يا ربيعة ألا تتزوج؟! وأنتم أيها الشباب ألا تتزوجون؟!


يا ربيعةُ ألَا تتزوج؟! وأنتم أيها الشباب ألَا تتزوجون؟!

 

الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسْلَمِيُّ رضي الله عنه من أهل الحجاز، وهو من كبار المهاجرين البدرِيِّين، ومن أصحاب الصُّفَّة.

 

ربيعة بن كعب هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاب صغير، فعمره دون العشرين، وهو من أهل الصُّفَّة.

 

أبو فراس الأسلمي صحابي جليل من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أسلم في بداية شبابه، فقد كان شابًّا ناهز الخامسة عشرة.

 

ترك الوالدين والديار والأقارب ليكون بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، انطلق ربيعة مهاجرًا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سافَرَ لا لتجارة ولا لزوجة، ولكن ليُرضي الواحد القهَّار، فهاجر إلى الله ورسوله.

 

آوى ربيعة إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذه بيتًا ومسكنًا يقضي فيه ليله ونهاره، ويجاور أحب البشر عليه الصلاة والسلام ويقوم بخدمته، فقد أصبح خادمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنس بن مالك.

 

وقد أتاحت له وظيفته في الخدمة أن يكون ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حِلِّهِ وترحاله، وفي سفره وحَضَره، إذا غاب غاب معه، وإذا آب آب معه، يقطع سحابة نهاره في خدمته، وفي الليل ينام على عتبته، فيسمع من الليل تسبيح النبي وعبادته، فأية لحظة أُتيحت لهذا العربي ليكون ضمن هذه الكوكبة المنيرة من الصحابة الأجلَّاء، الذين اصطفاهم الرسول صلى الله عليه وسلم لخدمته.

 

انتقل ربيعة إلى حياة زوجية جديدة، لكنها لم تشغله عن خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَقِيَ ربيعة مجاورًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمًا له، ولما تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حزن عليه حزنًا شديدًا، وذرفت عيناه دموعًا غزيرة على فراقه، وهو يتذكر أيامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصعب عليه أن عينيه لن تكتحلا برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُطِق البقاء في المدينة، فقرر الرجوع إلى قبيلته أسْلَمَ، لعل حزنه يخف إذا ابتعد عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

همة ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه:

يقول ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: “وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم، فانظر إلى همة ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سَلْنِي، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة))، وكان غيره يسأله ما يملأ بطنه، أو يواري جلده.

 

من مواقف ربيعة بن كعب الأسلمي مع النبي:

يقول: كنت في بيت ميمونة، فقام النبي يصلي من الليل فقمت معه على يساره، فأخذ بيدي فجعلني عن يمينه، ثم صلى ثلاث عشرة ركعة، حرزت قيامه كل ركعة قَدْرَ ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴾ [المزمل: 1].

 

لما توفي رسول الله نزل على بريد من المدينة – مكان قريب من المدينة – فلم يزل بها حتى مات بعد الحَرَّة سنة ثلاث وستين.

 

وكان ربيعة رضي الله عنه يحب أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل ربيعة يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، يغزو معه، حتى قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي ربيعة رضي الله عنه سنة ثلاث وستين للهجرة.

 

وأسلم ربيعة بن كعب رضي الله عنه وهاجر إلى المدينة، وكان شديد الحب للنبي، حتى إنه كان يلازمه في نهاره وليله، في حضره وسفره، ويبيت عند باب غرفته في الليل رغبة في خدمته.

 

قال ربيعة رضي الله عنه: ((كنت أبيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سَلْ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعِنِّي على نفسك بكثرة السجود)).

 

وما من خَصلة من خِصال الخير إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أوفر الحظ والنصيب منها، وقد وصفه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه؛ فقال: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].

