وقفات مع آية ﴿ فاتخذوه عدوا ﴾


وقفات مع آية ﴿ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا

 

الحمد لله رب العالمين، الْمَلِك الحقِّ المبين؛ القائل في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

 

فإن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن العظيم للعمل به وتدبُّره، والوقوف عند حدوده، فيه الأمر والنهي، والتوجيه والإرشاد، والترغيب والترهيب، والتحذير، والقصص وذكر خبر مَن قبلنا؛ لأخْذِ العِبرة؛ قال الله سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [سورة يوسف: 111].

 

ومن ذلك – أيها الأفاضل – بيَّن لنا ربنا – سبحانه – عدوَّنا اللدود في كتابه الكريم، وأمرنا بأن نتخذه عدوًّا لنا، وفي هذا تحذير لنا منه، ومن اتباع خطواته، والسير في سُبُلِهِ؛ فقال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].

 

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “ثم بيَّن تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾؛ أي: هو مبارز لكم بالعداوة، فعادُوه أنتم أشدَّ العداوة، وخالفوه وكذِّبوه فيما يغركم به، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]؛ أي: إنما يقصد أن يُضلَّكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين.

 

فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان، وأن يرزقنا اتباع كتابه، والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير”؛ [تفسير ابن كثير (6/ 534)].

 

وقال الإمام البغوي رحمه الله: “﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾؛ أي: عادوه بطاعة الله ولا تطيعوه، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ ﴾؛ أي: أشياعه وأولياءه؛ ﴿ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾؛ أي: ليكونوا في السعير، ثم بيَّن حال موافقيه ومخالفيه؛ فقال: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [فاطر: 7]”؛ [تفسير البغوي (6/ 413)].

 

فــ”﴿ الشَّيْطَانُ ﴾ الذي هو عدوكم في الحقيقة، ﴿ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾؛ أي: لتكن منكم عداوته على بال، ولا تُهملوا محاربته كل وقت، فإنه يراكم وأنتم لا تَرَونه، وهو دائمًا لكم بالمرصاد، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾، هذا غايته ومقصوده ممن تبِعه، أن يُهان غاية الإهانة بالعذاب الشديد”؛ [تفسير السعدي (ص: 685)].

 

وقال السعدي رحمه الله في موضع آخر: “﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾؛ ولهذا أخبر الله عن سعْيِهِ في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد؛ وأنه قال لربِّه مقسمًا: ﴿ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 118]؛ أي: مقدرًا، علِم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وإنما سلطانه على من تولَّاه، وآثَرَ طاعته على طاعة مولاه”؛ [تفسير السعدي (ص: 204)].

 

فالحذرَ الحذرَ من خطوات الشيطان، الحذر من اتباع سُبُلِه وتلبيساته؛ قال تعالى ممتنًّا على الناس بأنه أحلَّ لهم أكلَ كلِّ ما من شأنه أن يُؤكل في الأرض حلالًا لهم، وحذَّرهم من تتبع خطوات الشيطان: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [سورة البقرة: 168].

 

قال ابن كثير رحمه الله: “وقوله: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ تنفير عنه وتحذير منه… وقال قتادة، والسدي في قوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان.

 

وقال عكرمة: هي نزغات الشيطان، وقال مجاهد: خُطاه، أو قال: خطاياه”؛ [تفسير ابن كثير (1/ 478، 479)].

 

وقال رحمه الله: “وقوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾؛ أي: اعملوا الطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان”؛ [تفسير ابن كثير (1/ 566)].

 

وقال رحمه الله: “﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾؛ أي: طرائقه وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين حرَّموا ما رزقهم الله؛ أي: من الثمار والزروع افتراءً على الله، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ ﴾؛ أي: إن الشيطان أيها الناس لكم ﴿ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ أي: بيِّنٌ ظاهر العداوة”؛ [تفسير ابن كثير (3/ 351)].

 

ثم بيَّنَ سبحانه وتعالى ما يأمر به هذا العدو اللدود؛ فقال: ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة البقرة: 169]؛ قال ابن كثير رحمه الله: “أي: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا”؛ [تفسير ابن كثير (1/ 479)].

 

فاعلم – أخي الحبيب – أن الله سبحانه يؤكِّد لنا في هذه الآية محذرًا لنا من عدوٍّ خطير، ويأمرنا أن نتخذه عدوًّا لنا، فنبتعدَ عنه، ونعاديَه ولا نتبع خطواته.

 

كلنا نُقِرُّ بعداوته، فهل اتخذناه عدوًّا؟

أين الحصون منه؟

أين البعد عن طرائقه؟

أين معرفة خطوات الشيطان؟ فلا نتبعها.

الشيطان الرجيم عدوٌّ معك في كل مكان:

في الصلاة.

وعند الأكل والشرب.

وعند معاشرة الأهل.

 

وعند النوم؛ لذا شرع الله سبحانه الاستعاذة منه، هو العدو فاحذره؛ فإن الله قال: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6].

 

وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [سورة يوسف: 5].

 

وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ﴾ [سورة الإسراء: 53].

 

وأخبر عز وجل عن شدة عداوته وتوعُّده لبني آدم (أنا، وأنت، وهو، وهي، وكل أحد)؛ فقال: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [سورة الأعراف: 16، 17]، فالشيطان هنا يخبر بأنه سيبذل كل جهده في إغواء الناس وصدِّهم عن صراط الله المستقيم، وأنه سيأتيهم من كل الجوانب والجهات، بالوسوسة والصد عن ذكر الله والطاعات، وتزيين الشهوات والشبهات، وغيرها من وسائل إضلاله.

 

وقال جل وعلا أيضًا: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [سورة الحجر: 39 – 42].

 

ثم أخبر بأن جهنمَ هي موعده وموعد من اتبعه؛ فقال سبحانه: ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [سورة الحجر: 43].

 

وأقسم بقدرة الله عز وجل وعزته وقهره أنه سيُضل بني آدم أجمعين، إلا من عصمهم الله جل وعلا عن إضلاله؛ فقال سبحانه: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [سورة ص: 82، 83].

 

ثم قال جل وعلا بعد ذلك: ﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [سورة ص: 84، 85]، فالحق من الله تبارك وتعالى، ولا يقول إلا الحق.

 

فالحذر الحذر!

الحذر من سُبل الشيطان.

الحذر من خطوات الشيطان.

 

هو عدوٌّ لنا فعلينا الحذر منه، وعلينا أن نستعين بالله عز وجل عليه، ونستعيذ بالله جل جلاله من الشيطان الرجيم.

 

نسأل الله عز وجل أن يُلهمنا رشدنا، ويَقِيَنا شرَّ أنفسنا وشر الشيطان الرجيم، ونسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا من عباده المخلصين، وأن يعصمنا من الشيطان الرجيم.

 

والحمد لله رب العالمين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
All Stick, No Carrot: The State of Book Publishing in Egypt – The Tahrir Institute for Middle East Policy
The State Strikes Back: The End of Economic Reform in China? – Peterson Institute for International Economics