هل يخفف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين؟


هل يُخفَّف العذاب عن أبي لهبٍ يومَ الاثنين؟

 

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأسعد وأشقى، ومنع وأعطى، وأضلَّ بحكمته وهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العليُّ الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى؛ أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أحبتي في الله…

كلَّ عام إذا اقترب شهر ربيع الأول ينطلق بعض الدعاة والمشايخ إلى تكريس مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي، والترويج له، متذرِّعين ببعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، التي يحرِّفونها عن مواضعها، ويَلْوُون عُنُقَ النص لتأكيد دعواهم، ولم يكتفوا بذلك، بل عمدوا إلى بعض الأحاديث والآثار المكذوبة، ولم يتورَّعوا عن بثِّها في الناس، مُوهِمين إياهم بصحتها، ومن بين هذه الآثار ما يُروى من خبر أبي لهب أنه يُخفَّف عنه العذاب يوم الاثنين؛ لأنه أعتق ثُوَيْبَةَ لما بشرته بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وتجرأ بعضهم فنسب ذلك الأثر إلى صحيح البخاري، ثم قالوا زاعمين: إن كان أبو لهب الذي مات على الكفر، وناهض الدعوة بكل قُواه، قد كُوفئ على فرحه بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التخفيف، على الرغم مما كان منه من الكفر، ومناهضة دعوة الإسلام، فما بال المسلم الذي يؤمن بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويفرح لمولده؟

ثم تمادى بعضهم حتى عدَّ هذا الاحتفال البدعيَّ علامةَ محبةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، ورمى المخالفين المنكرين لهذا الاحتفال بخلوِّ قلوبهم من هذه المحبة، وبذلك نزع عنهم الإيمان بالكلية، خاصة مع ما تقرر من الشرع الحنيف أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصلٌ من أصول الإيمان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين))[1].

 

فأما زعم هؤلاء الدعاة – هداهم الله، وعفا عنهم – أن النبي صلى الله عليه وسلم قد احتفل بمولده، فغاية مستندهم حديثُ أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن صوم الاثنين، فقال: ((فيه وُلدتُ، وفيه أُنزل عليَّ))[2]، هذا دليلهم، وتلك حُجَّتُهم، ولكن هذا الحديث – مع صحته – فقد سمِعه صحابة رسول الله، ونقلوه إلى التابعين لهم بإحسان، فهل فهِم منه بعضهم هذا المعنى؟

فإن كانت الإجابة: نعم، قلنا لهم: فكيف فهِموا ذلك، ولم يقيموا هذا الاحتفال؟

وإن كانت الإجابة: لا، قلنا: فكيف سبقتم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان، إلى ذلك الفَهم، وقد كانوا أشدَّ منكم محبة لرسول الله، وحرصًا على تعظيمه وإجلاله؟

والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده قط، ولا فعل ذلك خلفاؤه وأصحابه، ولا التابعون لهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين، والحديث المذكور إنما نصَّ على عمل مخصوص – وهو الصوم – في يوم مخصوص – وهو يوم الاثنين – ومنه استنبط علماء الأمة مشروعية صيام يوم الاثنين “أسبوعيًّا”، فتوجيه الحديث إلى “الاحتفال بالمولد سنويًّا”، بكل ما ابتدعوه من مراسمَ وطقوسٍ، ومناسكَ وممارساتٍ بدعية – ما هو إلا تحميل للدليل ما لا يتحمَّله، وتنطُّع غير وارد ولا مقبول.

وإلا فماذا عن قوله صلى الله عليه وسلم: ((تُعرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأُحِبُّ أن يُعرَض عملي وأنا صائم))[3]، هل يُفهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتفل برفع عمله؟! أي استدلال هذا؟

ثم إنا لو رجعنا إلى أقوال العلماء الْمُجِيزين للاحتفال، لَوجدنا منهم إقرارًا تامًّا بأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من سلف الأمة على الإطلاق؛ فهذا الإمام شهاب الدين المقدسي الشهير بأبي شامة (ت: 665 هـ) يقول: “ومن أحسن ما ابتُدع في زماننا من هذا القبيل: ما كان يفعل بمدينة أربل – جبرها الله تعالى – كلَّ عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك – مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء – مُشعِرٌ بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله، وشكر لله تعالى على ما منَّ به من إيجاد رسوله، الذي أرسله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع المرسلين، وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب أربل وغيره، رحمهم الله تعالى”[4].