 

والمتأمل في السيرة النبوية تستوقفه مواقف كثيرة، يظهر فيها حب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وحسن معاملته لهم، والاهتمام بهم، فكان يؤلِّفهم ولا ينفرهم، ويتفقَّدهم ويَعُودهم، ويُعطي كل من جالسه نصيبه من العناية والاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرمَ منه، وكان يقضي حوائجهم، ويُشفق عليهم، ويشعر بآلامهم وآمالهم، ومن هذه المواقف: موقفه صلى الله عليه وسلم مع ربيعة بن كعب الأسلمي الأنصاري رضي الله عنه.

 

خدمة ربيعة وملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم:

طلب ربيعة بين كعب رضي الله عنه ملازمةَ النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، كما لازمه في الدنيا، وهذه مكانة رفيعة، فدلَّه النبي صلى الله عليه وسلم على كثرة السجود؛ ليجمع بين دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والعمل، وكذلك الأهداف العظيمة لا بد فيها من العمل مع طلب التوفيق من الله عز وجل.

 

وأما السجود، فهو مما يرفع الله به الدرجات؛ قال ثوبان لرسول الله: ((أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، فقال: عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدةً، إلا رفعك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً)).

 

وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهذا موافق لقول الله تعالى: ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19]، ولأن السجود غاية التواضع والعبودية لله تعالى.

 

أثر تربية الرسول لربيعة بن كعب الأسلمي:

إن رجلًا صاحَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه، وكان يقوم على حاجته ليلًا ونهارًا – لَخَلِيق به أن يتأثر بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، ومن المؤكد أن النبي ترك في نفسه أثرًا تربويًّا انعكس على حياته في أفعاله وسلوكه.

 

يقول ربيعة بن كعب الأسلمي: ((كنت أخدُم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوم له في حوائجه طيلة نهاري، حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، فأجلِس ببابه، فإذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدُث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فما أزال أسمعه يقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده، حتى أمَلَّ فأرجع، أو تغلبني عيني فأرقد، قال: فقال لي يومًا لِما يرى من خفتي وخدمتي إياه: سَلْني يا ربيعة، أُعْطِك، قال: فقلت: أنظرني في أمري يا رسول الله، قال: ففكرت في نفسي، فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقًا سيكفيني ويأتيني، قال: فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي؛ فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به، قال: فجئت، فقال: ما فعلت يا ربيعة؟ قال: فقلت: نعم يا رسول الله، أسالك أن تشفع لي إلى ربك فيُعتقني من النار، قال: فقال: مَن أمرك بهذا يا ربيعة؟ قال: فقلت: لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد، ولكنك لما قلت: سَلْني أُعْطِك، وكنتَ من الله بالمنزل الذي أنت به، نظرت في أمري، وعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقًا سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، قال: فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلًا، ثم قال لي: إني فاعل، فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود)).

 

وفي رواية عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: ((كنت أخدُم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا ربيعةُ، ألَا تتزوج؟ قال: فقلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، قال: فأعرض عني.

ثم قال لي بعد ذلك: يا ربيعة، ألَا تتزوج؟ قال: فقلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني.

قال: ثم راجعت نفسي، فقلت: والله يا رسول الله، أنت أعلم بما يصلحني في الدنيا والآخرة، قال: وأنا أقول في نفسي: لئن قال لي الثالثة، لأقولَنَّ: نعم.

قال: فقال لي الثالثة: يا ربيعة، ألا تتزوج؟ قال: فقلت: بلى يا رسول الله، مُرني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان، إلى حي من الأنصار، فقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقرئكم السلام، ويأمركم أن تزوِّجوا ربيعة فلانةً امرأةً منهم، قال: فأتيتهم فقلت لهم ذلك، قالوا: مرحبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته.

قال: فأكرَموني وزوَّجوني وألْطَفوني، ولم يسألوني البينة، فرجعت حزينًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالك؟ فقلت: يا رسول الله، أتيت قومًا كِرامًا، فزوجوني وأكرموني وألطفوني ولم يسألوني البينة، فمن أين لي الصَّدَاق؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبريدة الأسلمي: يا بريدةُ، اجمعوا له وزن نواة من ذهب، قال: فجمعوا له وزن نواة من ذهب، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب بهذا إليهم، وقُلْ: هذا صَداقها، فذهبت به إليهم، فقلت: هذا صداقها، قال: فقالوا: كثير طيب، فقبِلوا ورضُوا به.

