{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين… }
تفسير قوله تعالى
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ… ﴾
قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 190 – 195].
قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾.
قوله: ﴿ وَقَاتِلُوا ﴾ الواو: استئنافية، والمقاتلة: المفاعلة من القتل، وهي ما يكون بين فريقين أو شخصين، والأمر للوجوب، وقد يكون القتال واجبًا عينيًّا، وقد يكون واجبًا على الكفاية، حسب الحال والحاجة.
﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي: في دين الله، وفق شرعه، ولإعلاء كلمته- عز وجل- كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[1].
فالقتال المشروع ما كان في سبيل الله، وفق شرعه، ولإعلاء كلمته عز وجل.
﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ أي: الذين يقاتلونكم من الكفار والمشركين، ممن يباشرون قتالكم حقيقة، أو حكمًا، ممن يساعدون على ذلك بالمال والرأي، ونحو ذلك.
وفي هذا بيان أن القتال إنما يكون لمن يُقاتِلون، دون من لا يقاتل كالنساء والصبيان ونحوهم.
وفيه إغراء وتهييج وتحريض للمؤمنين على القتال، كما قال تعالى بعد هذه الآية: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ [البقرة: 191].
وقال تعالى في سورة التوبة: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾ [التوبة: 36].
﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ الاعتداء: تجاوز الحد المباح إلى المحرم. أي: ولا تعتدوا فتقتلوا من لم يقاتل من النساء والصبيان والرهبان وأصحاب الصوامع، ومن يبذلون الجزية ونحوهم، أو تغلوُّا، أو تغدروا، أو تمثلوا، أو تقتلوا الحيوانات، ونحو ذلك.
كما كان صلى الله عليه وسلم ينهى جيوشه عن ذلك، ففي حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُـمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا»[2].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله، من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تُـمَثِّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع»[3].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان»[4].
وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، يقول: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلم، وكفَّ يده، فإن فعلتم، فقد اعتديتم »[5].
ومن الاعتداء أيضًا: ابتداء القتال في الأشهر الحرم، وفي الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 217].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 191].
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾: تعليل للنهي عن الاعتداء، أي: لأن الله- عز وجل- لا يحب المعتدين، بل يبغضهم، ويبغض ويكره الاعتداء، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].
وبالمقابل فهو- عز وجل- يحب أهل العدل، الذين لا يعتدون، كما قال تعالى: ﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].
قوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾.
قوله: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ ﴾ الضمير «هم» يعود إلى الذين يقاتلوننا من الكفار.
﴿ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ «حيث» ظرف مكان، أي: في أي مكان ﴿ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ أي: وجدتموهم وظفرتم بهم. وهذا يستلزم العموم في الزمان والمكان، أي: واقتلوهم في أي مكان وزمان وجدتموهم، وظفرتم بهم، قتال دفاع، وقتال ابتداء، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان في الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾، أو في الأشهر الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [المائدة: 2].
﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾؛ أي: وأخرجوهم من مكة حيث أخرجوكم منها، واضطروكم إلى الهجرة عنها، وأخرجوهم أيضًا من كل بلد أخرجوكم منه مجازاة لهم، على سبيل المقايضة والمجازاة، والجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ الفتنة في الأصل: الابتلاء والاختبار، والمراد هنا الفتنة في الدين بالكفر والشرك، وصد الناس عن دين الله، وإخراجهم منه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193]، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]؛ أي: فتنوهم بصدهم عن دينهم، وتحريقهم بالنار.
﴿ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾؛ أي: أعظم جرمًا من القتل الذي وقع منكم في الشهر الحرام، ومن قَتْلكم لمن يقاتلكم، كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].
كما أن فتنة المؤمن في دينه أشد من قتله؛ لأن القتل غايته الموت، لكن الفتنة بصد الناس عن دينهم غايتها إيقاعهم بالكفر، الذي عاقبته النار وبئس القرار، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].
ومن هنا يؤخذ أن غزو المسلمين فكريًّا، وإفساد عقائدهم وأخلاقهم، والتأثير على عقولهم أعظم جرمًا، وأشد ضررًا من الغزو العسكري.
