وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 181]
إن أعداء الإسلام يبذلون جهودًا لا تكلُّ، وحملات لا تنقطع، لمحاربة دين الله، ويستخدمون في تحريفه عن وجهته، كل الوسائل وكل الأجهزة، وكل التجارب.. فهم يسحقون سحقًا وحشيًا كل المخلصين لدينهم في كل مكان على وجه الأرض عن طريق الأوضاع السياسية والاقتصادية التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرض! ويسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحلون ما حرم الله، ويميعون ما شرعه، كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين – كوسيلة أخيرة، حتى لا يجد هذا الدين قلوبًا تصلح للهداية به؛ فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في المعاصي، مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد، كي لا يفيق، بعد اللقمة والمعصية، ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين!
إنها معركة ضارية مع هذا الدين ومع جميع المسلمين. معركة يستخدم فيها أعداء الإسلام جميع الأسلحة بلا تحرج، وجميع الوسائل بلا حساب؛ والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام العالمية؛ والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية؛ والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يومًا واحدًا لولا هذه الكفالة العالمية!
لذلك فالمتأمل في واقع المسلمين الآن وتفرقهم، يجد الحيرة والقلق والضياع الفكري، العقائدي لدي الكثير من المسلمين. وهذا ليس فقط بين عامة المسلمين، بل يجده أيضا في غالبية مستويات الدعاة، وما يسمى بالمفكرين والمثقفين. وهذا يمكن ملاحظته في وسائل النشر والتواصل الاجتماعي، والمناقشات والحوارات في وسائل الإعلام.
ولكن الحمد لله أن الله جعل لدعوته، ولهداية البشرية في كل وقت وحين، وفي كل الظروف من يحافظ على هذه الدعوة، ويحمل للبشرية مشعل الهداية في وسط الظلمات والتيه والتخبط، لمن يريد الوصول والسير في نور الله.
فنجد في صورة الأعراف هذه الآية الكريمة:
قال تعالى: ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 181].
تبين الآية الكريمة صنفًا من الناس، أمة يستمسكون بالحق، ويدعون الناس إليه، ويحكمون به ولا ينحرفون عنه… فيقرر الله وجودهم في الأرض وجودًا ثابتًا لا شك فيه؛ وهم حراس على الحق حين ينحرف عنه المنحرفون، ويزيغ عنه الزائغون؛ وحين يكذب الناس بالحق وينبذونه يبقون هم عليه صامدين.
أمة فاضلة كاملة في نفسها، مكملة لغيرها، يهدون أنفسهم وغيرهم بالحق، فيعلمون الحق ويعملون به، ويعلِّمونه، ويدعون إليه وإلى العمل به. ﴿ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ بين الناس في أحكامهم إذا حكموا في الأموال والدماء والحقوق والمقالات، وغير ذلك، وهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وهم الذين أنعم اللّه عليهم بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهم الصديقون الذين مرتبتهم تلي مرتبة الرسالة، وهم في أنفسهم مراتب متفاوتة كل بحسب حاله وعلو منـزلته، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.
ففي الصحيحين عن معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة – وفى رواية: حتى يأتي أمر الله – وهم على ذلك “.
وما كانت البشرية لتستحق التكريم لو لم تكن فيها دائمًا – وفي أحلك الظروف – تلك الجماعة التي يسميها الله: (أمة) المصطلح الإسلامي للأمة وهي: الجماعة التي تدين بعقيدة واحدة وتتجمع على آصرتها؛ وتدين لقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة – فهذه الأمة الثابتة على الحق؛ العاملة به في كل حين، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، الشاهدة بعهده على الناس، التي تقوم بها حجة الله على الضالين المتنكرين لعهده في كل جيل.
هذه الأمة – التي لا ينقطع وجودها من الأرض أيًا كان عددها – إنهم ﴿ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ﴾ فهم دعاة إلى الحق، لا يسكتون عن الدعوة به، وإليه، ولا يتقوقعون على أنفسهم؛ ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه. ولكنهم يهدون به غيرهم. فلهم قيادة فيمن حولهم من الضالين عن هذا الحق، المتنكرين لذلك العهد؛ ولهم عمل إيجابي لا يقتصر على معرفة الحق؛ إنما يتجاوزه إلى الهداية به والدعوة إليه والقيادة باسمه.
﴿ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾.. فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم، تحقيقًا للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق.. فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس، ولا مجرد وعظ يُهدى به ويعرّف! إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله، يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه، ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه، ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة، ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه، ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه… وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق… وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به.
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس! صلبة لا تقبل التمييع! لدى المخلصين لدين الله.
وإن نصر الله لهم، وتأييده لجهادهم قائم، فطبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة في قلوبهم ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية. والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق – على قلة العدد وضعف العدة – ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية.. والله غالبٌ على أمره.