{ودت طائفة من أهل الكتاب…}
﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾
﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[آل عمران: 69- 71].
﴿ وَدَّتْ ﴾ تمنت، وقيل: أحبَّت، والودُّ: «خالص المحبة»، ومن أسماء الله تعالى (الودود) بمعنى الوادِّ والمودود، فهو سبحانه وادٌّ لأوليائه وأصفيائه، وهو أيضًا مودود من أوليائه وأصفيائه.
﴿ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ وهم الأحبار والرهبان القسس والرؤساء فيهم.
﴿ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾ تمنَّوا إيقاعكم في الضلال؛ لتشقوا وتهلكوا مثلهم، وقال ابن عباس: “يردُّونكم إلى كُفْرِكم”.
وهذا الضلال الذي أرادوه بالمسلمين يمكن أن يُفسَّر بآية سورة البقرة: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 109].
وفيه بيان عداوة أهل الكتاب للمسلمين؛ حيث يودون لهم الإضلال، والطائفة من القوم، والغالب أن مشرب بقية القوم مشربها، فإذا كانت هذه الطائفة تودُّ هذا، فغيرها كذلك.
وفيه التحذير من أهل الكتاب، وأنهم يحاولون صدَّ المسلمين عن دينهم كالمشركين، وكل من الطائفتين تودَّان من المسلمين الضلال، يقول تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]، وقال تعالى عن المشركين من قريش: ﴿ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الممتحنة: 2].
فكل المشركين وكل الملحدين، أو كل من ادَّعى أنه صاحب کتاب.. کلهم ينبغي على المسلمين أن يعتقدوا أنهم أعداء ألدَّاء، ويودون أن يقضوا علينا وعلى ديننا بين عشية وضحاها، وأن يأخذوا الحذر منهم.
وفيه الرد على كل شخص يدعي أو يتوهم أن الكفـار يريدون الخير بالمسلمين.
وفيه إحاطة علم الله بما في قلوب الخلق؛ لقوله: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ ﴾ فإن الود محله القلب، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله تعالى.
﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾؛ لأن الإضلال ضلال ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ وما يدرُون ولا يعلمون أن وباله راجع إليهم حيث يتوغلون في الشر، فيضاعف لهم العذاب بضلالهم وإضلالهم.
وهم لا يفطنون لذلك لمّا دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة.
أو: ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم؛ ذكره ابن الجوزي.
وفي قوله: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ مبالغة في ذمهم؛ حيث فقدوا المنفعة بحواسهم.
وفيه تعزية المسلمين بما يريده بهم هؤلاء من الإضلال، فكأن الله تعالى قال: لا تخافوا منهم فإن الإضلال إنما يعود عليهم.. ولكن هذا في حق المؤمنين حقًّا الذين يؤمنون بدينهم ويفخرون به، ويعتزون به دون الذين يجعلون دينهم أقوالًا باللسان، أو حروفًا على الأوراق، وهم في الحقيقة يتبعون غيرهم، ويعظمون غيرهم في نفوسهم، فإن هؤلاء ربما يصابون برجس هؤلاء الكفار الذين يريدون إضلالهم.
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ التفات، وخطاب من الله لأهل الكتاب على سبيل التوبيخ.
﴿ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ المنزلة على نبيه محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتجحدون رسالته.
﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ أنها من عند الله، وأنه نبيُّ الله، وهو منعوت عندكم في التوراة والإنجيل، والمراد أحبارهم، أو تشهدون أنه نبيُّ الله بالمعجزات الواضحات.
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ إعادة ندائهم ثانية لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم.
﴿ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾؛ أي: خلطه به، كأنما كسا الباطل ثوب الحق حتى لا يُعرف فيؤخذ به.
ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة، حتى ارتفعت الثِّقَةُ بِجَمِيعِهِ.
قال أبو علي: يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على خلاف تأويلها؛ ليظهر منها للعوامِّ خلاف ما هي عليه، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون.
وقيل: هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72].
وقرأ يحيى بن وثاب: “تلبَسون”، بفتح الباء مضارع: «لبس»، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه، والباء في: بالباطل، للحال؛ أي: مصحوبًا بالباطل.
﴿ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾ يحتمل أن يراد به كِتْمَانُهُمْ تصديق محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويحتمل أن يُراد به كِتْمَانُهُمْ ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم، وهم يَعْلَمُونَهَا وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا.
والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل، وكتم الحق، وكأن الحق منقسم إلى قسمين: قسم خلطوه بالباطل حتى لا يتميز، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر.
﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية تنعى عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه؛ أي: لا يناسب من علم الحق أن يكتمه، ولا أن يخلطه بالباطل.
وقيل: “وأنتم تعلمون الحق”، بل وتعلمون حالكم أنكم لابسو الحق بالباطل، فهم يعلمون الأمرين: يعلمون الحق الصريح، ويعلمون أنهم قد خلطوا الحق بالباطل، ولا سيما اليهود؛ لأن اليهود عصوا الله وهم يعلمون أنهم عصوه، فعصوا الله على بصيرة.
وختمت الآية قبل هذه بقوله: ﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ وهذه بقوله: ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله، وهي أخص من الحق؛ لأن آيات الله بعض الحق، والشهادة أخص من العلم، فناسب الأخص الأخص، وهنا «الحق» أعم من الآيات وغيرها، و«العلم» أعم من الشهادة، فناسب الأعمُّ الأعمَّ.
والشهادة أقوى لكونها تقتضي أن يكون العالم كالمشاهد للشيء بحسه، والمشاهدة بالحس أقوى من المشاهدة بالذهن.