وقفات ودروس من سورة البقرة (14)
وقفات ودروس من سورة البقرة (14)
ختام السورة وفيها:
• صفات الله رب الخلق، فاطر السماوات والأرض، المستحق للتوحيد والعبادة دون شريك تعرضها لنا أعظم آي القرآن؛ آية الكرسي.
• الولاية وحقيقة الإيمان.
• حقيقة الموت والبعث في قصصٍ ثلاث.
• نمرود وإبراهيم عليه السلام.
• نبي الله الذي توفَّاه الله مئة عام ثم بعثه ليُريه الآيات في إحياء حماره بعد أن أصبح عظامًا.
• طلب إبراهيم من ربِّه أن يُريَه كيفية إحياء الموتى.
• الإنفاق في سبيل الله من زكاة وصدقة، وآدابه ومصارفه.
• تشريعات مالية أساسية في المجتمع الإسلامي:
– أحكام الربا.
– آية المداينة.
ولنا أن نقدم لهذا الجزء من السورة بنفس الآية التي أنهينا بها الفصل السابق – قلب السورة- لربط القلب بالخاتمة، وسبحان مُنزِل الكتاب.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254].
وتأتي هذه المقدمة متوافقة مع الطابع الاقتصادي المهيمن على ختام السورة، فتبدو وكأنها صلة وصل فيما انتهى إليه الجزء السابق من آيات القتال، وما هو قادم من آيات الإنفاق.
فآيات القتال تصدرتها آية الإنفاق، وكان المقصود بها الإنفاق في الجهاد تحديدًا: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 244، 245]، وتنتهي هنا بآية الإنفاق أيضًا لكن بصفتها الخاصة في القتال عطفًا على ما تقدم، والعامة التي يفصِّلها السياق في الآيات القادمة.
قال القرطبي في تفسير الآية: “قال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع.
قال ابن عطية: “وهذا صحيح، ولكن ما تقدَّم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجَّح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك في آخر الآية قوله: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]؛ أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال”؛ انتهى.
وفي قوله عز وجلَّ: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]، يقول السعدي: “هذا من لُطْف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخرًا وأجرًا موفرًا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبًا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تَقبَّل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون، ويحصل الخزي على الظالمين، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده، وتعَدَّوا الحلال إلى الحرام، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله، فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله؛ فلهذا قال تعالى: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]، وهذا من باب الحصر؛ أي: الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]؛ انتهى.
أعظم آية في القرآن آية الكرسي وفيها صفات التفرُّد الإلهي، صفات يتفرَّد بها الله جلَّ في علاه عن كل ما عداه، رب الخلق، فاطر السماوات والأرض، المستحق للتوحيد والعبادة دون شريك.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
هذه الآية أعظم آي القرآن الكريم، وقد وردت أحاديث بفضلها، ربما يكون أشهرها حديث أبي هريرة الذي أورده البخاري في صحيحه: يقول أبو هريرة: “وَكَّلَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فأتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخَذْتُهُ وقُلتُ: واللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ، وعَلَيَّ عِيَالٌ، ولِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عنْه، فأصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أبَا هُرَيْرَةَ، ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ قَالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إنَّه قدْ كَذَبَكَ، وسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أنَّه سَيَعُودُ؛ لِقَوْلِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّه سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخَذْتُهُ، فَقُلتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: دَعْنِي؛ فإنِّي مُحْتَاجٌ، وعَلَيَّ عِيَالٌ، لا أعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فَقَالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أبَا هُرَيْرَةَ، ما فَعَلَ أسِيرُكَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إنَّه قدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخَذْتُهُ، فَقُلتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ، وهذا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أنَّكَ تَزْعُمُ لا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بهَا، قُلتُ: ما هُوَ؟ قَالَ: إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، حتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ؛ فإنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، ولَا يَقْرَبَنَّكَ شَيطَانٌ حتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فَقَالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، زَعَمَ أنَّه يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: ما هي؟ قُلتُ: قَالَ لِي: إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِن أوَّلِهَا حتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، ولَا يَقْرَبكَ شيطَانٌ حتَّى تُصْبِحَ -وكَانُوا أحْرَصَ شَيءٍ علَى الخَيْرِ- فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَمَا إنَّه قدْ صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَن تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يا أبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ذَاكَ شَيطانٌ”.
