وقفة مع توديع العام (خطبة)
وقفة مع توديع العام
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 ـ 71]، أما بعد:
فإن أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، اتقوا الله تبارك وتعالى، وتبصَّروا في هذه الليالي والأيام، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة، نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل.
تفكروا يا رعاكم الله في أمر الليل والنهار، فما أسرعه فإنه ينطوي، وكأنها لحظة واحدة ثلاثمائة وثلاثة وستين يومًا منذُ أن رقينا هذا المنبر المبارك، لنودع عامًا، ثم نستقبل هذا العام الذي لم يبق منه إلا أقل من القليل.
فيا لله ما أسرع هذه الأيام، فإنها قد طويت بصحائفها بما فيها من أعمالنا، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي، إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)[1].
وفي حديث نبوي شريف يقول سيد الأولين محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كل الناس يغدو؛ أي كل الناس يعملون، فبائع نفسه فمُعتقها أو موبقها)[2].
إننا عشنا عامًا كاملًا فيه شهر رمضان، وفيه الأحزان والأفراح، فيه ما لذ وطاب، ثم ما حصل فيه من الهموم والأحزان، ثم تولت تلك الليالي والأيام، وكأنه سلك انقطع نظامه لنقف مرة ثانية، لنودع هذا العام الذي استقبلناه، فها نحن نودِّعه، ثم نستقبل عامًا جديدًا؛ يقول الله وهو أصدق القائلين: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ. قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 112 – 116].
هذه هي حال الدنيا، فما أسرع زوالها وانقضاءها، لكن أهذا أمر طبيعي ولا حسبان عليه، كلا والله فما تطلع الشمس ولا تغيب إلا لأمر عظيم، فما يتقلب الليل والنهار إلا لحكمة بالغة يعلم بذلك العلماء والعقلاء، ما كان هذا الكون أن يكون سدى، ولا هذا الخلق أن يكون عبثًا؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾ [آل عمران190]، ومعنى آيات؛ أي علامات واضحات، ويقول سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ﴾؛ أي يخلف بعضه بعضًا، ﴿ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان62].
فتأمل في بداية الشهر حينما يختفي الهلال، ثم يبدو يسيرًا، ثم يتكامل شيئًا فشيئًا إلى ليلة النصف، فإذا استدار القمر، ثم بدأ يأخذ بالنقص حاله حال الوليد حينما ينزل جنينًا من بطن أمه:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيًا والناس حولك يضحكون سرورًا فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكًا مسرورًا |
تأمل إلى الوليد، وقد أخرجه الله من موضعه، فينزل إلى عالم جديد تغيَّر العالم الذي كان فيه، فنزل إلى أرض غير موقعه الأول، فإذا به يزيد صراخًا وعويلًا؛ لأنه فارق الموضع الذي ألِفه نزل إلى هذه الدنيا المليئة بالهموم والغموم والأحزان.
تطالب بأمر مستحيل وأنَّى لك ذلك فما صفا كدر الدنيا للأنبياء والأثرياء، ثم بدأ الصغير في النمو حتى طر شارباه، ثم بدأ يتكامل نموه فبلغ أشده، فإذا ما بلغ الأربعين، فجاوزها بدأ شعر رأسه ولحياه يملؤه البياض، ثم صار إلى النقص وإلى التراجع، حاله حال القمر إذا انبثق وليدًا، وحاله كحال الزرع حينما تنظر إليه في بداية أمره، ما أجمله من منظر خلاب، فما هي إلا أشهر وإذا به يخرج حبه وفراخه، فما هي إلا أيام وإذا به يصفر، ثم يعود إلى اليباس، فإذا لم تحصل له آفة، كان نتيجته إلى الحصاد والجذاذ.
هذا حالنا يا بني الإنسان، هذا حالنا يا بن آدم، فإنما أنت أيام كلما ذهب يومك ذهب بعضك، هذه حالة الدنيا، هذه حالة الليالي والأيام، إنها سنة الله في خلقه أن يموت الأمير والصغير والكبير رغم الأنوف، فلا يمكن لأحد البقاء إلا ذو العزة والجبروت، ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص88]، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن26 – 28].
معاشر المؤمنين، طُويت صحائف الأعمال، وأيما يوم غربت شمسه فلا يمكن أن يعود إليك، لقد طويت صحائف الأعمال، وهنا وقفتان اثنتان:
أما الوقفة الأولى، فهي دعوة للمحاسبة، لنحاسب أنفسنا أمام عام كامل، هل كنا فيه زارعين الخير أم زارعين الشر عياذًا بالله؛ يقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر18].
ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: (أتاني جبريل فقال لي يا محمدُ، عِشْ ما شئتَ فإنك مَيِّت، وأحببْ من شئت فإنك مُفَارِقُه، واعمل ما شئتَ فإنك مَجزي به، واعلم أن شرفَ المؤمن قيامُه بالليل وعِزُّه استغناؤه عن الناس)[3]، اعمل ما شئت فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، ويقول الفاروق عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا)[4].