والمصيبة أن هذا الغزو المُركَّز والمُسلَّط على المسلمين لطمس هويتهم الإسلامية يقع على أيدي كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، ممن تربعوا على عروش كثير من وسائل الإعلام المشاهدة والمسموعة والمقروءة، ممن هم من جنسنا ويتكلمون بلغتنا، مصداق قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة رضي الله عنه وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها». قال حذيفة: قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: «هم من جنسنا ويتكلمون بلغتنا»[6].
﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾، قرأ حمزة والكسائي وخلف: «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم» بدون ألف بعد القاف في المواضع الثلاثة، وقرأ الباقون بألف بعد القاف فيها: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ ﴾.
قوله: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية، أي: ولا تقاتلوهم ابتداءً ﴿ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾؛ أي: في مكة، داخل حدود الحرم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم»[7].
﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ «حتى» للغاية، والضمير في قوله: «فيه» يعود إلى المسجد الحرام، أي: حتى يقاتلوكم في الحرم، بأن يبدؤوا القتال بأنفسهم.
﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ أي: فإن قاتلوكم في الحرم- ولم يرعوا حرمة الحرم، فاقتلوهم فيه معاملة لهم بالمثل، ودفاعًا عن دينكم ودمائكم وأعراضكم وأوطانكم وأموالكم وحرمات المسلمين.
فنهى الله- عز وجل- المؤمنين عن ابتداء القتال في الحرم، وحرم ذلك عليهم حرمة للحرم وتعظيمًا له، وأمرهم بقتل من قاتلهم فيه؛ دفعًا للصائل ودفاعًا عن حرمات المسلمين، ومعاملة له بالمثل.
﴿ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ الإشارة للمصدر المفهوم من قوله: ﴿ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ أي: مثل هذا القتل، وهو قتل من قاتل عند المسجد الحرام ﴿ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ أي: عقوبة الكافرين بالله، المكذبين لرسله وشرعه، وهي قتلهم في الدنيا- مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب الأليم في النار، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21].
قوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
قوله: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ أي: كَفوا عن قتالكم، أو عمّا هم عليه من قتالكم ومن الكفر والشرك.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾؛ أي: فإن الله ذو مغفرة واسعة، يستر الذنب، ويتجاوز عن عقوبته, وذو رحمة واسعة: رحمة ذاتية ثابتة له – عز وجل – ورحمة فعلية يوصلها من شاء من خلقه: عامة، وخاصة.
وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها، أي: فإن انتهى الكفار عن قتالكم، فكفوا عن قتالهم، وتجاوزوا عنهم.
أو فإن انتهوا وتابوا عمّا هم عليه من قتالكم ومن الكفر والشرك فإن الله – عز وجل – يغفر لهم ما سلف منهم، ويستر عليهم، ويتجاوز عنهم، ويرحمهم، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 38].
وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله»[8].
فبمغفرته- عز وجل- ورحمته الواسعتين يستر ذنوب من كفوا عن قتال المؤمنين، وعن الكفر والصد عن دين الله، ودخلوا في الإسلام، ويرغب عباده بالتجاوز عنهم، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
بل ويبدِّل سيئاتهم حسنات؛ كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
والرحمة سبب للمغفرة، والمغفرة من آثار رحمته – عز وجل – وقدم المغفرة على الرحمة؛ لأن التخلية قبل التحلية، فبالمغفرة زوال المرهوب، وبالرحمة حصول المطلوب.
قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾.
قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ تأكيد للأمر بقتالهم، وبيان المقصود من القتال في سبيل الله، وأنه ليس المقصود به سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، وإنما المقصود به ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.
قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ ﴾ أي: وقاتلوا الكفار الذين يقاتلونكم.
﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ «حتى» للغاية، و«كان» تامة، أي: حتى لا توجد فتنة، أي: حتى لا يوجد صد للناس عن دين الله إلى الكفر والشرك.
قال الإمام أحمد- رحمه الله- في قوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك»[9].
فالمعنى: وقاتلوهم، حتى لا يُفتن الناس في دينهم ويُصَدون عنه.
عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس قد ضُيِّعوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: «يمنعني أن الله حرم دم أخي. فقالا: ألم يقل الله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله».