وروى الإمام أحمد عن أُبَيِّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: “أي آية في كتاب الله أعظم؟”، قال: الله ورسوله أعلم، فرددها مرارًا، ثم قال أُبَيُّ: آية الكرسي، قال: “ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدّس الملك عند ساق العرش”، وقد رواه مسلم، وليس عنده زيادة: “والذي نفسي بيده…”.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
والآية الكريمة تحمل أعظم صفات الخالق العلي في ملكوته، العظيم في قوته وتدبيره، صفات الله الواحد الأحد، المتوكِّل بالخلق والأمر، القائم على كل نفس، عالم الغيب والشهادة، مرسل العلم لعباده بقدر أراده، لا يتعدى حدود مشيئته، إنه العلي العظيم.
1- ﴿ اللَّهُ ﴾: اسمه الأعظم جلَّ جلاله.
2- ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: أساس قيام الكون وحفظه والتصرف فيه، أن مالكه ومُدبِّره إله واحد لا إله إلا هو، أساس عقيدة البشر من لدن آدم عليه السلام إلى يوم الدين، الشهادة التي يموت عليها الإنسان مؤمنًا وبغيرها كافرًا.
3- ﴿ الْحَيُّ ﴾: هو حي لا يموت، والجن والإنس يموتون، هو قيُّوم لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه.
4- ﴿ الْقَيُّومُ ﴾: بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية.
5- ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾: ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سِنةٌ ولا نوم؛ أي: لا تغلبه سِنة؛ وهي الوسن والنعاس؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَا نَوْمٌ ﴾ لأنه أقوى من السنة.
6- ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: مالك كل ما فيهما، المتصرف بأمورهما، المدبر لكل صغيرة وكبيرة فيهما، لا يعزب عنه مثقال ذرة، الجميع عبيده، وفي مُلْكه، وتحت قهره وسلطانه.
7- ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾: لا أحد، وهذا من عظمته، وجلاله وكبريائه عز وجل، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه له في الشفاعة؛ كما في حديث الشفاعة: “آتي تحت العرش فأخِرُّ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تُشفَّع”، قال: “فيحد لي حدًّا فأدخلهم الجنة”؛ كقوله تعالى في سورة النجم: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26].
8- ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾: وهذا كمال الألوهية والربوبية، الكل عبيد، والكل تحت تصرُّف الله الواحد القهار، والكل مكشوفون له بكل ذرات حياتهم… بينما هم:
9- ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾: لا يعلمون من أمر الخلق والخالق شيئًا إلا بمقدار مشيئة “العلي العظيم”.
10- ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾: فإن كان كرسيُّه وسع السماوات والأرض، فهل يحيط عقل بماهية ملكوته؟! إنه العلي العظيم، ولا يهم النقاش في الكرسي والعرش والتجاذبات التي نشأت عن اختلاف التفاسير، المهم أنه عظيم، لا يمكن لعقلِ بَشَرٍ أن يحيط بعظمته وملكوته، وليس ماهية كرسيه وعرشه من الشهادة التي يمكن لبشر أن يعمل بها عقله، بل هما غيب اختصَّ الخالق نفسه به.
11- ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾: لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه.
12- ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾: سبحانك ربي، سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك.
ثم يأتي السياق بعد سرد صفات الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، على بيان حقيقة الإيمان والولاية.
حقيقة الإيمان والولاية:
فبعد آية العظمة الإلهية المستحقة للتوحيد والعبودية يأتي البحث بأمر الإيمان والكفر بهذا الإله العظيم، الله الذي لا إله إلا هو، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
1- الإكراه في الدين:
“اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في قَوْلِهِ: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ عَلى أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّها مَنسُوخَةٌ؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قَدْ أكْرَهَ العَرَبَ عَلى دِينِ الإسْلامِ، وقاتَلَهم ولَمْ يَرْضَ مِنهم إلَّا بِالإسْلامِ، والنَّاسِخُ لَها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [التوبة: 73]، وقالَ تَعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 123]، وقالَ: ﴿ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ [الفتح: 16]، وقَدْ ذَهَبَ إلى هَذا كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ.
القَوْلُ الثَّانِي: أنَّها لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ وإنَّما نَزَلَتْ في أهْلِ الكِتابِ خاصَّةً، وأنَّهم لا يُكْرَهُونَ عَلى الإسْلامِ إذا أدَّوُا الجِزْيَةَ، بَلِ الَّذِينَ يُكْرَهُونَ هم أهْلُ الأوْثانِ، فَلا يُقْبَلُ مِنهم إلَّا الإسْلامُ أوِ السَّيْفُ، وإلى هَذا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ والحَسَنُ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ”؛ فتح القدير للشوكاني.
وقال ابن كثير في تفسيره: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾؛ أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه؛ بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا.
وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًّا، قال ابن عباس: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلًا مسلمًا، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك))؛ انتهى.