قال: فقلت: من أين أُولِمُ؟ قال: فقال: يا بريدة، اجمعوا له في شاة، قال: فجمعوا له في كبش فطيم سمين.

قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عائشة، فقُلْ: انظري إلى المكتل الذي فيه الطعام، فابعثي به، قال: فأتيت عائشة رضي الله عنها فقلت لها ذاك، فقالت: ها هو ذاك المكتل، فيه سبعةُ آصاع من شعير، والله إن أصبح لنا طعامٌ غيره، قال: فأخذته فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب بها إليهم، فقُلْ: ليصلح هذا عندكم خبزًا.

قال: فذهبت به وبالكبش، قال: فقبِلوا الطعام، وقالوا: اكفونا أنتم الكبش، قال: وجاء ناس من أسلم فذبحوا، وسلخوا وطبخوا، قال: فأصبح عندنا خبز ولحم، فأَوْلَمْتُ، ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

قال ربيعة: وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضًا، وأعطى أبا بكر أرضًا، فاختلفنا في عذق نخلة، قال: وجاءت الدنيا، فقال أبو بكر: هذه في حدي، وقلت: لا، بل هي في حدي، قال: فقال لي أبو بكر كلمةً كرهتها، وندم عليها، قال: فقال لي: يا ربيعة، قُلْ لي مثل ما قلت لك، حتى تكون قِصاصًا، قال: فقلت: لا والله، ما أنا بقائل لك إلا خيرًا، قال: والله لتقولن لي كما قلت لك، حتى تكون قصاصًا، وإلا استعديت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: لا والله ما أنا بقائل لك إلا خيرًا، قال: فرفض أبو بكر الأرضَ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أتلوه، فقال أناس من أسلم: يرحم الله أبا بكر هو الذي قال ما قال، ويستعدي عليك، قال: فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصرونني عليه، فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيهلِك ربيعة، قال: فرجعوا عني، وانطلقت أتلوه حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقصَّ عليه الذي كان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ربيعة، ما لك والصِّدِّيق؟ قال: فقلت مثل ما قال كان كذا وكذا، فقال لي: قل مثل ما قال لك، فأبيت أن أقول له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، فلا تقل له مثل ما قال لك، ولكن قُلْ: يغفر الله لك يا أبا بكر، قال: فولى الصديق رضي الله عنه وهو يبكي))؛ [الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (13/ 325 برقم 16330)، والحاكم في المستدرك (23/ 141 برقم 2666، و23/ 141 برقم 2667، و31/ 513 برقم 6276)، وهو على شرط مسلم، وأبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة (112/ 94 برقم 2421)، والطيالسي في مسنده (111/ 111 برقم 1257)، وابن سعد في الطبقات الكبير (304/ 103 برقم 5274)، وأحمد في فضائل الصحابة (0/ 11، برقم 457)، والمنتقى من مسند المقلين (0/ 14 برقم 19)، والطبراني في الكبير (20/ 71 برقم 4444، و20/ 71 برقم 4445)].

 

وفي قصة الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه الكثير من الفوائد؛ منها على سبيل المثال:

أولًا: تفقُّد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأحوالهم، وحاجاتهم والسعي لقضائها، مع كثرة مشاغله والأعباء التي عليه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الولد مع والده، والوالد مع ولده، والزوجين، وكذا الجار مع جاره، والصديق مع صديقه، والمعلم مع طلابه؛ تفقدًا لحالهم، وسؤالًا عن حاجاتهم، والسعي لقضائها قدر المستطاع؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21].

 

ثانيًا: أن الخير كل الخير في الاستجابة لهَدْيِ الكتاب والسنة، فما من خير إلا دلَّا عليه، وما من شر إلا حذرا منه؛ ولذا قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]، وجاء في الحديث قول ربيعة رضي الله عنه: ((ثم راجعت نفسي فقلت: والله يا رسول الله، أنت أعلم بما يصلحني في الدنيا والآخرة))، فلما استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان له من الخير العظيم من الشفاعة في التزويج، وجمع الصَّداق، والوليمة، فالفلاح في اتباع هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم، والشقاء في الإعراض عنه.