وفي رواية: «أن رجلًا أتى ابن عمر، فقال: يا أبا عبدالرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله – عز وجل – وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا بن أخي، بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت، قال: يا أبا عبدالرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلًا فكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه، وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام، فلم تكن فتنة»[10].
﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾؛ أي: ويكون الدين الظاهر والعبادة والطاعة لله وحده، كما قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].
فالحكمة من إيجاب القتال في سبيل الله؛ حتى لا يفتن الناس ويُصدوا عن دينهم بالكفر والشرك، وليكون الدين كله لله وحده.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»[11].
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل ﷲ»[12].
وفي قوله: ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ دلالة على أنه لا يقبل من أحد أن يدين لغير الله، أي: لا يقبل من أحد أن يدين بغير الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19].
﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ أي: فإن انتهوا عن كفرهم، وقتالكم، وما هم عليه من الظلم، والصد عن دين الله، ودخلوا في دين الله، أو بذلوا الجزية.
﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم؛ لأن العدوان لا يجوز إلا على الظالمين، الكفار المقاتلين.
والمراد بالعدوان على الظالمين: المقاتلة لهم، أي: لا مقاتلة إلا للظالمين، وإنما سمي قتال الظالمين «عدوانًا» من باب المشاكلة، ومقابلة الشيء بمثله لفظًا؛ لأنه سببه، كما في قوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
وليس معناه أن مقاتلة الظالمين من العدوان، بل هي من الحق الواجب، لكن فيه إشارة واضحة إلى أن قتالهم بعد انتهائهم عما هم عليه من الظلم، هو من العدوان عليهم والظلم لهم.
وقيل: معنى ﴿ فَلَا عُدْوَانَ ﴾ أي: فلا سبيل؛ كما في قوله تعالى في قصة موسى: ﴿ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 28]؛ أي: فلا سبيل عليَّ.
والظلم في الأصل: النقص، كما قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا.
وهو أيضًا: وضع الشيء في غير موضعه، على سبيل العدوان، وأظلم الظلم الشرك بالله، كما قال لقمان لابنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
قوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.
منع المشركون رسول الله وأصحابه عام الحديبية، سنة ست من الهجرة، في ذي القعدة، من دخول مكة، وصدوه عن البيت، فقاضاه الله، وأقصه منهم سنة سبع من الهجرة، في شهر ذي القعدة، فدخل مكة، وقضى عمرته، فأنزل الله – عز وجل – قوله: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ [13].
قوله: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ «ال» في «الشهر» للجنس؛ لأن الشهر الحرام ليس شهرًا واحدًا وإنما هي أربعة أشهر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ [التوبة: 36]، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»[14].
وسميت هذه الأشهر بالأشهر الحرم؛ لأن الله حرم فيها القتال، والاعتداء والظلم، كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36].
﴿ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ الباء: للتعويض، كما يقال: صاعًا بصاع، أي: أنه لما منعكم المشركون من دخول مكة في الشهر الحرام «ذي القعدة» سنة ست من الهجرة، قاضاكم الله بالدخول من قابل، سنة سبع من الهجرة في «ذي القعدة» أي: هذا بهذا.
وفي هذا تطييب لقلوب الصحابة رضي الله عنهم بتمام نسكهم.
ويحتمل أن المعنى: إذا قاتلكم الكفار في الشهر الحرام، فقاتلوهم فيه، أو إن قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد قاتلوكم فيه، وهم المعتدون، فلا حرج عليكم في قتالهم فيه.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، أو يغزو فإذا حضر أقام حتى ينسلخ»[15].
﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ معطوف على ما قبله، من عطف العام على الخاص.
والحرمات: جمع حرمة، وهي كل ما يجب احترامه، من زمان أو مكان أو أشخاص أو منافع أو أعيان، ومنها حرمة الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، وحرمة المسلم والذمي، والمعاهد والمستأمن.
والمعنى: أن هذه الحرمات إذا انتهك شيء منها أو اعتدي عليه يقتص من المعتدي بمثله، فمن قاتل في الشهر الحرام قوتل في الشهر الحرام، ومن اعتدى في الحرم اقتص منه في الحرم، ومن اعتدى على مسلم أو ذمي ونحوه في بدنه أو عرضه أو ماله اقتص منه، وهكذا.
ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أن عثمان رضي الله عنه قد قتل- وكان بعثه برسالة إلى قريش ليبلغهم أنه صلى الله عليه وسلم ما جاء لقتال- بايع أصحابه تحت الشجرة وكانوا ألفًا وأربعمائة على قتال المشركين، وعدم الفرار، فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك، وتم الصلح بينه وبينهم.
﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾: الفاء عاطفة، تفيد التفريع، و«من» شرطية، والفاء في قوله: ﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ﴾ رابطة لجواب الشرط، لأنه جملة طلبية، وهذه الآية توكيد وتقوية لقوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ والاعتداء مجاوزة الحد، أي: فمن اعتدى عليكم من الكفار بقتال، أو قتل، أو انتهاك عرض، أو سلب مال، أو غير ذلك.
﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ الباء للمقابلة، والبدل، و«ما» مصدرية أو موصولة، أي: فخذوا حقكم منه بمثل اعتدائه عليكم، أو بمثل الذي اعتدى عليكم به، في هيئته وفي كيفيته، وفي زمانه، وفي مكانه، وغير ذلك، سواء بقتال أو قتل، أو غير ذلك، في الشهر الحرام، أو البلد الحرام، أو حال الإحرام، أو غير ذلك.
وسمى أخذهم بحقهم اعتداء؛ لأن سببه الاعتداء عليهم، وأيضًا من باب المجانسة والمشاكلة اللفظية، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
والأمر في قوله تعالى: ﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ للإباحة، بدليل قوله تعالى في آخر آية سورة النحل المذكورة: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾، وقوله تعالى في آخر آية سورة الشورى المذكورة: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، إلى غير ذلك.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك عدم القتال في الشهر الحرام، والبلد الحرام، ما لم يعتد عليكم فيهما، وعدم تجاوز الحد في القصاص ممن اعتدى، وعدم الاعتداء على من لم يعتد.
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ الأمر للوجوب، أي: يجب أن تعلموا علم يقين أن الله عز وجل مع المتقين خاصة بنصره وعونه، وتأييده وتوفيقه؛ ليحملكم ذلك على تقوى الله عز وجل كما أنه عز وجل مع المتقين، ومع جميع خلقه بإحاطته بهم، علمًا وسمعًا وبصرًا وقدرة، وغير ذلك من معاني ربوبيته- عز وجل- العامة لجميع خلقه.
قوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
سبب النزول:
عن أسلم أبي عمران قال: «حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما أنزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين، والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيهما، فنزل فينا: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ فكانت التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد»[16].
قوله: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الإنفاق: إخراج المال وبذله، والأمر للوجوب.
﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: في الجهاد لإعلاء كلمة الله- عز وجل- وذلك بتجهيز الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وهذا من الجهاد بالمال الذي قد يكون أهم وأوجب من الجهاد بالنفس؛ ولهذا يقدم في الذكر في القرآن- غالبًا- على الجهاد بالنفس، وجعله الله أحد مصارف الزكاة الثمانية.
وفي الحديث: «من جهز غازيًا فقد غزا»[17]. ولما جهز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها قال صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارًا»[18].
كما يشمل الأمر بالإنفاق في سبيل الله جميع وجوه البر الواجبة من إخراج الزكاة والنفقات الواجبة والكفارات والصدقات والنفقات المستحبة في وجوه الخير كلها، فكل ذلك في سبيل الله عز وجل.
﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية. أي: ولا تلقوا بأنفسكم وتفضوا بها إلى الهلكة، أو إلى الهلاك، والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة معناه: الإلقاء بالنفس، وإنما يعبر بالأيدي وباليدين وباليد ونحو ذلك عن النفس، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [الأنفال: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [النبأ: 40].
كما يعبر بالوجه عن الذات كلها، كما قال عز وجل: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 27].
ولا يقال في مثل هذه الإطلاقات: إنها من المجاز، بل هي من الحقيقة، والسياق يدل على هذا.
والتعبير بالإلقاء فيه إشارة إلى إذلال من سلك هذا المسلك لنفسه، وهوانها عليه، فألقاها من غير اعتبار لها ولا مبالاة بها، وإذا هانت على المرء نفسه فمن ذا الذي يكرمها ويعزها، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها»[19].
