{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }


﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ

 

﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40].

﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليهم الصلاة السلام- وهو اسم أعجمي، وبنو تميم تقول: «إسرائين» بالنون، و«إسرا» بالعبرانية: عبد، و«إيل»: الله، فمعناه: عبد الله، وبنو إسرائيل: هم أولاد يعقوب -عليه السلام- الاثنا عشر المشهورون بالأسباط؛ لأنهم أسباط إسحاق بن إبراهيم، فالسبط ولد الابن، وإلى هؤلاء الأسباط يرجع نسب جميع بني إسرائيل.

وهذا النداء للتذكير بنِعَم أنعم الله بها على أسلافهم، وكرامات أكرمهم بها، فكان لندائهم بعنوان كونهم أبناء يعقوب وأعقابه مزيد مناسبة لذلك، ألا ترى أنه لما ذُكِّرُوا بعنوان التدين بدين موسى ذُكِّرُوا بوصف الذين هادوا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا [البقرة: 62].

وهذه الآيات انتقال من موعظة المشركين إلى موعظة الكافرين من أهل الكتاب، وبذلك تتم موعظة الفرق كلها؛ لأن فريق المنافقين لا يعدون أن يكونوا من المشركين أو من أهل الكتاب اليهود، ووجه الخطاب هنا إلى بني إسرائيل، وهم أشهر الأمم المتدينة ذات الكتاب الشهير والشريعة الواسعة؛ وذلك لأن هذا القرآن جاء يهدي للتي هي أقوم، فكانت هاته السورة التي هي فسطاطه مشتملة على الغرض الذي جاء لأجله، وقد جاء الوفاء بهذا الغرض على أبدع الأساليب وأكمل وجوه البلاغة، فكانت فاتحتها في التنويه بشأن هذا الكتاب وآثار هديه وما يكتسب مُتَّبِعُوه من الفلاح دنيا وأخرى، وبالتحذير من سوء مغبة من يعرض عن هديه، ويتنكَّب طريقه، ووصف في خلال ذلك أحوال الناس تجاه تلقي هذا الكتاب من مؤمن وكافر ومنافق، بعد ذلك أقبل على أصناف أولئك بالدعوة إلى المقصود.

وأيضًا لما قدم دعوة الناس عمومًا وذكر مبدأهم، دعا بني إسرائيل خصوصًا وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ [البقرة: 142]، فتارةً دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارةً بالتخويف، وتارةً بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها.

فذكر من النِّعَم عليهم عشرة أشياء، وهي: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة: 49]، و﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50]، و﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: 56]، و﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [البقرة: 57]، و﴿ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة: 57]، و﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ [البقرة: 52]، و﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [البقرة: 54]، و﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ [البقرة: 58]، و﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 53]، ﴿ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [البقرة: 60].

وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قولهم: ﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة: 93]، و﴿ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة: 92]، وقالوا: ﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153]، و﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة: 59]، و﴿ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة: 61]، و﴿ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة: 75]، و﴿ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة: 64]، و﴿ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 74]، و﴿ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [البقرة: 61] و﴿ وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 181].

وذكر من عقوباتهم عشرة أشياء: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: 61]، و﴿ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: 29]، و﴿ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 66]، و﴿ كُونُوا قِرَدَةً [البقرة: 65]، و﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [البقرة: 59]، و﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [البقرة: 55]، و﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة: 13]، و﴿ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160].

ولم يدع اليهود إلى توحيد ولا اعتراف بالخالق؛ لأنهم مُوحِّدون، ولكنه دعاهم إلى تذكُّر نِعَم الله عليهم، وإلى ما كانت تلاقيه أنبياؤهم من مكذبيهم، ليرجعوا على أنفسهم بمثل ما كانوا يؤنبون به من كذب أنبياءهم، وذكرهم ببشارات رسلهم وأنبيائهم بنبي يأتي بعدهم.

وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين، وخُوطِب المعاصرون لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنهم متبعون لهم، راضون بأحوالهم، وقد وبَّخ المعاندين لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتوبيخات أُخَر؛ وهي: كتمانهم أمر محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع معرفتهم به، ويحرِّفون الكلم ويقولون: هذا من عند الله، وتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم، وحرصهم على الحياة، وعداوتهم لجبريل واتِّباعهم للسحر، وقولهم: نحن أبناء الله، وقولهم: يد الله مغلولة.

﴿ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ في إضافة النعمة إليه -جل وعلا- إشارة إلى عظم قدرها، وسعة برها، وحسن موقعها.

والمراد بالنعمة هنا جميع ما أنعم الله به على المخاطبين مباشرةً أو بواسطة الإنعام على أسلافهم، فإن النعمة على الأسلاف نعمة على الأبناء؛ لأنها سمعة لهم، وقدوة يقتدون بها، وبركة تعود عليهم منها، وصلاح حالهم الحاضر كان بسببها، وبعض النعم يكون فيما فطر الله عليه الإنسان من فطنة وسلامة ضمير، وتلك قد تورث في الأبناء. ولولا تلك النعم لهلك سلفهم أو لساءت حالهم، فجاء أبناؤهم في شر حال. فيشمل هذا جميع النعم التي أنعم الله بها عليهم، فهو بمنزلة: “اذكروا نعمي عليكم”.