 

فهذا أبو شامة يقول: “من أحسن ما ابتُدع في زماننا”، فهو يجيز الاحتفال من منطلق أنه (بدعة حسنة)، لم يسُنَّها النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرر أن أول من بدأ الاحتفال هو الشيخ عمر بن محمد الملا بالموصل المتوفَّى سنة (570 هـ)؛ أي: في القرن السادس الهجري.

وها هو السيوطي أيضًا يقرر الآتي: “هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها؛ لِما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف، وأول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين، أحد الملوك الأمجاد، والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون، قال ابن كثير في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالًا هائلًا، وكان شهمًا شجاعًا، بطلًا عاقلًا، عالمًا عادلًا، رحمه الله وأكرم مثواه، قال: وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب بن دحية مجلدًا في المولد النبوي سماه: (التنوير في مولد البشير النذير)، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصِرٌ للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة، محمود السيرة والسَّرِيرة”[5].

 

أقول: فهذا السيوطي يقرر أن الاحتفال بدعة، وأول من احتفل به حاكم أربل أبو سعيد بن بكتكين المتوفَّى سنة (630 هـ).

وقد نسب السيوطي إلى الحافظ ابن حجر رحمه الله فتوى في هذا الصدد، نصُّها: “أصل عمل المولد بدعة، لم تُنقَل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرَّى في عملها المحاسن، وتجنَّب ضدها، كان بدعة حسنة، وإلا فلا”[6]، فإن صحَّ هذا النقل عن الحافظ ابن حجر، ففيه تقرير بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده، ولا أحد من سلف الأمة.

ولو تتبعنا سائر فتاوى المجيزين للاحتفال، لوجدناهم متفقين حول بدعية الاحتفال، وتأخر إحداثه، ومختلفين حول مبدئه، فمن قائل: أن أول من احتفل به أهل مكة في القرن السادس الهجري؛ كما نقل ابن جبير الرحالة، ومن قائل: إن الشيخ عمر بن محمد الملا الموصلي هو أول من احتفل به، وهو أيضًا في القرن السادس الهجري، وثمة من قال: إن الملك المظفر أبو سعيد بن بكتكين هو أول من أنشأ هذا الاحتفال، وأقره ابن دحية عليه، وهذا في القرن السابع الهجري.

لكن المشهور أن الفاطميين هم أول من أحدثوا هذا الاحتفال، على ما ذكره المقريزي في خططه، من الأعياد التي أحدثها الفاطميون، فقال: “وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم؛ وهي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه…”؛ إلى آخر ما قال[7].

 

بل إنك لو بحثت عن أي فتوى في شأن مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي، سواء أكانت بالإيجاز أو الإنكار، خلال القرون الأولى، وحتى نهاية القرن السادس الهجري – فلن تجد، ولن تجد قولًا واحدًا أو عبارة موجزة، لأحد الأئمة الأربعة – مثلًا – أو أحد أصحابهم، أو المتقدمين من مذاهبهم في هذا الصدد، وكل الفتاوى جاءت في القرون المتأخرة، وأصحابها مقرُّون تمام الإقرار بأن الاحتفال لم يكن موجودًا، أو معروفًا على عهد النبوة، ولا القرون الأولى الفُضلى، وإنما أُحدث متأخرًا، وهم أجازوه من منطلق أنه (بدعة حسنة) إن صحَّ هذا الاسم.

ومن ثَمَّ فإننا نواجه هؤلاء الدعاة والمشايخ بهذه الأسئلة: من الذي سنَّ الاحتفال بالمولد النبوي؟ ونعطيهم هذه الخيارات:

أ- النبي صلى الله عليه وسلم.

ب- أصحابه رضي الله عنهم من بعده.

جـ- التابعون وتابعوهم رضي الله عنهم.

د- الأئمة الأربعة ومن قاربهم في العلم والزمان، وأصحابهم.

