وفاة دكتور الرياضيات القدير خضر الأحمد


وفاة دكتور الرياضيات القدير خضر الأحمد

 

والد زوجتي د. بروفيسور خضر الأحمد في ذمة الله ظهر اليوم الجمعة 29/ 9/ 2023م في مدينة برلين/ألمانيا…

 

ولد عام 1932 في حيفا بفلسطين وعاش ما بين حيفا وعكا ولم يغادرهما عشقُه لهما وتفاصيلهما يومًا. غادر منازل طفولته ومراهقته وبداية شبابه مكرهًا ليستقرَّ مع عائلته في سوريا التي باتت بلدَه الثاني، ودمشق التي باتت المدينةَ الثانية التي عشقها ولم يشعر لحظةً أنه غريبٌ عنها وعن أهلها ككل فلسطيني عاش في سوريا.

 

فكان أن تزوَّج عام 1966 “نهلة بازرباشي” ابنة العائلة الدمشقية العريقة (والدُها كان محافظاً لمدينة دمشق وخال والدتها هو عبد الرحمن باشا اليوسف)، زوجته التي رافقته في رحلة الحياة في قصة حب جميلة استمرَّت ما يقارب الستين عامًا حتى غادر الدنيا، قصة حب كانت في كل صباح جديد تبدو وكأنها ابتدأت اليومَ فقط، فكانت أشهرَ قصة حب في كل محيطهما مهما كبِرا.

 

أنجبا ثلاثة أولاد بارِّين ناجحين في حياتهم الشخصية والمهنية والعلمية، أكبرهم زوجتي الصيدلانية رفيف، وأوسطهم طبيب الأسنان حامد الذي يحمل أيضًا ماجستير اختصاص في جراحة اللِّثَة، كما يحمل ماجستير في مجال تقنيات الحاسب، وثالثهم رزان التي تحمل بكالوريوس في علم المكتبات. من الجدير بالذكر أن أبناءه الثلاثة حصلوا على مقاعدهم الجامعية في الاختصاصات التي اختاروها بتفوُّقهم الدراسي دون أن يستخدموا المقعدَ الجامعي المتاح لوالدهم “الأستاذ ذو كرسي” كما ينصُّ القانون الذي يعطي الحقَّ لأحد أبنائه الدخول إلى أي فرع جامعي بغض النظر عن علاماته في الثانوية العامة.

 

كان معينًا لأبنائه الثلاثة مادِّيًّا كل بطريقةٍ وظرفٍ معين، وكان لزوجتي وأبنائي “جهاد ولين ونوار” نصيبٌ من ذلك في سنوات البعد القسري الصعبة التي عشتها بعيدًا عنهم، فعملُ زوجتي الصيدلانية لم يكن كافيًا لسدِّ الاحتياجات واعتذرَت زوجتي يومها عن قَبول الدعم المادِّي الذي قدَّمه لها كلٌّ من أختي وخالتي وصديقٌ لي كل على حدة، لكنَّها قبلت دعمَ والدها لعائلتنا ليعيشَ أبنائي بفضل ذلك كما تعوَّدوا دون أن يشعروا يومًا بأيِّ نقص مادِّي، ناهيك عن حبِّ ورعاية واصطحاب لهم في كل مناسبة للترفيه أو السياحة.

 

حصل على البكالوريا/الثانوية العامَّة في دمشق حاصدًا الترتيب الأول على كل سوريا، لكنه لم يرغب بدراسة الطب كما العادة في حالته لنفوره من منظر الدماء، بل قرَّر دراسة الرياضيات والفيزياء في كلية العلوم لعشقه لها، فكان أن حصل على البكالوريوس من جامعة دمشق قسم “الرياضيات والفيزياء” عام 1954 حاصدًا الترتيب الأول، ثم على دبلوم في التربية عام 1955 من جامعة دمشق.

 

عمل بعدها مدة مدرِّسًا للمادة في مدينة السويداء معيلًا لوالدته وإخوته بعد وفاة والده المبكِّر حتى شقوا طريقهم، ليتم لاحقاً ترشيحه وحصوله على بعثة لدراسة للدكتوراه في جامعة موسكو يوم كانت جامعة مميزة على مستوى العالم في مجال الرياضيات وفي الاختصاص الذي حصل فيه على شهادة الدكتوراه عام 1964 وهو “الميكانيك السَّماوي” الذي كانت كلٌّ من روسيا وأمريكا تتسابقان به كاختصاص نادر في الفيزياء والرياضيات لا تطبيقات عملية له إلا في روسيا وأمريكا، وهو ما دعاه على التوازي لدراسة والتعمق في دراسات الرياضيات التي أبدع فيها.