والأمر بذكر النعمة هنا مراد منه لازمه وهو شكرها، ومن أول مراتب الشكر ترك المكابرة في تلقي ما ينسب إلى الله من الرسالة بالنظر في أدلتها ومتابعة ما يأتي به المرسلون.

قال بعض السلف: “عبيد النِّعَم كثيرون، وعبيد المُنْعِم قليلون، فالله تعالى ذكَّر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر المُنْعِم فقال: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] فدل ذلك على فضل أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على سائر الأمم”.

ويفيد مع ذلك أمرهم بتذكُّر النعم التي أنعم بها عليهم لينصرفوا بذلك عن حسد غيرهم، فإن تذكير الحسود بما عنده من النعم عظة له، وصرف له عن الحسد الناشئ عن الاشتغال بنِعَم الغير، وهذا تعريض بهم أنهم حاسدون للعرب فيما أوتوا من الكتاب والحكمة ببعثة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وانتقال النبوة من بني إسرائيل إلى العرب، وإنما ذُكِّرُوا بذلك؛ لأن للنفس غفلة عما هو قائم بها، وإنما تشتغل بأحوال غيرها؛ لأن الحس هو أصل المعلومات، فإذا رأى الحاسد نعم الغير نسى أنه أيضًا في نعمة، فإذا أريد صرفه عن الحسد ذُكِّر بنعمه حتى يخف حسده، فإن حسدهم هو الذي حال دون تصديقهم به فيكون وِزَانُهُ وِزَانَ قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 54].

﴿ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ لأن تذكير النعم السالفة يُطمِّع في النِّعَم الخالفة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة.

وأشار بهذه الجملة إلى أن هذه النعم فضل محض من الله عزَّ وجلَّ. وأن تذكير العبد بنعمة الله تعالى عليه أدعى لقبوله الحق، وأقوم للحجة عليه؛ وهي من الوسائل الناجعة في الدعوة إلى الله عز وجل.

وتقديمه على قوله: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: 40] من باب تقديم التَّخْلِيَةِ على التَّحْلِيَةِ، ويكون افتتاح خطابهم بهذا التذكير تهيئة لنفوسهم إلى تلقي الخطاب بسلامة طوية وإنصاف.

﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي سمَّاه الله تعالى عهدًا تارةً، وسمَّاه ميثاقًا تارةً أخرى، قال جل ذكره: ﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا [المائدة: 70]، وميثاقه وعهد الله إليهم هو حفظ الدين وصيانته، والقيام بواجبه بالبلاغ والتذكير والتعليم، والإيمان بالنبي الأُمِّي لو أدركوه أو سمعوا به.. وعهدهم إليه سبحانه أن يثيبهم على ذلك ويدخلهم الجنة.

ولم يبين هنا ما عهده وما عهدهم، ولكنه بيَّن ذلك في مواضع أُخَر؛ كقوله: ﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [المائدة: 12]، فعهدهم هو المذكور في قوله: ﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، وعهده هو المذكور في قوله: ﴿ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.

وأشار إلى عهدهم أيضًا بقوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187].

ومن لطائف القرآن في اختيار لفظ “العهد” للاستعارة هنا لتكليف الله تعالى إياهم أن ذلك خطاب لهم باللفظ المعروف عندهم في كتبهم، فإن التوراة المنزلة على موسى عليه السلام تلقب عندهم بالعهد؛ لأنها وصايات الله تعالى لهم؛ ولذا عبر عنه في مواضع من القرآن بالميثاق، وهذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا علماؤهم وهم أشحُّ به منهم في كل شيء بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين، فمجيئه على لسان النبي العربي الأُمِّي دليل على أنه وَحْي من العلَّام بالغيوب.

﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ عن دَاوُد بْن مِهْرَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ فُضَيْلًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قَالَ: “أَوْفُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ أُوفِ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ”.

والذي يظهر -والله أعلم- أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى، وترتيب إنجاز ما وعدهم به “عهدًا” على سبيل المقابلة، أو إبرازًا لما تفضَّل به تعالى في صورة المشروط الملتزم به، فتتوفَّر الدواعي على الإيفاء بعهد الله، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة: 111] ﴿ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 87]، وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ))؛ [أبو داود].

﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة: خوف مع تحرُّز، ورهبة الله تعالى عبادة؛ لأنه أمر بها، وهي تنطوي على الإخلاص الذي هو من أعمال القلوب.

قال السلمي: الرهبة خشية القلب من رديء خواطره.

وقال سهل: ﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ موضع اليقين بمعرفته، ﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج.

وقال القشيري: أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد.

 





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
The Legacy of كاتب التاريخ: Shaping our Understanding of the Past
كاتب التاريخ: A Masterful Historian of our Time