هـ- العُبيديُّون (الفاطميون) الروافض، والمتأخرون بعدهم؟

وأعتقد أن الإجابة واضحة من فتاوى المجيزين، فما ظنك بالمنكرين؟

وهذا يعني أن مشايخ هذا العصر يقومون بالتدليس والتلبيس على العامة، فهم – أولًا – يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعمهم أنه احتفل بمولده، استنادًا لحديث صيام يوم الاثنين، ثم يستشهدون بفتاوى طائفة من العلماء يُجيزون الاحتفال بالمولد من منطلق أنه بدعة حسنة، ولم تَرِدْ عن السلف والقرون الأولى الفُضلى.

ونحو هذا ما يفعلونه بقول الله تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]، فوضعوه في غير موضعه، وبَنَوا عليه ما ليس فيه، فزعموا أن الآية نص في مشروعية الاحتفال؛ لأنه تعبير عن الفرح بمولده صلى الله عليه وسلم، والله أمرنا أن نفرح به!

فنسألهم: هل فهِم منها سلف الأمة من الصحابة الذين نزل فيهم القرآن، والتابعين لهم بإحسان، ما فهِمتوه، ولم يفرحوا بمولده كما فهِمتُم، أم جهلوا ذلك المعنى الذي سبقتم أنتم إليه؟

وهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: “بفضل الله: القرآن، وبرحمته: أن جعلكم من أهله”، وقال ابن عباس: “فضله الإسلام، ورحمته القرآن”، وقال هلال بن يساف: “بالإسلام الذي هداكم، وبالقرآن الذي علمكم”، وقال قتادة: “أما فضله فالإسلام، وأما رحمته فالقرآن”، وقال الحسن البصري: “فضله الإسلام، ورحمته القرآن”، وقال مجاهد: “القرآن”، هذا كله نقله ابن جرير الطبري[8] وغيره، وكان بوسعهم الرجوع إلى كتب التفسير المعتبرة، بدلًا من الاحتكام إلى أفهامهم وأهوائهم.

ثم إن الفرح بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وما جاءنا به من الهدى والبينات والشريعة الغرَّاء، لا ينبغي أن نحصره في موسم مخصوص، أو يوم معين دون بقية الأيام، والتعبير عن هذا الفرح لا ينبغي أن يخرج عن هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَّته، فهل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يفعله هؤلاء يوم مولده؟

وأما ما يحتجُّون به على ذلك مما يُحكى عن أبي لهب؛ حيث زعموا أنه يُخفَّف عنه العذاب يوم الاثنين من كل أسبوع، لأنه فرِح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بشرته به ثُوَيبةُ، وأعتقها مكافأة لها؛ حتى قال ابن الجزري: “فإذا كان هذا الكافر، الذي نزل القرآن بذمِّه جُوزِيَ في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحِّد من أُمَّتِهِ عليه السلام يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم؟ لَعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يُدخله بفضله العميم جناتِ النعيم”[9].

 

قلت: وأنشد بعضهم في ذلك:

 

ونقول لهم ردًّا على ذلك: “أثبِتِ العَرشَ ثم انقُش”؛ أي: أثبت صحة الدليل، ثم استنبط منه الحكم الشرعي، فالأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالدليل الصحيح.

وهذه الرواية التي يتشدَّقون بها، ويروِّجون لها على المنابر، وينسبونها كذبًا وزورًا إلى صحيح البخاري، والبخاري ما روى ذلك السياق ولا نقله، وإنما ما رواه البخاري في صحيحه ما قاله عروة بن الزبير تعقيبًا على حديث أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، ((حين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انكِحْ أختي بنت أبي سفيان، فقال: أوَ تُحبِّين ذلك؟ قالت: نعم، لستُ لك بمُخْلِيَة – أي: لست منفردة بك – وأَحَبُّ من شاركني في خيرٍ أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحلُّ لي، قالت: فإنا نُحدِّث أنك تريد أن تَنْكِحَ بنت أبي سلمة؟ قال: بنت أم سلمة، قالت: نعم، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلَّت لي، إنها لابنة أخي من الرَّضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيبةُ، فلا تعرضْنَ عليَّ بناتِكن ولا أخواتِكن، قال عروة (معقبًا): وثويبة مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُرِيَه بعض أهله بشرِّ حِيبةٍ – أي: في شر مكانة وسوء حال – قال له: ماذا لَقيتَ؟ قال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم غير أني سُقيتُ في هذه بعَتَاقَتِي ثُوَيبةَ))[10].