وقد أحسن القائل:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها هوانًا بها كانت على الناس أهونا[20] |
وقال الآخر:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام[21] |
والتهلكة والهلكة والهلاك نوعان: هلاك حسي بالموت، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34].
وهلاك معنوي: بالكفر والمعاصي، وترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله والعمل للآخرة، والتعرض لعذاب الله، والحرمان من ثوابه. وهذا أشد وأعظم.
وهذا هو المراد بالتهلكة في الآية، كما قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في سبب نزول الآية: «فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد».
وكما قال البراء بن عازب رضي الله عنه: «ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب»[22].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: «التهلكة عذاب الله»[23].
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»[24].
وهذا هو الهلاك الحقيقي؛ لما في ذلك من التعرض لعذاب الله- عز وجل- ودخول النار، والحرمان من ثوابه وجنته، وذلك حسب كبر الذنب وصغره، وكون صاحبه يخلد في النار أو لا يخلد.
كما قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3].
وهذا الهلاك هو الذي عناه الصحابي الجليل سلمة بن صخر رضي الله عنه لما وقع على امرأته في نهار رمضان، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا مرعوبًا يقول: «يا رسول الله، هلكت وأهلكت». قال صلى الله عليه وسلم: «وما أهلكك؟» قال: «يا رسول الله، وقعت على امرأتي، وأنا صائم»[25].
ولا يمتنع أن يشمل النهي في الآية أيضًا: المعنى الأول وهو التسبب لإهلاك النفس بالموت، بقتل الإنسان نفسه، بأي سبب من الأسباب؛ لأن النفس وديعة عند الإنسان، يجب عليه المحافظة عليها، وحملها على ما فيه سلامتها في دينها ودنياها، والنَّأيُ بها عن مواقع الزلل والخطر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سُمًّا، فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»[26].
ومن أسباب قتل النفس المحقق: استعمال المخدرات والدخان، كما ثبت ذلك من خلال الطب والإحصائيات المتزايدة للوفيات بسبب ذلك.
ولا يدخل في قتل النفس المبارزة في جهاد الكفار، ولا ما فيه إظهار شجاعة المسلمين وقوتهم، كأن ينغمر المجاهد في صفوف الكفار، ويحمل عليهم؛ ليريهم قوة المسلمين وشجاعتهم، وليرهبهم ويرعبهم، كما حصل هذا من أحد الصحابة المهاجرين في القسطنطينية- كما جاء في سبب النزول.
وعن أبي إسحاق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب: «إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا. قال الله لرسوله: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84]، إنما هذا في النفقة».
وفي رواية: «ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة، ولا يتوب». وفي رواية عنه: «التهلكة: أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر الله لي»[27].
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾: «ليس في القتال، ولكن حبسك النفقة في سبيل الله؛ لأنه عرضة تهلكة»[28].
وإذا كان دخول المجاهد بين صفوف الكفار، وحمله عليهم جائزًا؛ لإظهار قوة المسلمين وشجاعتهم وإرهاب الكفار وإرعابهم، فليس من الجائز أن يفجر الإنسان نفسه ليقتل غيره، وربما من غير المقاتلين ومن النساء والصبيان، كما هو واقع من يفعلون هذا، فهذا من الانتحار وقتل النفس بغير حق.
وفرقٌ بين من يدخل في صفوف الكفار، فيَقْتُلُ من استطاع منهم- مع احتمال أن ينجو بنفسه، وبين من يقتل نفسه لعل أحدًا منهم أن يموت معه، فهذا ليس من الجهاد في شيء، بل من قتل النفس والانتحار، وقد قال الله- عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29].
وهذا تشويه لمفهوم الجهاد في الإسلام، بل تشويه للإسلام وأحكامه، وخروج عما كلف الله به، وعلى تحريم هذا عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، وليس مع من يرى جواز ذلك دليل ولا تعليل صحيح؛ ولهذا لا يجوز أن يُفتى الناس بذلك ويُغرر بهم.
قوله: ﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾ من عطف العام على الخاص؛ لأن الأمر بالإحسان أعم من الأمر بالإنفاق؛ لأن الإحسان يشمل الإنفاق وغيره، كما يشمل الإحسان بفعل الواجب والمستحب.
