قبلهما أهلًا ولا مالًا))؛ أي: لا أقدم أحدًا على أمي وأبي، هما ومِن بعدهما باقي الناس من الأهل والأصحاب وغيرهم.

 

اللهم ارزقنا بر والدينا يا رب العالمين.

 

((فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أُرِحْ عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غَبُوقهما، فوجدتهما نائمَينِ وكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا))؛ أي: أنا ثابت يا رب، موقفي ثابت، لا أقدم أحدًا من الناس على أمي وأبي.

 

((فلبِثتُ والقَدَحُ على يديَّ، أنتظر استيقاظهما حتى بَرَقَ الفجر))؛ أي: ظل الليل كله يحمل الإناء – إناء والديه – رحمه الله ورضي عنه.

 

فلنحذر يا أحبة من تقديم الزوجات وغيرهم على برِّ الوالدين.

 

((فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج)).

 

الله أكبر! الأعمال الصالحة تحرِّك الصخر – أيها الأحبة – بمشيئة الله وأمره، سبحانه جل في علاه.

 

تُغيِّر مجرى الأحداث، تُغيِّر السنن الكونية، يتحرك الصخر بأمر الله جل في علاه.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الآخر))؛ انظر إلى العفة وقيمتها في دين الله تبارك وتعالى.

 

((اللهم كانت لي بنتُ عمٍّ، كانت أحبَّ الناس إليَّ، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سَنة من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّيَ بيني وبين نفسها، ففعلتْ)).

 

الله أكبر! ما أحوجنا لهذه القصة ونحن في زمن الفتن، في زمن الشهوات، والله المستعان!

 

قال: ((فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت الذهب الذي أعطيتَها)).

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من يضمن لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رجليه، أضمن له الجنة)).

 

اللهم ارزقنا العفة يا رب العالمين.

 

((فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ))، هل تعتقد أن رجلًا امتلأ قلبه بحب الشهوات يترك هكذا أمرًا؟

 

لا شك أن هذا الرجل كان يغض بصره – أيها الأحبة – ويسعى في مجاهدة الشيطان ووساوسه، ولكن الشيطان كان يدافعه بين الفَينة والأخرى، فقوَّاه الله وثبَّته في هذا الموقف الصعب؛ كما ثبت يوسف عليه السلام؛ قال ربنا جل في علاه: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 23، 24].

 

فمن الذي صرف السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام، وعن هذا الرجل الذي معنا في هذه القصة؟ إنه الله سبحانه وتعالى.

 

فاسأل نفسك – أخي الحبيب – إن عرضت لك فتنة، هل أنت ممن يعصمهم الله؟

 

إن كنت كذلك، فاحمدِ الله، وإلا فابكِ كثيرًا، ابكِ كثيرًا أن الله سبحانه وتعالى خلَّى بينك وبين نفسك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

قال هذا الرجل العفيف الصالح: ((اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة))، تحركت الصخرة، ((غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها)).

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أُجَرَاءَ، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمَّرت أجره حتى كثُرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبدالله، أدِّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبدالله، لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا)).

 

الله أكبر! الدنيا ليست في قلبه أيها الأحبة، يريد ما عند الله، وأدى الأمانة بحقها، ثم دعا الله فقال: ((اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون)).

 

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، الحمد لله الذي بشكره تزيد النعم، الحمد لله الذي ما ختم جهد إلا بعونه، ولا تم سعيٌ إلا بفضله وتوفيقه، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

 

نعم أيها الأحبة، هل لنا أعمال صالحة حتى إذا ضاقت بنا الدنيا دعونا الله جل وعلا بتلك الأعمال، ورجوناه أن يفرج عنا بما مكننا من عمله سبحانه وتعالى؟

 

هناك من يسعى في هذه الدنيا جاهدًا؛ ليترك لأولاده أموالًا، لكننا نقول له: هل علمت أولادك معنى الالتجاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى؟

 

ففي هذه الدنيا كروبٌ، وفي هذه الدنيا أمورٌ لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، والأب الصالح يترك لأولاده معانيَ يسيرون عليها، ويتذكرونها في كل حين، ويذكرون أباهم بخيرٍ ودعاء.

 

اللهم ارزقنا وذرياتنا صدقَ الالتجاء إليك وحدك لا شريك لك يا رب العالمين.

 

اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، ولك الثناء كله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].

 

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
سلسلة جود قراءتك للمبتدئين (الحلقة الثانية)
قبس من الصحراء (قصيدة)