 

أقول: ما يعنينا هنا هو هذا التعقيب من عروة، وفيه ملاحظات:

1- أنه من كلام عروة بن الزبير، وهو من التابعين رضوان الله عليهم؛ أي: إنه أثر مقطوع، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

 

2- أن ما ذكره عروة رؤيا منامية تحتمل الوقوع وعدمه؛ قال الحافظ: “فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حُجَّة فيه”[11].

 

3- أن الرواية لم تذكر صاحب هذه الرؤيا، سوى أنه من أهل أبي لهب، ومن ثَمَّ لا يُعلَم حاله حتى نقبل خبره؛ قال الحافظ: “ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعدُ، فلا يُحتَجُّ به”[12].

 

4- فإن قيل: إنه العباس رضي الله عنه – كما وقع عند السهيلي – فهذا كفيل بردِّ الرواية؛ لأن عروة كان صغيرًا عند موت العباس، ولا يُعرَف له سماع منه؛ ولهذا قال الحافظ: “الخبر مرسل أرسله عروة، ولم يذكر من حدَّثه به”[13]؛ أي: إنه ثمة انقطاع ها هنا، وعلى فرض أنه العباس أيضًا، فلا يُعرَف متى كانت تلك الرؤيا في جاهليته أم في إسلامه.

 

5- ظاهر السياق أن عتق ثويبة كان قبل مولد النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك قوله: “كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم”، وهذا فيه خلاف، قال الحافظ: “والذي في السير يخالفه، وهو أن أبا لهب أعتقها قبل الهجرة، وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل”[14].

 

6- وهو الأهم: أن الأثر ليس فيه أي ذكر لميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوم الاثنين، ولا حتى تخفيف العذاب، بل غاية ما فيها أنه “يُسقى في هذه”، قيل: هي نقرة تحت إبهامه، وقيل: بل بين الإبهام والتي تليها من الأصابع، فمن أين جاؤوا بهذا الزعم أن ثويبة بشَّرت أبا لهب بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومن أين جاؤوا بأنه يُخفَّف عنه العذاب؟ ومن أين جاؤوا بذكر يوم الاثنين؟

 

7- ظاهر الرواية أن عتق ثويبة هو المقصود في حد ذاته، باعتباره سبب تخفيف العذاب عن أبي لهب؛ بمعنى: أنه جُوزِيَ على إعتاقه ثويبة باعتباره عملًا صالحًا قدَّمه لنفسه، وهذا يدل على أن الكافر يجُازى بما قدمه من العمل الصالح في دنياه، ويعارضه صريح القرآن الكريم، بأن الكفار لا تنفعهم أعمالهم الصالحة في الآخرة؛ ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وقال جل شأنه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18]، وقد قرر القاضي عياض الإجماعَ على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها بنعيم، ولا بتخفيف عذاب.

 

فإن قالوا: إن أبا طالب قد تقرَّر أنه خُفِّف عنه العذاب في الآخرة، قلنا: إن تخفيف عذاب أبي طالب كان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له، لا بما قدمه من عمل صالح، فهل ثبت عندكم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع لأبي لهب مثلما شفع لأبي طالب؟ ثم إن الدليل في تخفيف عذاب أبي طالب دامغ، وهو ليس كذلك في شأن أبي لهب، وقد فصلنا القول في ذلك، فانظر أعلاه.

 

أما ما زعموه من تخفيف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين، فإنما أورده السهيلي في الروض – لا البخاري – بعد أن ساق أثر عروة الذي تقدم، ثم قال: “وفي غير البخاري أن الذي رآه من أهله هو أخوه العباس، قال: مكثت حَولًا بعد موت أبي لهب لا أراه في نوم، ثم رأيته في شر حال، فقال: ما لقيت بعدكم راحة إلا أن العذاب يُخفَّف عنى كل يوم اثنين؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلِدَ يوم الاثنين، وكانت ثويبة قد بشَّرته بمولده، فقالت له: أشعرتَ أن آمنة ولدت غلامًا لأخيك عبدالله؟ فقال لها: اذهبي، فأنتِ حرة، فنفعه ذلك”[15].