 

عاد إلى دمشق مدرساً في جامعتها عام 1965 رافضًا عروض العمل التي جاءته بداية من جامعة موسكو ثم من جامعات مختلفة في تلك الفترة وفي فترات لاحقة، ومنها جامعة ييل الأمريكية الشهيرة التي خرَّجت نصف رؤساء أمريكا، مباشرة بعد حصوله على الدكتوراة، فكان جوابه يومها: “لن أخذل سوريا التي أعطتني حقي وفضلتني كفلسطيني على السوري لتفوُّقي دون أي تمييز”، كما رفض لاحقًا عروض العمل التي جاءته من جامعات أمريكية خلال عمله أستاذًا زائرًا هناك عام 1986 كجامعة كولورادو سبرينكز وجامعة جنوب كاليفورنيا، مفضلا دائمًا العيش في سوريا ودمشق التي أحبَّ وأخلص لها، على أي شيء آخرَ مع كل الأزمات المعيشية التي كانت تمرُّ بها سوريا في تلك السنوات.

 

غادر دمشق عام 2012 ملتحقًا بأبنائه دون أن ينساها كما حيفا وعكا، سائلًا عن إمكانيته صحيًّا للعودة إلى دمشق كما كان يسألنا في أسابيعه الأخيرة، ومردِّدًا أن أحبَّ المدن له هي “حيفا” ثم “دمشق”.

 

لم أسمعه طَوالَ ثلث قرن يلفظ كلمة نابية، ولم أسمع منه شتيمة مهما صغُرت لأحد مهما كان الظرف، كما كان دائمًا دبلوماسيًّا لطيفًا مع كل من حوله ومن قابله في أي ظرف، ولم أسمعه يومًا يعلو صوتُه لأي سبب.

 

كان كريمًا معينًا ماديًّا بصمت لكثيرين من صلة رحمه القريبين والبعيدين، ومبادرًا لصلتهم في كل مناسبة وعيد، حاملًا مسؤولية أسرته (والدته وأخيه وأخواته الثلاث) بعد أن رحل والدُه باكرًا إلى بارئه حتى تجاوز كلٌّ منهم تلك الفترة، وبقي بارًّا بوالدته يزورها يوميًّا بلا انقطاع حتى وفاتها وهو في الستينات من عمره.

 

كان ذا شخصية مسالمة مرحة وثقافة عامة واسعة، بعيدًا عن أي عصبية طائفية أو قومية، مسلم يؤدِّي فروضه بعيدًا عن أي تشدُّد، من عاشقي الموسيقا العربية الأصيلة كما الموسيقا الكلاسيكية الغربية، كريمًا مع عائلته التي جابَ بها العالمَ سياحةً وأعطاها من السعادة والرفاهية دائمًا ما استطاع.

 

لم يتعامل بغضب يومًا مع أولاده، وقد ساوى دون تصنُّع ولا تشدُّق بين البنت والصبي في التعامل والحرية الشخصية التي منحها لهم بعيدًا عن أي قيود تقليدية، فأثمرت عندهم نُضجًا وتحمُّلًا للمسؤولية.

 

زهد دائمًا في المناصب ومتطلَّباتها المقيدة وحب الظهور، معتذرًا عن ترؤُّس قسم الرياضيات في جامعة دمشق، لكنه شارك في عدة مؤتمرات علمية وندَوات وورشات عمل في سورية والأردن والمملكة العربية السعودية وإيطاليا والولايات المتحدة.

 

عمل مدرِّساً ثم أستاذا مشاركًا ثم أستاذًا للرياضيات في جامعة دمشق منذ عام 1965 حتى تقاعده عام 1995، كما عمل أستاذاً في جامعة الملك سعود (جامعة الرياض) لفترتين متقطعتين مدتهما معًا خمس سنوات امتدتا ما بين أواخر سبعينات القرن الماضي وأواسط الثمانينات مبتعثاً من جامعة دمشق.

 

أنجز الكثير في خدمة اللغة العربية التي يتقنها، حيث أنجز جزءًا مهمًّا من “معجم المصطلحات العلمية في الرياضيات ” مع مراجعة ما تبقى منه والذي أصدره عام 2018 مجمع اللغة العربية في دمشق وهو المجمع الأقدم والأهم في العالم العربي.

 

أيضًا، ألَّف العديد من الكتب الجامعية و شارك في تأليف بعض كتب الرياضيات للمرحلة الثانوية في المدارس العربية، كما ترجم العديد من الكتب العلمية (منها ما بات يدرَّس في الجامعات بترجمته الرصينة)، ترجمها بأفضل وأرفع مستوى من العربية وهو العاشق للغة العربية المتمكن منها ناهيك عن تمكنه التام من اللغتين الإنجليزية والروسية وكأنهما لغته الأم، مع بعض الفرنسية، كما كان أحد المترجمين الرئيسيين ولعقود لمجلة “العلوم” التي تصدرها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي كنسخة عربية مترجمة معتمدة لأهم مجلة عالمية في مجال الأبحاث العلمية تصدر في الولايات المتحدة بنفس الاسم باللغة الإنجليزية.

 

من إنجازاته المهمة أيضاً البحوث التي نشرها على الدوام في أهم مراكز الرياضيات والفيزياء العالمية والتي كان لها أثر كبير في تقييم جامعة دمشق طوال تدريسه فيها، حيث يتم تقييم وترتيب الجامعات عالميا وفق البحوث التي ينشرها أساتذتها، فكان من القلة بل النادرة بين أساتذة الجامعات السورية التي قدمت بحوثاً حقيقية معتبرة علمياً عالميا في مختلف المجالات، وربما كان الوحيد في قسمه قسم الرياضيات الذي كان ينجز ذلك.