وقد يحمل الأمر بالإنفاق على الواجب، ويحمل الأمر بالإحسان على المستحب، والأول أعم وأولى.
أي: وأحسنوا في عبادة الله- عز وجل- إخلاصًا لله- عز وجل- ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال- عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وقال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]؛ أي: أخلص العمل لله- عز وجل- وهو محسن باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[29].
فالذي عبَد الله كأنه يراه قد غلّب جانب الرجاء والرغبة فيما عند الله.
والذي عبَد الله لأن الله يراه، قد غلّب جانب الخوف من الله.
والمرتبة الأولى أكمل من المرتبة الثانية.
وأَحْسِنوا أيضًا: إلى خلق الله بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة، وبذل المعروف، وكف الأذى، ومعاملتكم للناس بما تحبون أن تعاملوا به.
ولا يطلب من العبد غير هذين الأمرين: الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله. ولهذا قال- عز وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ هذا تعليل للأمر بالإحسان، أي: إن ﷲ يحب المحسنين بنوعي الإحسان: الإحسان في عبادته – عز وجل – والإحسان إلى عباده.
وفي هذا إثبات صفة المحبة لله – عز وجل – والحض على الإحسان بنوعيه، والترغيب فيه، ويفهم من هذا أنه- عز وجل- لا يحب الذين لا يحسنون بل يبغضهم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7458)، ومسلم في الإمارة (1904)، وأبو داود في الجهاد (2517)، والنسائي في الجهاد (3136)، والترمذي في فضائل الجهاد (1646)، وابن ماجه في الجهاد (2783)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731)، وأبو داود في الجهاد (2613)، والترمذي في السير (1617)، وابن ماجه في الجهاد (2858).
[3] أخرجه أحمد (1/ 300).
[4] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3014)، ومسلم في الجهاد والسير (1744)، وأبو داود في الجهاد (2668)، والترمذي في السير (1569)، وابن ماجه في الجهاد (2841).
[5] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 291)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 325).
[6] أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847)، وابن ماجه في الفتن (3979)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الحج (1834)، ومسلم في الحج (1353)، وأبو داود في المناسك (2017)، والنسائي في مناسك الحج (2892)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في الإيمان (121).
[9] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ (4515).
[10] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ (4515).
[11] أخرجه البخاري في الإيمان (25)، ومسلم في الإيمان (22).
[12] سبق تخريجه.
[13] انظر: «جامع البيان» (3/ 304- 309).
[14] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3197)، وفي التفسير (4662)، ومسلم في القسامة (1679)، وأبو داود في المناسك (1947)، وابن ماجه في المقدمة (233)، وأحمد (5/ 37).
[15] أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» رقم (388)، وأحمد (2/ 334)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (1/ 535- الأثر 93) وإسناده صحيح.
[16] أخرجه أبو داود في الجهاد (2512)، والترمذي في تفسير سورة البقرة (2972)، والطبري في «جامع البيان» (3/ 322- 323)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 330)، والحاكم (2/ 84، 275)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب»، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
[17] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2843)، ومسلم في الإمارة (1895)، وأبو داود في الجهاد (2509)، والنسائي في الجهاد (3180)، والترمذي في فضائل الجهاد (1628)، وابن ماجه في الجهاد (2759)، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.
[18] أخرجه أحمد (5/ 63)، والترمذي في المناقب (3701)، من حديث عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وقال: «حديث حسن غريب».
[19] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[20] البيت مجهول النسبة. انظر: «الدر الفريد» (2/ 367).
[21] البيت للمتنبي. انظر: «ديوانه» (4/ 94).
[22] سيأتي تخريجه بتمامه.
[23] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 325).
[24] أخرجه أبو داود في البيوع (3462)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[25] أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111)، وأبو داود في الصوم (2390)، والترمذي في الصوم (724)، وابن ماجه في الصيام (1671)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[26] أخرجه البخاري في الطب (5778)، ومسلم في الإيمان (109)، وأبو داود في الطب (3872)، والنسائي في الجنائز (1965)، والترمذي في الطب (2043)، وابن ماجه في الطب (3460).
[27] أخرج هذا الأثر برواياته الطبري في «جامع البيان» (3/ 319- 320)، وانظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 332).
[28] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 318).
[29] أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.