ومن المسلم به أن الفكر الذي يروِّج له الوسطيُّون من أن هذه الآية تنطبق على المرتدين، مردود عليهم، واستخدام هذه الآية من قبل مائعي العقيدة بل وفاقديها لتبرير فسق وفساد دهماء المسلمين أيضًا مردود عليهم، فأمَّا الوسطيون فقد علموا الحقيقة وحرَّفوها، فضلُّوا وأضلُّوا، وأما مائعو العقيدة من العامة فقد يكون الجهل قد استحكم عقولهم، فعلينا تنويرهم، فمن استكبر بعد العلم فقد استحقَّ من الله جزاء الاستكبار، والله أعلم.
2- قاعدة الإيمان الثابته: لا يجتمع إيمان بطاغوت وإيمان بالله في قلب مؤمن:
لا شذوذات ولا تجاوزات، لا انحرافات ولا تأويلات لهذه القاعدة: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
“الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله”، وصفها الله بـ “العروة الوثقى لا انفصام لها”، ولا يكون الإيمان الخالص بالله إلا بعد الكفر بالطاغوت.. يُكفر بالطاغوت أولًا، ويغسل القلب من كل أدرانه ثم يكون الإيمان، لا يجتمع الله والطاغوت في قلب مؤمن أبدًا، والطاغوت رأس كل طغيان من ظالم أو غيره، هذا معنى الطاغوت من كان رأسًا في الطغيان مثل فرعون والشيطان وجمعها طواغيت.
فمن خلع الأنداد والأوثان من بشر وحجر وشجر ودواب وكواكب، وكل ما يدعو إليه الشيطان من عبادة من دون الله، ووحَّد الله فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو، وأخلص وجهه إليه في كل قول وعمل “فقد استمسك بالعروة الوثقى”؛ أي: فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريقة المثلى، والصراط المستقيم.
3- الولاية: ثم إن الله تعالى بعد ما ذكر من أمر الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، بيَّن أمر ولاية الطاغوت وولاية الله عز وجل، فقال جلَّ وعلا: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257].
• فالله وليُّ الذين آمنوا، نصيرهم وظهيرهم، يتولَّاهم بعونه، فكل مؤمن وليُّه الله، يهديه الصراط المستقيم، ويُعيده إليه كلما حاد عنه، يتولَّاه في كل شيء طالما هو معتصم به جلَّ في علاه، كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101]، وقوله تعالى في سورة التغابن: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11].
• ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257] وهذا من تمام ولاية الله عز وجل للمؤمنين.
• ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ [البقرة: 257] “أما الذين كفروا فأولياؤهم الشيطان وأعوانه، يتولون أمرهم في توجيههم نحو كل شرٍّ وسوء”.
• ﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ [البقرة: 257] من الهدى إلى الضلالة، ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257].
يقول ابن كثير في تفسير الآية: “وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن ميسرة، حدثنا عبدالعزيز بن أبي عثمان، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، قال: يبعث أهل الأهواء أو قال: يبعث أهل الفتن، فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة، ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة، ثم قرأ هذه الآية: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]؛ انتهى.
فائدة: وحَّد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة، وكلها باطلة؛ كما قال: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرُّد الحق، وانتشار الباطل وتفرُّده وتشعُّبه.
قدرة الله على الخلق والبعث في ثلاث قصص متتالية:
ورد في سورة البقرة سِتُّ قصصٍ في إحياء الموتى، وقعت في الدنيا، وشهد عليها أنبياء وصالحون، ساقها الله عز وجل تذكرةً لمن ينكرون البعث بعد الموت، ذكرنا ثلاثًا منها: واحدة في قصة البقرة، عندما اختلف بنو إسرائيل فيمن قتل صاحبهم، فاحتكموا إلى موسى عليه السلام، فكانت قصة البقرة وإحياء المقتول بعد موته بضربه ببعض البقرة ليحكي مَنْ قتله.
والثانية: أصحاب القرية الذين خرجوا من قريتهم “ألوفًا”؛ أي: هجرة جماعية، خوفًا من الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم.
والثالثة: إحياء مجموعة من بني إسرائيل بعدما أخذتهم الصاعقة عندما وضعوا رؤية الله عز وجل شرطًا لإيمانهم: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 55، 56].
