وما يدريك أنها رقية
“وما يُدريك أنّها رُقية
سُورة الفاتِحةِ فيها شِفَاءٌ؛ ولِهَذا مِن أسمائِها (الشَّافيةُ)، عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: “بعَثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَريَّةٍ، فمرَرْنا على أهلِ أبياتٍ فاستضَفْناهم، فأبَوْا أنْ يُضيِّفونا، فنزَلوا بالعَراءِ، فلُدِغ سيِّدُهم، فأتَوْنا فقالوا: هل فيكم أحَدٌ يَرقي؟ قال: قُلْتُ: نَعم، أنا أَرقي، قالوا: ارقِ صاحبَنا، قُلْتُ: لا، قد استضَفْناكم فأبَيْتُم أنْ تُضيِّفونا، قالوا: فإنَّا نجعَلُ لكم جُعْلًا، قال: فجعَلوا لي ثلاثينَ شاةً، قال: فأتَيْتُه فجعَلْتُ أمسَحُه وأقرَأُ بفاتحةِ الكتابِ حتَّى برَأ، فأخَذ الشَّاءَ، فقُلْنا: نأخُذُها ونحنُ لا نُحسِنُ نَرقي، فما نحنُ بالَّذي نأكُلها حتَّى نسأَلَ عنها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتَيْناه فذكَرْنا ذلك له، قال: فجعَل يقولُ: “وما يُدريكَ أنَّها رُقْيةٌ”؟ قال: قُلْتُ:يا رسولَ اللهِ، ما درَيْتُ أنَّها رُقْيةٌ، شيءٌ ألقاه اللهُ في نفسي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “كُلوا واضْرِبوا لي معكم بسَهْمٍ“؛حديث صحيح، أخرجه ابن حِبَّان في صحيحه.
قال ابن القيم رحمه الله: “فاتحة الكتاب وأُمُّ القرآن والسبع المثاني والشفاء التام والدواء النافع والرقية التامة ومِفْتاح الغنى والفلاح وحافظة القوة ودافعة الهَمِّ والغَمِّ والخوف والحزن لمن عرف مقدارها، وأعطاها حقَّها، وأحسن تنزيلها على دائه، وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها، والسر الذي لأجله كانت كذلك.
قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]، يقول ابن القيم: “و “مِن” هُنا لِبَيانِ الجِنْسِ لا لِلتَّبْعِيضِ، فَإنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ شِفاءٌ، فَهو شِفاءٌ لِلْقُلُوبِ مِن داءِ الجَهْلِ والشَّكِّ والرَّيْبِ، فَلَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِنَ السَّماءِ شِفاءً قَطُّ أعَمَّ ولا أنْفَعَ ولا أعْظَمَ ولا أشْجَعَ في إزالَةِ الدَّاءِ مِنَ القُرْآنِ.”
ويقول أيضًا: “وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي أدْواءٌ ولا أجِدُ طَبِيبًا ولا دَواءً، فَكُنْتُ أُعالِجُ نَفْسِي بِالفاتِحَةِ، فَأرى لَها تَأْثِيرًا عَجِيبًا، فَكُنْتُ أصِفُ ذَلِكَ لِمَن يَشْتَكِي ألَمًا، وكانَ كَثِيرٌ مِنهم يَبْرَأُ سَرِيعًا”.
ولنتعرَّف على الأسباب التي جعلت سورة الفاتحة (شافية)، فمنها:
1- أنها أعظم سُور القرآن الكريم، عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه، قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أُجِبْ حتى صليت، ثم أتيته، فقال: «ما منعك أن تأتي؟» فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، قال: «ألم يقل الله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]، ثم قال: «لأعلمنَّك سورةً هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت: يا رسول الله، ألم تقل: «لأعلمنَّك سورةً هي أعظم سورة في القرآن»، قال: «﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»؛ رواه البخاري وأبو داود والنسائي.
2- أنها فُتح لها باب خاص، ونزل بها ملك خاص غير جبريل عليه السلام:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضًا من فوقه، فرفع جبريل رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قَطُّ إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قَطُّ إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف إلا أوتيته”؛ رواه مسلم والنسائي وابن حِبَّان.
3- أنه لا يوجد مثلها في الكتب السماوية: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه: «أتحب أن أُعلِّمك سورةً لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها؟» قال: نعم، قال: «كيف تقرأ في الصلاة؟»، قال: فقرأ أُمَّ القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته»؛ رواه الترمذي.
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله سبحانه وتعالى: «قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3] قال الله سبحانه وتعالى: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، قال: مجَّدني عبدي – وقال مرة: فوَّض إليَّ عبدي – فإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»؛ رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي.
5- أنها تشتمل على العبادة والاستعانة، وبالعبادة والاستعانة تتحقق السعادة الأبديَّة للعبد، وينجو من الأمراض المُهلِكة، يقول ابن تيمية: و﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ تدفع الرياء، ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ تدفع الكبرياء، فإذا عُوفي العبد من مرض الرياء بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، ومن مرض الكبر بـ ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ عُوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في ثوب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المُنعَم عليهم، غير المغضوب عليهم؛ وهم أهل الفساد في القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، ولا الضالين؛ وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
شروط الرقية بالفاتحة:
قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله معلقًا على حديث الرقية بالفاتحة: إنَّ من ارتقى بها يُشفى بإذن الله بشرطين:
الأول: أن يقرأها الراقي بإيمان بأنها رقيةٌ نافعةٌ.
والثاني: أن تكون على مريض مؤمن مصدق أنها رقيةٌ نافعةٌ.
أخي، أُختي، هذه “الفاتحة” بجانب من جوانبها حريٌّ بنا أن نعي فضلها، وأثرها ونطَّلِع على تفسيرها، ونُعَلِّمها أهلنا، ونعمل بها لنجني آثارها وفوائدها.
يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: “ومَن ساعدَه التوفيقُ، وأُعينَ بنورِ البصيرةِ حتى وقفَ على أسرارِ هذه السورة، وما اشتملت عليه مِنَ التوحيدِ، ومعرفةِ الذات والأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ، وإثباتِ الشرعِ والقَدَرِ والمعادِ، وتجريدِ توحيدِ الربوبيةِ والإلهيةِ، وكمالِ التوكُّلِ والتفويضِ إلى مَن له الأمرُ كُلُّه، وله الحمدُ كُلُّه، وبيده الخيرُ كُلُّه، وإليه يرجعُ الأمرُ كُلُّه، والافتقارُ إليه في طلبِ الهدايةِ التي هي أصلُ سعادةِ الدارين، وعَلِمَ ارتباطَ معانيها بجلبِ مصالحِهما، ودفعِ مفاسدهما، وأنَّ العاقبةَ المطلقةَ التامةَ، والنعمةَ الكاملةَ مَنوطةٌ بها، موقوفةٌ على التحققِ بها، أغنته عن كثيرٍ من الأدويةِ والرُّقى، واستفتح بها من الخير أبوابَه، ودفع بها من الشرِّ أسبابَه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد.