وأي داء أدوأ من البخل؟
وأيُّ داء أدوأُ من البخل؟
أيها البخيل، رفقًا بذاتك العليلة؛ فقد أحكمتَ الضيق عليها، بعدم إفساحك سُبُلَ الجود لها، أليس عليك من حقٍّ لها ببرِّها، وإطلاق يدك الْمُمْسِكة لإكرامها، أم أن الإمساك طغى، فألغى كل إحساس جميل لديك، وكل فعل أصيل عليك، فصار الإمساك أصلًا، وما عداه عاداه؟[1]
أيها البخيل الذي ليس له مثيل، ولم أعهَدْ له نظيرًا، آهِ من شُحِّك، وعظيم تقتيرك، وفائق بخلِك؛ فقد صرخ المال من شدة إمساكك، ونطق البُكم من هول بلائك، وأبصر العُميُ لشدة إعيائك؛ إذ تجاوزت مراحل الإصلاح، والتعافي، والدعاء بالشفاء، وتمني زوال الحرص، وانتهاء البخل، فلا صلاح يُرجى، ولا شفاء يُهوى، سوى استفحال الوباء بمزيد من الإعياء؛ لتفاقم الأدواء بكثير من الداء[2]، وقد صدق الجاحظ في حُكْمِهِ عليك بأن لا أمل لديك في شفائك من دائك، قائلًا: “سِقام الحرص ليس له شفاء، وداء البخل ليس له طبيب”.
وها نحن نعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأي داء أدوأ من البخل؟)) جملة لو يعقِلها عاقل لوُزِنت بأثقل الموازين، ولسُطِّرت بأنْفَسِ الْمِداد، ولَكُتبت بماء الذهب، ولُعلِّقت على أستار الكعبة؛ فالمعنى: وأي ذنب أقبح من البخل صفة؟ وأي مرض أشد وقعًا، وأكثر بأسًا، وأقطع ألمًا من الشح علة؟ فقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل))[3]، فالبخل لا يقتصر ضرره بنفس الشحيح فقط، بل يتعداه لكل الأنفس المخالطة له، والمحيطة به، فيصيبهم ضيق بالنفس، واضطراب بالقلب، وكَدَر، وكَرْب، وقنوط، ويأس، وشدة البأس لقوة الإمساك، وتقتير الإنفاق، فلا يُسَرُّ بالحياة التي يسَّرها الله، ولا إبداء لنِعَمٍ تكاثرت، وفضائلَ تناثرت سوى الهم، والغم، وضيق ذات اليد من كيف، وكم، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم بني سلمة: ((من سيدكم؟)) أي: من رئيسكم، فأجابوه أنه الجد بن قيس، وقد كان الجد بن قيس أحد السادة القدماء المطاعين في بني قَيْلَة من الأوس والخزرج، وقد كانت سبيله في النِّفاق سبيلَ عبدالله بن أُبَي بن سلول، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: على أنَّا نُبخِّله؛ أي: نصفه بصفة البخل؛ يمنع حقوق الله، وحقوق الآدميين، ويمنع معروفه، ويسيء عشرة أهله وأقاربه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأي داء أدوى من البخل؟))؛ بمعنى: أي عيب أقبح من أن يُصاب الإنسان بصفة البخل، فاختار لهم النبي صلى الله عليه وسلم سيدًا آخر غير هذا السيد البخيل، فقال: ((بل سيدكم عمرو بن الجموح))، وكان عمرو على أصنامهم في الجاهلية سادنًا، وخادمًا لها، ولكنه أسلم، وحسن إسلامه، ومن كرمه أنه كان يُولِم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج؛ أي: يقوم بعمل الوليمة عنه؛ فعن جابر بن عبدالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سيدكم يا بني سلمة؟ قلنا: جد بن قيس على أنَّا نبخِّله، قال: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح))[4].
إن مخالفة هوى النفس، والتغلب على ما تأمر به من شحٍّ، وإمساك، وبخل – لَتوفيقٌ من الله تعالى وعونه، وليس بذكاء من الشخص، ولا بقوة في النفس؛ ((فقد جاء أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه ضيفًا، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامكِ، وأصبحي سراجكِ، ونوِّمي صبيانكِ إذا أرادوا عَشاء، فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانه أنهما يأكلان، فباتا طاوِيَينِ، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضحِك الله الليلة – أو عجِب – من فِعالكما، فأنزل الله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]))[5].
أيها البخيل، عافاك الله مما ابتلاك؛ فقد جمعت بين سيئتين من أسوأ الخِلال، وأرذل الخبال؛ بخلًا بالمشاعر، وشحًّا بالمال، فالمشاعر الطيبة، والأحاسيس النبيلة الخيِّرة التي لا تستنزف مالًا، ولا تُرهق بالًا، سوى إظهارها من القلب للناس بلا أدنى جهد، والتي تعتبر بمنعها أشد إيلامًا، وأنكى إيذاءً من بخل المال، هي بالنسبة لك ضربُ محالٍ، وشيء لا يُنال، فالابتسامة من الموبقات، والضحك من المهلكات، كأنما فُرِضت عليهما ضريبة مال، فوجب وأدُهما حتى لا يتم التغريم بهما، فجُلُّ الوقت شكوى وخلافات، فالسِّلم لا يعرف لك طريقًا، وراحة البال لا تألفك كصديق[6].
حياتك كلها توتُّر، وبؤس، وكَدَر، وتنغيص، وقنوط، ويأس؛ فلا تسعى لتحسين حياتك البائسة، ولا تجتهد بحقٍّ لرفع دنوِّ يدك المفلسة، وكلما جاءتك فرصة لنجاتك من براثن هذا المستنقع، تعللت بحُجَجٍ واهية تصرفك ليس للنجاة، ولكن بمزيد من الهلاك، غرقًا في خضم أمواج أبحُرِ بُخْلِك العاتية؛ لتظل بها تقبع؛ لأنك بالإمساك نقضًا للجود أطمع[7].
فيا أيها البخيل، كيف تهوى الإكرام من سائر الناس، وأنت أضنُّ حتى بالابتسام، ولين الكلام، وبسط القِرى للأنام؟[8]
لا تسمع معاناة أحد، ولا أنين من فَقَدَ، إذا تعلق الأمر بإنفاقك المالَ؛ لذا حذرنا الإمام الشافعي من سؤالك، وحثَّنا بعدم طرق بابك[9] قائلًا:
فيا لسخائك الواهن، وكرمك الآسن، وإنفاقك الذي لا يحرك ساكن! فأين الصبر على المكروب، وإمهال ذوي الكروب؟ لقد ضقت ذرعًا بمد يدك لعون غيرك، وطابت نفسك بمد جميع الأيادي لك، وليس هذا من الإنصاف، بل هو عين الإجحاف[10]، فقد سُئل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن البخل فقال: “هو أن يرى الرجل ما ينفقه تَلَفًا، وما يُمْسِكه شرفًا”[11]، فهلَّا استمعت لنصح الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله:
أيها البخيل، إن البخل آفة تمحق مآثر الإنسان الخيرة، وتسحق خِلالَه الحَسَنة النَّيِّرة، وتمحو فِعاله الأصيلة الطيبة؛ فقد مُدِحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: صوَّامة قوَّامة إلا أن فيها بخلًا، قال: ((فما خيرها إذًا؟))[12].
أيها البخيل، لقد ضاقت نفسي بسماع نوادر شحك، واضطرب قلبي بمروري على صراط بخلك، فلا أطيق الضيق، ولا التضييق؛ فقد قال الغزالي بالإحياء: “النظر إلى البخيل يقسي القلب، ولقاء البخلاء كرب”[13]، وقالت أم البنين أخت عمر بن عبدالعزيز: “أفٍّ للبخيل، لو كان قميصًا ما لَبِسته، ولو كان طريقًا ما سلكته))[14].
أيها البخيل، ضدَّان لا يجتمعان: صلاح حال، وبخل مال؛ فقد قال حبيش بن مبشر الثقفي الفقيه: “قعدت مع أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والناس متوافرون؛ فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلًا صالحًا بخيلًا”[15]، قال يحيى بن معاذ: “ما في القلب للأسخياء إلا حب، ولو كانوا فُجَّارًا، وللبخلاء إلا بغض ولو كانوا أبرارًا”[16]، وقال الماوردي: “الحرص والشحُّ أصل لكل ذمٍّ، وسبب لكل لؤم؛ لأن الشح يمنع من أداء الحقوق، ويبعث على القطيعة والعقوق”[17].
إن البخل ليس قصرًا على شح المال، ولا حصرًا بمنع الأنفال؛ فقد يكون بإهمال أبسط الأشياء معنًى، وأدنى الفِعال مغزًى، كالنظرة بعين الاهتمام، والابتسامة للتقدير والاحترام، والتربيت على رأس الأبناء، واحتضانهم لحظات تفوُّقهم، أو حتى إخفاقهم، والتحدث إليهم، والاستماع لهم، وتقبل رأيهم، وتقويم سلوكهم، وتحفيزهم على تحمُّل المسؤولية، وتقدم الصفوف الأولية، وحضور المناسبات الاجتماعية، وإشعارهم بأن لهم قيمة، ورأيهم معتبَر، وزَلَلَهم مغتفر؛ فإهمال ما سبق بخل وغَبنٌ، وتحطيم لأنفس بحرمانها أيسرَ سُبُلِ إسعادها، وما ذاك إلا لقسوة بالقلب، وتحجُّر بالعقل، وضيق بالنفس[18]، فالأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الحسن، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي عَشْرةً من الولد ما قبَّلت واحدًا منهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو أملك أنْ نَزَعَ الله الرحمة من قلبك، إنما يرحم الله من عباده الرحماء، من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَم))؛ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تُقبِّلون الصبيان؟ فما نُقبِّلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة))[19].
