واختار النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة
واختار النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا لَيْلَةً، فَقُمْتُ أَطْلُبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَوَجَدْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَا: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقُلْتُ: أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: لَا نَدْرِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا فِي أَعْلَى الْوَادِي هَدِيرًا كَهَدِيرِ الرَّحَا، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْنَاكَ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ»، فَقُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ مِنْ أَهْلِهَا»، ثُمَّ أَتَيْنَا الْقَوْمَ فَأَخْبَرْنَاهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ شَفَاعَتِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ مِنْ أَهْلِهَا»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُشْهِدُكُمْ أَنَّ شَفَاعَتِي لِكُلِّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا»[1].
دروس وعبر:
الشفاعة في الآخرة أمر ثابت في القرآن والسنة، والشفاعة هي طلب الخير من الغير للغير؛ كطلب النبي صلى الله عليه وسلم العفو من الله تعالى عن بعض المذنبين الذين ماتوا من غير توبة، وهي ثابتة بنص القرآن والحديث؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [الأنبياء: 28]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فَتَعَجَّلَ كلُّ نبي دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمتي لا يُشرك بالله شيئًا)[2].
وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «وقال ابن الجوزي: هذا من حسن تصرُّفه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه؛ لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره؛ لأنه جعلها للمذنبين من أمته، لكونهم أحوج إليها من الطائعين، وقال النووي: فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم، واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجتهم، وأما قوله: (فهي نائلة)، ففيه دليلٌ لأهل السنة أن من مات غير مشركٍ لا يُخلَّد في النار، ولو مات مصرًّا على الكبائر»؛ اهـ [3].
«(منها): ما قاله ابن بطَّال رحمه الله: فيه بيان فضل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء؛ حيث آثر أمتَه على نفسه، وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها أيضًا دعاءً عليهم بالهلاك، كما وقع لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام»[4].