قطعنا عامًا كاملًا، وأودعنا في سجلاته من الأعمال، فطُويت صحائفه، ولا يُمكن أن نفتحها لنتأمل فيها، فإنها قد طويت بما فيها من الكتاب؛ كما في حديث صحيح: (رُفعت الأقلام وجفت الصحف)[5].
انتهى كل شيء، لكن يتأمل الذكي من المسلمين، ما الذي أودعه في هذه السجلات، فهذه السجلات ستفاجأ بها في يوم من الدهر في ذلك اليوم العظيم، يوم يجمع الله الأولين والآخرين، هناك يقول المولى سبحانه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴾ [الحاقة: 19ـ 27]، يفاجأ بهذا الكتاب.
ويقول سبحانه: ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13ـ 14]، فتنشر هذه السجلات ويتأمل المتأمل ما كان يعمل فيها من الحسنات أو السيئات.
من يعمل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان |
﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7ـ 8].
هذه الوقفة الأولى وقفة للمحاسبة والمراجعة وكل واحد أدرى بنفسه، أما الوقفة الثانية فهي تصحيح المسار وتجديد العهد بيننا وبين ربنا سبحانه وتعالى، كانت الوقفة الأولى لما مضى، وأما الوقفة الثانية فلما تستقبله من عمرك، فتأمل فيما مضى، كم نلت من شهوة ولذة فيه، قد لا تستطيع إحصاءها، فأين اللذات، لقد انتهت كلها، أين من أتعب نفسه في الطاعة؟ لقد نسي ذلك التعب، أين من متَّع نفسه بشهوة بغض النظر عن حلالها وحرامها، انتهت، انتهى تعب الطائعين، فنسوه لكن الله لم ينساه، وهكذا انتهت لذائذ المتنعمين بشهواتهم وما بقي عندهم اليوم منه شيء، لكن الله سبحانه وتعالى لم ينسَه، ﴿ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴾ [طه51، 52]، فوالله لو اتَّعظ متعظ، لو أراد متعظ أن يتعظ لاتَّعظ بيوم واحدٍ، ناهيك عن أن يكون اثنا عشر شهرًا قضاه، فلو أراد متعظ أن يتعظ، لقال: قد أكلت بالأمس وتهنَّأت بكذا وكذا، فما أرى منه اليوم شيئًا في حياتي، ولا على جسدي بمجرد مرور يوم واحد يحصل الاتعاظ، فما بالك إذا كان شهرًا كاملًا، ورب العالمين يمهل ولا يهمل، وأنت تطالع في هذا العام كم حصل فيه من تغيُّرات وتقلبات، كم حصل فيه من حوادث السير، لو تأملت في حوادث السير أيام عيد الأضحى، فقد حصل من الموت قرابة سبعين نفسًا من جراء السير هذا الذي علم، وقرابة ثلاثمائة أصيبوا بجروح، فلو تأملت على مدار العام أجمع، فأنت نفس من هذه النفوس، أنت شخص من هؤلاء الناس، فلا بد من محاسبة لما مضى، ولا بد من تجديد عهد واستقبال صحيح لما تستقبله من الزمان، وإن الله سبحانه وتعالى عفو كريم؛ يقول سبحانه: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر53].
اللهم بارك لي ولكم في القرآن العظيم، وانفعنا بسنة سيد الأولين والآخرين، هذا ما قلته لكم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه:
معاشر المؤمنين، اعتاد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إقامةَ احتفال بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ تجديدًا لتلك الذكرى العطرة، ولم يكن هذا هو المقصد والهدف والغاية من هجرة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا يعتبر أمرًا لا دليل عليه من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن فات المسلمين أجمعين إلا من رحم الله الغاية من الهجرة، فلقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من بلد الكفر إلى بلاد الإسلام من مكة مهبط الوحي ومنبع الرسالة، ومركز شعاع الإسلام في أوله، فترك هذه البلدة المباركة قائلًا: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)[6]، فيخرج مهاجرًا إلى المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم قد أَذِنَ لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ثم بعد ذلك كانت الهجرة إلى المدينة، وكانت الهجرة اختبارًا وابتلاءً وامتحانًا، فمن لم يهاجر ففي إيمانه دخن إلا أن يكون معذورًا، كأن يكون كبير السن أو صغيرًا أو امرأة، لا تستطيع السير وحدها؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴾ [النساء98]، لكن المقصود أنه صلى الله عليه وسلم فارق موضع الشرك، ولقد انتهت الهجرة بفتح مكة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)[7]. فمن أعظم الدروس التي نستفيدها من الهجرة أن تهجر قلوبنا مواقع الريبة والنوايا السيئة، وأن تهجر أبداننا المعاصي والموبقات، فهذه من أعظم الهجرة؛ كما قال ربنا: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر5].