ثم يعرض لنا سياق السورة في أواخر السورة القصص الثلاث الأخرى:
القصة الأولى: قصة نمرود مع إبراهيم عليه السلام:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
– لما سأل نمرود الجبار سيدنا إبراهيم عليه السلام: مَن ربُّك، أجابه عليه السلام بالصفة التي لا يمكن لمخلوق أن يَدَّعيها: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، “أرادَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي يَخْلُقُ الحَياةَ والمَوْتَ في الأجْسادِ، وأرادَ الكافِرُ أنَّهُ يَقْدِرُ أنْ يَعْفُوَ عَنِ القَتْلِ فَيَكُونَ ذَلِكَ إحْياءً، وعَلى أنْ يَقْتُلَ فَيَكُونَ ذَلِكَ إماتَةً، فَكانَ هَذا جَوابًا أحْمَقَ لا يَصِحُّ نَصْبُهُ في مُقابَلَةِ حُجَّةِ إبْراهِيمَ؛ لِأنَّهُ أرادَ غَيْرَ ما أرادَهُ الكافِرُ، فَلَوْ قالَ لَهُ: رَبُّهُ الَّذِي يَخْلُقُ الحَياةَ والمَوْتَ في الأجْسادِ، فَهَلْ تَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ؟ لَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ بادِئَ بَدْءٍ وفي أوَّلِ وهْلَةٍ، ولَكِنَّهُ انْتَقَلَ مَعَهُ إلى حُجَّةٍ أُخْرى، تَنْفِيسًا لِخِناقِهِ،وإرْسالًا لِعنانِ المُناظَرَةِ، فَقالَ: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 258] لِكَوْنِ هَذِهِ الحُجَّةِ لا تَجْرِي فِيها المُغالَطَةُ ولا يَتَيَسَّرُ لِلْكافِرِ أنْ يَخْرُجَ عَنْها بِمَخْرَجِ مُكابَرَةٍ ومُشاغَبَةٍ، ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258]؛ أي: انْقَطَعَ وسَكَتَ مُتَحِيرًا، ثم إن الله سُبْحانَهُ قال: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ ولَمْ يَقُلْ: فَبُهِتَ الَّذِي حاجَّ؛ إشْعارًا بِأنَّ تِلْكَ المُحاجَّةَ كُفْرٌ.
وقَوْلُهُ: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258] تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ.
وقصة هذا الجبار كما يرويها الشوكاني في تفسيره عن عَبْدالرَّزّاقِ وابْن جَرِيرٍ وابْن المُنْذِرِ وابْن أبِي حاتِمٍ وأبي الشَّيْخِ في العَظَمَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: أنَّ أوَّلَ جَبّارٍ كانَ في الأرْضِ نُمْرُود، وكانَ الناسُ يَخْرُجُونَ يَمْتارُونَ مِن عِنْدِهِ الطَّعامَ، فَخَرَجَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَمْتارُ مَعَ مَن يَمْتارُ، فَإذا مَرَّ بِهِ ناسٌ قالَ: مَن رَبُّكم؟ قالُوا: أنْتَ، حَتَّى مَرَّ بِهِ إبْراهِيمُ، فَقالَ: مَن رَبُّكَ؟ قالَ: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، قالَ: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258]، فَرَدَّهُ بِغَيْرِ طَعامٍ.
فَرَجَعَ إبْراهِيمُ إلى أهْلِهِ، فَمَرَّ عَلى كَثِيبٍ مِن رَمْلٍ أصْفَرَ، فَقالَ: ألا آخُذُ مِن هَذا فَآتِي بِهِ أهْلِي، فَتَطِيبُ أنْفُسُهم حِينَ أدْخُلُ عَلَيْهِمْ، فَأخَذَ مِنهُ، فَأتى أهْلَهُ فَوَضَعَ مَتاعَهُ ثُمَّ نامَ، فَقامَتِ امْرَأتُهُ إلى مَتاعِهِ فَفَتَحَتْهُ فَإذا هي بِأجْوَدِ طَعامٍ رَآهُ آخِذٌ، فَصَنَعَتْ لَهُ مِنهُ فَقَرَّبَتْهُ إلَيْهِ، وكانَ عَهْدُهُ بِأهْلِهِ أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهم طَعامٌ، فَقالَ: مِن أيْنَ هَذا؟ قالَتْ: مِنَ الطَّعامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَعَرَفَ أنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ إلى الجَبّارِ مَلَكًا أنْ آمِن وأتْرُككَ عَلى مُلْكِكَ. قالَ: فَهَلْ رَبٌّ غَيْرِي؟ فَجاءَهُ الثانِيَةَ، فَقالَ لَهُ ذَلِكَ، فَأبى عَلَيْهِ، ثُمَّ أتاهُ الثالِثَةَ فَأبى عَلَيْهِ، فَقالَ لَهُ المَلَكُ: فاجْمَعْ جُمُوعَكَ إلى ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَجَمَعَ الجَبّارُ جُمُوعَهُ فَأمَرَ اللَّهُ المَلَكَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ بابًا مِنَ البَعُوضِ وطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَوْها مِن كَثْرَتِها، فَبَعَثَها اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأكَلَتْ شُحُومَهم، وشَرِبَتْ دِماءَهم، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا العِظامُ، والمَلِكُ كَما هو لا يُصِيبُهُ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ في مَنخَرِهِ، فَمَكَثَ أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالمَطارِقِ، وأرْحَمُ الناس بِهِ مَن جَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِما رَأسَهُ، وكانَ جَبّارًا أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أماتَهُ اللَّهُ، وهو الَّذِي كانَ بَنى صَرْحًا إلى السَّماءِ فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهُ مِنَ القَواعِدِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ، قالَ: هو نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعانَ يَزْعُمُونَ أنَّهُ أوَّلُ مَن مَلَكَ في الأرْضِ أتى بِرَجُلَيْنِ قَتَلَ أحَدَهُما وتَرَكَ الآخَرَ، فَقالَ:”أنا أُحْيِي وأُمِيتُ”؛ انتهى، فتح القدير للشوكاني.