وعن أبي هريرة، أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الحسن فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحدًا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يَرحمْ لا يُرحم))[20].
فللبخل أضرار وخيمة، ومسالبُ جسيمة؛ منها: حرمان الأجر المترتب على الإنفاق في الخير، وحرمان الأرزاق؛ للشح بالإنفاق، وضعف الإيمان لسوء الظن بالرحمن، وبغض أقرب الناس؛ للتقتير عليهم، والتضييق بهم، والوقوع في الإثم؛ لمنع الواجبات بالصدِّ عن الإنفاق بحسم، وحرمان البخيل نفسه وغيره من مُتَعِ الدنيا الحلال التي خاصمها بلا صلح، أو تقبُّل نصح[21].
أيها البخيل، ليتك تُمسِك بتلابيب فعل حاتم الطائي، وتقتفي أثره، فتحتذي حَذوَه، فينالك قطرة من أبْحُرِ كرمه، وبصيص من أشعة جوده؛ فيصير حالك لخير حال؛ حيث كان يتمنى الرزق ليبذله، ويخشى أن تحول قلة الحيلة بينه وبين الكرم[22]؛ فيقول:
ألَا سبيل إلى مال يعارضني كما يعارض ماء الأبطح الجاري ألا أُعان على جودي بميسرة فلا يرد نَدَى كفي إقتاري |
أيها البخيل، لن تعيش فوق عمرك، ولن يدخل معك مالك بقبرك؛ فعِشْ كريمًا سخيًّا على نفسك، قبل غيرك، ثم أفِضْ على من حولك، وحطِّم أغلال قيدك، قبل أن يحبسك قيد بخلك ما بقِيَ من أجلك، فلن ينفعك عند موتك سوى مالٍ تصدقت به، كصدقة أجريتها، فأبقت لك ثوابها، أو كرب فرَّجته، أو عُسْر يسَّرته، أو ولد صالح أحسنت إليه، وأغدقت عليه، وصرفت إكرامك لديه، فيدعو لك لا عليك[23]، فإياك حثَّ المقنع الكندي على الكرم بقوله:
إني أُحرِّض أهل البخل كلهم لو كان ينفع أهل البخل تحريضي ما قلَّ مالي إلا زادني كرمًا حتى يكون برزق الله تعويضي |
[3] صحيح البخاري (6370)، حدثنا محمد بن المثنى، حدثني غندر، حدثنا شعبة، عن عبدالملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، كان يأمر بهؤلاء الخمس، ويحدثهن عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر)).
[4] الراوي: جابر بن عبدالله، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الأدب المفرد، الصفحة، أو الرقم: 227، خلاصة حكم المحدث: صحيح التخريج: أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (296) واللفظ له، والبزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (9/ 318)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8913).
[5] (3798) صحيح البخاري، حدثنا مسدد، حدثنا عبدالله بن داود، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه،W3587 (3/ 1382)، [ش: أخرجه مسلم في الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، رقم 2054، (رجل) هو أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، (أصْبِحي) أوقدي ونوِّري، (يُريانه) من الإراءة؛ أي يتظاهران بذلك، (ضحِك) أي رضِيَ، (يؤثرون) يختارون ويفضلون، (خصاصة) حاجة، (يوق شح نفسه) يخالف هواها ويغلبها على ما أمرته بتوفيق الله وعونه، من الوقاية؛ وهي الحفظ، و(الشح) البخل والحرص، الحشر: 9] [4607].
[9] إحياء علوم الدين للغزالي، (3/ 255).
[11] الآداب الشرعية، لابن مفلح (3/ 299).
[12] رواه البيهقي في (شعب الإيمان) (7/ 442) (10912).
[13] الغزالي بإحياء علوم الدين (3/ 256).
[14] إحياء علوم الدين للغزالي، (3/ 255).
[15] الآداب الشرعية، لابن مفلح (3/ 311).
[16] إحياء علوم الدين للغزالي، (3/ 256).
[17] أدب الدنيا والدين (ص 224).
[19] صحيح البخاري (5998)، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن هشام، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.
[20] صحيح مسلم (2318)، وحدثني عمرو الناقد، وابن أبي عمر، جميعًا عن سفيان، قال عمرو: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.