 

ثالثًا: نصحه صلى الله عليه وسلم وحبُّه الخيرَ لأصحابه؛ ولذا كرر على ربيعة رضي الله عنه عرض التزويج حين رآه عَزَبًا محتاجًا للزواج، مما يدل على أهمية مبادرة الوالدين بتزويج أبنائهم وبناتهم؛ لِما فيه من العفاف، وتحصين الفَرْجِ، وحفظ البصر، والاستقرار النفسي، وإصابة الفطرة، والاهتداء بسنن المرسلين؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38].

 

رابعًا: مشروعية الشفاعة الحسنة، وفضلها، والترغيب فيها؛ كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لربيعة رضي الله عنه، ما لم تكن لإسقاط حقِّ آخرين أو تضييعه، حينئذٍ تكون من شفاعة مذمومة محرمة شرعًا؛ كما قال عز وجل: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85].

 

خامسًا: الترغيب في الإعانة على الزواج فيما يتعلق بالبحث عن الزوجة المناسبة، والإرشاد إليها، وكذا الإعانة على الصَّداق، وكذا الإعانة على وليمة العرس؛ كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مع ربيعة رضي الله عنهم أجمعين؛ إذ إن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى؛ كما أمر الله تعالى فقال: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].

 

سادسًا: في قول ربيعة رضي الله عنه: ((فأكرموني وزوجوني وألطفوني، ولم يسألوني البينة)) وجوب إحسان الظن بين المسلمين، وأن الأصل سلامة المقاصد، وحسن النوايا، وصدق الحديث بينهم، ما لم تقُم قرينة أو بينة تصرف عن ذلك.

 

سابعًا: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجمعوا له وزن نواة من ذهب))، وهي شيء يسير، دليل على أن الأصل في الصَّداق التيسير، والعِبرة بالتوفيق، وحصول المودة بين الزوجين.

 

ثامنًا: في قول أولياء الزوجة من الأنصار، حين قدم لهم ربيعة رضي الله عنه بوزن النواة ذهبًا: ((هذا كثير طيب، فقبِلوا ورضوا به))، قبول ما تيسر من الصداق، وعدم إلحاق المشقة بالخاطب بتكليفه ما لا يُطيق.

 

تاسعًا: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا بريدة، اجمعوا له في شاة، قال: فجمعوا له في كبش فطيم سمين))، التيسير في الوليمة، وعدم التكلف وإلحاق الزوج وأهله العَنَت والمشقة، فالمقصد منها إعلان النكاح، لا التفاخر والسمعة والإسراف، وربما تحمل أولياء الزوجين ما لا يُطيقون من أموال لإقامة حفل كبير، يحضُره القاصي والداني لنَيلِ ثنائهم ومدحهم.

 

عاشرًا: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لا سيما الفقراء منهم، وحرصه عليهم، وتلمس احتياجاتهم، وشفقته بهم؛ وصدق الله تعالى في قوله عنه صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وفي ذلك تعليم للأمة اهتمام المسؤول برعيته.

 

حادي عشر: معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بأحوال أصحابه واحتياجاتهم، وبما يصلح لهم دنياهم وآخرتهم؛ فقد قال لربيعة رضي الله عنه: ((يا ربيعة ألَا تتزوج؟))، كما أن فيه رجاحة عقل ربيعة رضي الله عنه، وثقته ويقينه في حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر ذلك من قوله رضي الله عنه: ((والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني)).

 

ثاني عشر: سرعة استجابة أهل البنت لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفرحهم بذلك، واعتبارهم له بركة وكرم، وقولهم: ((مرحبًا برسول الله، وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله، لا يرجع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته، فزوجوني وألطفوني))، وفي ذلك منقبة عظيمة من مناقب الأنصار، تُضاف إلى مناقبهم رضي الله عنهم الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].