القصة الثانية: نبي الله الذي توفَّاه الله مئة عام ثم بعثه ليريه آية الخلق والبعث شاهدة أمام عينيه.
﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259].
لم تذكر الآية مَن هو هذا الرجل الذي مَرَّ على القرية، كما لم يذكر اسم القرية، وإبهام التفاصيل يفيد في التركيز على العبرة والعظة من القصة، فلو كان ذكر التفاصيل يفيد في تمثُّل العبرة من القصة لذكرها سبحانه، لكن التفاسير أتت على ذكر بعض الأقوال في الرجل والقرية:
يقول ابن كثير: “رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عُزَيْرٌ، وكذا رواه قتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك.
وأما القرية: فالمشهور أنها بيت المقدس مَرَّ عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها ﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ [البقرة: 259]؛ أي: ليس فيها أحد، من قولهم: خوت الدار تخوي خواءً وخُوِيًّا.
وقوله: ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾؛ أي: ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف مُتفكِّرًا فيما آل أمرها إليه بعد ما كانت عليه من العمارة العظيمة وقال: ﴿ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [البقرة: 259]؛ وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها، وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه، قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ [البقرة: 259]، قال: وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجعت بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه. فلما استقل سويًّا قال الله له- أي بواسطة الملك-: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ [البقرة: 259]، قالوا: وذلك أنه مات أول النهار، ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾، ﴿ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ [البقرة: 259]، وذلك: أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير، فوجده كما فقده لم يتغيَّر منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب تعَفَّن ﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾ [البقرة: 259]؛ أي: كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 259]؛ أي: دليلًا على المعاد ﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ﴾ [البقرة: 259]؛ أي: نرفعها فتركب بعضها على بعض.
وقال السدي وغيره: تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها، ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق، كله بإذن الله عز وجل، وذلك كله بمرأى من العزير، فعند ذلك لما تبين له هذا كله ﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]؛ انتهى ابن كثير.
القصة الثالثة: آية إحياء الطير يريها الله خليله إبراهيم عليه السلام:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].
لا ريب أن سؤال إبراهيم عليه السلام الله عز وجل أن يريه كيف يحيي الموت ليس من باب الشك على وجه الإطلاق، فإن كان الشك لا يليق بمؤمن، فهل يليق بنبي وهو خليل الله!
يقول ابن كثير: “ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابًا، منها: أنه لما قال لنمروذ: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258] أحَبَّ أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة، فقال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحَقُّ بالشك من إبراهيم، إذ قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]))؛ وكذا رواه مسلم، انتهى.
“وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحَقُّ بالشك من إبراهيم))، فمعناه أنه لو كان شاكًّا لكنا نحن أحَقَّ به ونحن لا نشكُّ، فإبراهيم عليه السلام أحْرَى ألَّا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ذلك محض الإيمان إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقُّف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام”؛ تفسير القرطبي.
استجاب ربُّ العزة لطلب الخليل عليه السلام فقال له: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].
﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾؛ أي: خذ أربعة من الطير ﴿ فَصُرْهُنَّ ﴾؛ أي: قطعهن، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو مالك، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، والحسن، والسدي، وغيرهم، وقال العوفي، عن ابن عباس: ﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزَّقهن وخلط بعضهن في بعض، ثم جزَّأهن أجزاء، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة أجبل. وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيًا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته؛ ولهذا قال: ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
والحمد لله رب العالمين.
يُتبَع بإذن الله.