 

أيضاً كان باحثاً مشاركاً في واحد من المراكز المهمة جدًّا على مستوى العالم وهو “المركز الدولي للفيزياء النظرية” في مدينة “تيريستا” الإيطالية ما بين عامي 1990- 2005 مقدمًا بحوثه الدورية فيها دونَ الاستقرار هناك مكتفياً بزياراته السنوية لتقديم أبحاثه، وهي الأبحاث في مجال “الميكانيك السَّماوي – النظُم الدينامية” التي دخلت بالضرورة لاحقاً في تطبيقات تقنية كثيرة نستخدمها اليوم، تقنيات تشكل أبحاث الرياضيات والفيزياء أُسَّها باعتبار هذه العلوم هي أسَّ العلوم التطبيقية ومن ثم التقنيات المستندة إليها.

 

تقاعد من الجامعة عام 1995 لكنه استمر في نشاطه البحثي والترجمة حتى بضع سنوات خلت، وعمل أيضاً بعد تقاعده بين عامي 1995-2012 مستشارًا علميًّا لشركات صناعية كبيرة سورية (مجموعة مدار للألمنيوم / الصناعي أحمد دعبول – مجموعة الأمل للألمنيوم / د. موفق دعبول)، حيث كان الراحل د. موفق دعبول ود. مكي الحسني ود. مصطفى حمو ليلى ود. أنور الإمام وآخرين بمثابة أصدقاء العمر.

 

أيضاً كان أستاذًا مميَّزًا بعلمه وأسلوبه، فكتبَ أحدُ طلَّابه وهو الأستاذ عبد المجيد الحجِّي رحمه الله (توفي قبل عام ونيف)، وقد كان موجهًا لمادَّة الرياضيات وعضوَ لجنة تطوير المناهج في وِزارة التربية؛ كتب عنه قائلاً: “أحبَّه كلُّ مَن درسَ عنده، وتأثَّروا به وبأسلوبه المميَّز في التدريس”.

 

يقول الحديثُ الشريف: “إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاث؛ صدقةٍ جارية، وعلمٍ يُنتَفَعُ به، وولدٍ صالح يدعو له”. وقد جمع الدكتور البروفيسور “خضر الأحمد” الثلاثة بإذن الله؛ فقد كان بارًّا بكثير من رَحِمِه وغير رَحِمِه من المحتاجين منهم ماديًّا، فأعانهم حتى باتوا ركناً مفيدًا لمجتمعهم ولمَن حولهم. وبطلابٍ باتوا من مواقعهم عونًا لمجتمعهم وللإنسانية، وأبحاث عديدة له باتت مُدمجةً في كثير من التقنيات العالمية التي نستخدمها يوميًّا في حياتنا وروحُه بعضٌ منها دون أن يدري أو ندري، وأبناء ثلاثةٌ صالحون يدعون له في كلِّ لحظة مباشرة أو عبر تربيته لهم بكلِّ عمل مثمر مفيد يقومون به لأهلهم ومجتمعهم أينما حلوا في هذا العالم، وهم من لم يقصروا في ذلك، وأحفاد أخذوا منه كل ذلك.

 

هم زوجةٌ وأبناءٌ لم ينقطع برُّهم به في أيِّ لحظة وبكلِّ حبٍّ ممكن، خاصَّة في الأشهر التي تراجعت فيها حالتُه الصحية كثيرًا وتدريجيًّا بسرعة، بحكم الشيخوخة حتى بات مُقعدًا عاجزًا عن إنجاز أيِّ أمر شخصي مهما صغُر، ليقضيَها مُحاطاً بزوجته وأولاده بكل عناية وحب يمكن أن يحصلَ عليها شخص، دون لحظة أو همسة أو نبرة تأفُّف مهما صغرت، بل بحب خالص حقيقي في كل قولٍ وفعل، ورعاية غير محدودة بوقت أو جهد بدني أو نفسي، حب ورعاية جعلته يقضي ما تبقَّى من عمره سعيدًا بين من أحبَّهم، دون ألم جسدي أو نفسي، ليغادرنا راضيًا مرضيًّا بإذن الله.

 

الموت حق وحقيقة لا مفرَّ منها لكائن، فالراحلُ هو السابق ونحن به لا بدَّ لاحقون، فحتى لقاء قادم معه نقول: رحمه الله، وأثابه جنةً ورضوانًا وجمعنا الله برحمته معه في حياة أبدية قادمة في جنته حيث لا ألم ولا فراق بعدها.

 

وفاة دكتور الرياضيات القدير خضر الأحمد

الدكتور خضر الأحمد رحمه الله في بيته

 

نماذج من كتبه





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
والده عاتبه بسببه.. «في الشعر الجاهلي» يحاكم طه حسين بالصحف والبرلمان – فن
الكتاب الذي أشعل الحرب