 

ثالث عشر: استجابة الصحابة رضوان الله عليهم، وتعاونهم في جمع المهر وإقامة وليمة زواج ربيعة رضي الله عنه، تعطي صورة المجتمع المسلم في المدينة المنورة، الذي قام على السمع والطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، والأُخُوَّة والإيثار، والتكافل الاجتماعي.

 

وفي الحديث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّج ربيعة بن كعب الأسلمي امرأةً من الأنصار على وزن نواة من ذهب))؛ [قال ابن الملقن: الحديث إسناده جيد، المصدر: شرح البخاري لابن الملقن].

 

ورُوِيَ عن أنس: قيمة النواة خمسة دراهم، وفي رواية: ثلاثة دراهم وثلث درهم، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وعن بعض المالكية: النواة ربع دينار.

 

وقال أبو عبيدة: لم يكن هناك ذهب، إنما هي خمسة دراهم، تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية.

 

وبسند جيد عن أبي الشيخ عن جابر: إن كنا لننكح المرأة على الحفنة أو الحفنتين من الدقيق، ولما ذكره المرزباني استغربه.

 

وعند البيهقي: قال صلى الله عليه وسلم: ((لو أن رجلًا تزوج امرأة على ملء كفِّه من طعام، لكان ذلك صداقًا)).

 

وفي لفظ قال صلى الله عليه وسلم: ((من أعطى في صَداق امرأة ملء الحفنة سُوَيقًا أو تمرًا، فقد استحل)).

 

قال البيهقي: رواه ابن جريج، فقال فيه: كنا نستمتع بالقبضة، وابن جريج أحفظ، وفي كتاب أبي داود: عن يزيد عن موسى عن مسلم بن رومان، عن أبي الزبير عن جابر، يرفعه: ((من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقًا أو تمرًا، فقد استحل))؛ [المصدر: شرح الحديث من عمدة القاري].

 

رابع عشر: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعيش بعيدًا عن أصحابه، بل كان يتفقدهم ويسأل عنهم، فما أن يفتقد أحدهم، ويغيب عن مجلسه، إلا ويسأل عنه، فإن كان مريضًا سارع إلى عيادته، وإن كان مسافرًا خَلَفه في أولاده، وإن كان في حاجة سارع إلى قضائها له، فكان مع أصحابه بمثابة الأب الحاني، والصاحب المعطاء، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويشاركهم مشكلاتهم، ويُعينهم على حلِّها، ويقترح عليهم ما يصلح شأنهم، ويعلمهم ما ينفعهم، ولا يضجر من مساعدتهم.

 

وقد قال عنه صاحبه وزوج ابنتيه وخليفته عثمان بن عفان رضي الله عنه: ((لقد صحِبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير))؛ [أخرجه أحمد].

 

وأي شاب في سن ربيعة لا يريد أن يتزوج؟ وكلما ازدحمت الدنيا بالفتن والمؤثرات والشهوات، كانت حاجة الشباب إلى الزواج أشد ما يكون، وفي زمن كثرت فيه المواقع الإباحية على النت أو على القنوات الساقطة، وكثُر التبرج والسفور في الطرقات والمواصلات والمحلات، وفي كل مكان، ومع وجود الصحبة السيئة، فإن الشابَّ حقًّا يحتاج إلى زواج، ولكن كيف والحال في البلاد كما نرى؟ فإذا أراد الشاب الزواج قد لا يجد ما يُعينه كي يتزوج؛ حيث ارتفعت قيمة الإيجار وتكاليف الزواج.