فما كان يحول بينك وبين السير إلى الله من شخصٍ سيئ، فاهجره أو فيلمٍ قبيح أو مكان ريبة، أو سفاسف أمورٍ، فلا بد أن تستخدم له الهجرة، فالهجرة هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد التوحيد، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة، ومن بلد المعصية إلى بلد الطاعة، فهي بمعنى الانتقال، وهذا الانتقال قد يكون بالبدن وقد يكون بالروح، وأعظم الهجرة هي هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تركوا الأهل والوطن والمال، فشهِد الله لهم بالصدق والفلاح؛ كما ذكر الله ذلك في القرآن الكريم[8]، ثم من أعظم الهجرة هجرُ العوائق التي تعوقك عن السير إلى الله، وهجر العوائد التي اعتدتَها، وهي محرمة، فجعلتك بعيدًا من ربك سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن تعلم معنى الهجرة، اجعل رسول الله نُصب عينيك قدوة وقيادة في سلمك وحربك في شؤونك كلها؛ يقول سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب21].
فليست الهجرة عبارة عن ترداد مديح لرسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينفع هذا المديح أو أن يرفع رسول الله فوق منزلته فقد حذرنا من الإطراء قال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله)[9]، فرسول الله لا يرضى بالإطراء، ولا أن يُرفَع فوق منزلته، ولكن الغاية من ذلك متابعته صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الرسول قولًا أو أمرك بأمر، سواء كان واجبًا أو مندوبًا، فتابعته في ذلك، فأنت من أعظم الناس محبةً، فالمحبة هي بمعنى الاتباع؛ قال سبحانه: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آل عمران31].
يا مدَّعي حب أحمد لا تخالفه الخلف يحرم في دنيا المحبينا |
فمن كان محبًّا بمعنى الحب الصحيح، فالمحبة هي المتابعة، فلو أن ولدًا قال: إنه يحب أباه ثم بعد ذلك ما بالى بأوامر أبيه ونواهيه، أيكون هذا محبًّا، كلا والله، بل إنه من أعظم العقوق، وهكذا إن زعم الزوج أنه يحب زوجته، ثم لم تر منه إلا الويلات، ما كان ذلك بحبٍّ والله، وإنما هو حب مزعوم، ليس له صحة في الواقع، والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبنـاؤها أدعيـاء.
فنسأل الله أن يوفِّقنا لكل ما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا للبر والتقوى، وأن يرينا الحق حقًّا، فيرزقنا اتباعه، والباطل باطلًا فيرزقنا اجتنابه.
اللهم اجعلنا مستقبلين لعام جديدٍ مليء بالخير والرحمة والبركات يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك يا ألله أن تجعل هذا العام عامًا مباركًا على الأمة الإسلامية.
اللهم ارفع فيه منار التوحيد واخفِض الشرك وأهله يا رب العالمين.
اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا هَمًّا إلا فرَّجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا عسيرًا إلا يسرته، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ هَمِّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم دُلَّنا على كل خير يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل90].
اذكروا الله يَذكُرْكم، واشكروه على نعمه يَزِدْكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وأقم الصلاة.
[1] رواه مسلم (2577) وابن حبان (619) والبخاري في الأدب المفرد (490) عن أبي ذر رضي الله عنه.
ورواه أحمد (21405, 2158) والترمذي (2495) وابن ماجة (4257) بإسناد فيه شهر بن حوشب وشهر ضعيف.
[2] رواه مسلم (223) وغيره عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[3] حسن: رواه الحاكم (7921) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط (4278) والبيهقي في الشعب (10541) وأبو نعيم في الحلية (3/ 253) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
ورواه أبو داود الطيالسي (1755) والبيهقي في الشعب ( 10540) وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (2/ 281) من حديث جابر رضي الله عنه.
ورواه الطبراني في الأوسط (4845) والصغير (704) وأبو نعيم في الحلية (3/ 202) من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الجامع (73, 4355) والصحيحة (831) وصحيح الترغيب (627, 724).
[4] أخرجه أحمد في الزهد ص (121) والترمذي تحت حديث (2459) وابن المبارك في الزهدد (306) وابن أبي شيبة ( 34459) وأبو نعيم في الحلية (1/ 52) وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (2).
[5] صحيح: رواه أحمد (2669) والترمذي (2516) والحاكم (6303) وأبو يعلى (2556) وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما, وصححه الألباني في: صحيح الجامع (7957) والشيخ مقبل الوادعي في: الصحيح المسند (699).
[6] صحيح: رواه أحمد (18737, ومواضع) والترمذي (3925) والنسائي في الكبرى (4252) وابن ماجة (3108) وابن حبان (3708) والحاكم (4270, ومواضع) عن عبدالله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه.
ورواه النسائي في الكبرى (4254) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في: صحيح الجامع (7089) والمشكاة (2725)
[7] متفق عليه: البخاري (1510, 1737, 2631, 2670, 2912, 3017) ومسلم (1353) عن ابن عباس وأخرجه البخاري (2914, 3687, 4058) مسلم (1864) عن عائشة رضي الله عنها.
[8] قال تعالى:﴿ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر8]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة20].
[9] رواه البخاري (3261) عن عمر رضي الله عنه.