 

قلت: فهذا السهيلي نفسه يصرح في صدر روايته بأنها (في غير البخاري)، ولم يذكر أين، فهي رواية بلا عزوٍ وبلا إسناد يُعرَف، فانظر كيف كذبوا وزوَّروا فنسبوها إلى البخاري لتقرير صحتها؟! وهي بلا مصدر، وبلا إسناد أصلًا.

وإن أبا لهب هذا الذي يزعمون أن العذاب يخفَّف عنه كان أول من اغتمَّ برسالته صلى الله عليه وسلم، وأول من تصدى لها وناهضها، وأول من جهر بمحاربتها، وقد كافأه المولى عز وجل بأن أنزل فيه سورة بتمامها، ما زالت تُتلى إلى قيام الساعة، وهو الوحيد الذي صرَّح القرآن الكريم باسمه من بين جميع الكفار الذين حاربوا الدعوة، وهو شيء لم يحصل عليه أبو جهل ولا أضرابه، فأين فرح أبي لهب بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل فرحه – على فرض حدوثه – له اعتبار في تلك الحال، حتى يُثاب عليه؟

 

ولو كان لأبي لهب عند الله تعالى أدنى كرامة، هل كان ليشهِّر به في الآفاق، وبين طباق الناس، بقرآنٍ يُتلى إلى قيام الساعة؟

 

وأخيرًا: قد تبيَّن من كل الوجوه أن هذا الأثر باطل، ومثل هذه الآثار فيها من الخطورة ما فيها؛ حيث يتخذها بعض الفُسَّاق والفجَّار ذريعةً لاقتراف المعاصي، والتجرؤ على الذنوب الكبار، وتضييع الفرائض، ثم ينتظر أحدهم المولد النبوي من الحول إلى الحول ليشارك في بعض الاحتفالات البدعية، ولسان حاله: ها أنا فرِح بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان أبو لهب الكافر يخفَّف عنه العذاب لفرحه بالمولد، فأنا أولى منه بتخفيف العذاب أو منعه بالكلية، وبذلك يُقبِل على المعاصي والذنوب مؤملًا مطمئنًّا.

 

فيا أيها الدعاة والمشايخ الذين تتجرَّؤون على الدين والسُّنَّة هذا التجرُّؤ، وتُجيزون البدع والضلالات، استنادًا إلى آثار باطلة، ونصوص تضعونها في غير مواضعها، لا تُحمِّلوا أنفسكم أوزار غيركم بترديد مثل هذه الأباطيل، فيغتر بها العوام، ويُشمِّرون لها، وأنتم تَرَون بأعينكم ما يجري في تلك المناسبات من مخالفات وخروقات وآثام؛ واذكروا دائمًا قول الله تعالى: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [النحل: 25].

 

ألَا هل بلَّغت؟ اللهم فاشهد.

 

وصلِّ اللهم على سيدنا ومولانا محمد، وسلم تسليمًا كثيرًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


[1] رواه البخاري (15) ومواضع، ومسلم (44)، عن أنس رضي الله عنه.

[2] رواه مسلم (1162)، وأحمد (22541)، والنسائي في الكبرى (2790)، وابن خزيمة (2117)، والحاكم (4179).

[3] رواه الترمذي (747)، والدارمي (1792)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 23)، دار الهدى – القاهرة.

[5] الحاوي للفتاوى، حسن المقصد في عمل المولد: (1/ 222)، دار الفكر – بيروت.

[6] المرجع السابق: (1/ 229).

[7] المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: (2/ 436)، دار الكتب العلمية – بيروت.

[8] جامع البيان في تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري: (15/ 105) وما بعدها، مؤسسة الرسالة.

[9] شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: (1/ 261)، دار الكتب العلمية – بيروت.

[10] صحيح البخاري: (5101).

[11] فتح الباري لابن حجر: (9/ 145)، دار المعرفة – بيروت.

[12] المرجع نفسه.

[13] المرجع نفسه.

[14] المرجع نفسه.

[15] الروض الأنف: (5/ 191)، دار إحياء التراث العربي – بيروت.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Book Review: Always the muse, never the poet! – Reviews – Books – Ahram Online
{ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}