 

وكان ربيعة كأي شاب معدوم ليس عنده مال ولا سكن ولا وظيفة، وعنده شهوة يحب أن يفرِّغها فيما أحله الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يتعهده، ويقول له: ألا تتزوج يا ربيعة؟ فقال: لا أحب أن يشغلني شيء عن خدمتك يا رسول الله، ثم إنه ليس عندي ما أمهر به الزوجة، ولا ما أُقيم حياتها به، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه ثانية، قال له: ألَا تتزوج يا ربيعة؟ وربيعة يردد نفس الكلام حتى قال لنفسه مرة: ويحك يا ربيعة، إن النبي صلى الله عليه وسلم لأعلم منك بما يصلح لك في دينك ودنياك، ثم لقيه النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال له: ألَا تتزوج يا ربيعة؟ فقال ربيعة: بلى يا رسول الله، ولكن من يزوِّجني وأنا كما تعلم؟! فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب لبيت آل فلان، فزوَّجوه، ثم عاد يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أين آتِيهم بالمهر؟

 

فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم سيدًا من سادات قوم ربيعة (بريدة)، وأمره أن يجمع لربيعة وزن نواة ذهبًا، فدفعها ربيعة لأهل زوجته، ثم عاد يقول: فمن أين لي ما أولم به يا رسول الله؟

 

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبريدة: أجمعوا لربيعة ثمن كبش، وأرسل ربيعة إلى بيته صلى الله عليه وسلم لتعطيه عائشة رضي الله عنها ما عندها من الشعير، فتزوج وأمهر وأولم رضي الله عنه.

 

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على حماية شباب الأمة، وحفظهم من الهلاك أو الوقوع في الفاحشة، وكيف لا، وهم عصب الأمة وعودها، فإذا نخر العود، هَلَكَتِ الشجرة بأسرها؟ وليس هناك أخطر من الشهوات أو الشبهات لضياع دين الشباب وأخلاقهم، وقوتهم وهمتهم، وحماستهم وحرصهم على رضا ربهم، وأعتقد أن الشباب يتشوقون لهذا الصوت الذي غاب من زمن بعيد؛ لينادي عليهم من جديد: ألَا تتزوجون يا شباب؟

 

وبالتأكيد سيقول الجميع بأعلى حناجرهم: بلى، إذًا لماذا لا نتعاون على إعفاف الشباب وتزويجهم؟! وهم أبناؤنا ومستقبل أمتنا وحاضرها، ووقود التطور فيها، وهم الدم النابض في عروق أمتنا، ومع الحرص على نشر العفاف في الأمة يعم الخير، ويقل الفساد، ويتزوج الشباب، ويطهر المجتمع، وتقل الفاحشة والرذيلة، ولن نسمع عن حالات الاغتصاب ولا انتهاك الأعراض.

 

المراجع:

1- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، أبو عمر يوسف بن عبدالله بن عاصم النمري القرطبي.

 

2- مقالة بعنوان: مع النبي صلى الله عليه وسلم، يا ربيعة ألا تزوج؟ موقع إسلام ويب.

 

3- يا ربيعة ألا تتزوج؟ خطبة لعبدالعزيز أبو يوسف.

 

4- ألا تتزوج يا ربيعة؟ مصطفى دياب.

 

5- حينما تكون الهمة رجلًا، صيد الفوائد.

 

6- ربيعة بن كعب رضي الله عنه، بقلم سامي بن عيضة المالكي.

 

7- إرواء الغليل، الألباني.

 

8- مسند الطيالسي.

 

9- سنن النسائي الكبرى.

 

10- مدارج السالكين، ابن القيم.

 

11- مستدرك الحاكم.

 

12- كنز العمال.

 

13- المعجم الكبير.

 

14- الاستيعاب.

 

15- طبقات ابن سعد 4/ 234.

 

16- التاريخ الكبير للبخاري 3/ 280.

 

17- الكنى والأسماء لمسلم 2/ 677.

 

18- معجم الصحابة للبغوي 2/ 382.

 

19- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/ 472.

 

20- الثقات لابن حبان 3/ 128.

 

21- معرفة الصحابة لابن منده ص 594.

 

22- معرفة الصحابة لأبي نعيم 2/ 1088.

 

23- الاستيعاب 2/ 494.

 

24- أسد الغابة 2/ 64.

 

25- الإصابة 2/ 394.

 

26- ربيعة بن كعب الأسلمي… همة عند الثريا، أحمد عبدالرازق عياد.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الاهتمام بالتزكية قبل العلم
البقرة في القرآن والسنة (خطبة)