يا ليتني مت قبل هذا
يا ليتني متّ قبل هذا
يكثر في هذا الزمن -بحمد الله- الحريصات على دينهنّ؛ الملتزمات بتعاليمه، المحافظات على شعائره، الحريصات على سننه، وهذا فضل من الله – تعالى- يؤتيه من يشاء، نسأل الله من فضله.
ولكن قد يفاجئها ما تدمع عينُها لأجله، أو يعجز لسانها عن التعبير عنه من مواقف عصيبّة وفتن خطيرة تصيبها، وفي تلك الحال قد تتمنّى الموت بسبب ذلك، فتجاهد هذا وتدفعه، وتسأل الله سلامة القلب ودوام الانقياد؛ وقد يغلب اليأس ويشتدّ الأمر؛ فتتمنّاه مرّة أخرى وتدفعه؛ ثم لمّا تسكن نفسها تحار بما شعرت به وبما جال في وجدانها من تمنٍّ للموت ومفارقة لحياة تراها سببًا في فتنتها، وتجهل حكم ذلك التمنّي، وهل وافقت الشرع أم خالفته؟
ويتبادر إلى ذهنها تساؤلات وهي تقرأ قوله تعالى – على لسان مريم عليها السلام – قالت: ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23] كما تقرأ في السنة عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: « لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الْمَوْتَ من ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كان لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللهم أَحْيِنِي ما كانت الْحَيَاةُ خَيْرًا لي وَتَوَفَّنِي إذا كانت الْوَفَاةُ خَيْرًا لي »، وفي رواية: « لضر نزل به »[1].
فهذا إشكال ظاهريّ وتوهّم للتعارض بين منطوق الآية والحديث، لكنّه يزول بعد فهم الآية والحديث، يقول ابن عاشور-رحمه الله- عن مريم – عليها السلام -: ” فهي في حالة من الحزن ترى أنّ الموت أهون عليها، فتمنّت الموت قبل هذا الحمل فأرادت أن لا يتطرّق عرضها بطعن، فخافت أن يظنّ بها السوء في دينها، و لا تجرّ على أهلها معرّة”[2].
وقال القرطبيّ -رحمه الله-:
(( إنّها تمنّت الموت من جهة الدين لوجهين:
أحدهما: أنّها خافت أن يظنّ بها الشرّ في دينها وتعيّر فيفتنها ذلك.
الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان، والنسبة إلى الزنى، وذلك مهلك ))[3].
فتأمّلي غاليتي متّى تمنّتِ الموتَ؟!
لما خشيتْ الفتنة؛ وأيّ فتنة أعظم على النساء من الطعن في العرض، إضافة إلى خوفها على قومها من الهلاك، فهي لم تتمنه جزعًا من ألم المخاض، بل ممّا خشيته من فتنة القوم.
وفي ذلك نصّ الجصاص[4] والقرطبي[5] – رحمهما الله – على جواز تمنّي الموت عند خشية الفتن، فإنّها – عليها السلام – عرفت أنّها ستبتلى و تمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت:﴿ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23][6].
فقارني غاليتي ما يصيبك من فتن وما أصابها – عليها السلام – فالجواب الشافي الكافي هو ما ورد في السنّة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول -صلّى الله عليه وسلّم-: « لا يَتَمَنَّى أحدكم الْمَوْتَ ولا يَدْعُ بِهِ، من قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إنّه إذا مَاتَ أحدكم انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إلا خَيْرًا »[7].
و في رواية: ((لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، قالوا: ولا أنت يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: لا، ولا أنا إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الْمَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وإما مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ))[8].
فالنداء بالنهي محمول على خوف الضرر الدنيويّ كتلف مال، أو مرض، و نحوه، كما قال النووي و ابن حجر-رحمهما الله-[9]. وتأمّلي الكرم الربّاني في جعل زيادة أيّام الحياة هو الدافع للزيادة في الأعمال الصالحة، والفرار إلى الله -سبحانه وتعالى- بالتوبة فرحًا برضاه، كما ندعو الله –سبحانه- بالثبات وحسن الختام، فندافع ما يواجهنا من فتن بقوّة إيمان ويقين بنصر وعلم شرعي، لأنّ في الجهل ضعفًا للنفس وخورًا لها.
فيا أخيتي، لا تجعلي أيّ مصيبة عليك هي فتنة يجوز فيها تمنّي الموت، وذلك لأنّ الفتن أشكال وأنواع، فانظري في المصائب التي تبتلين بها فليس كلّها فتن، بل هي بلايا تقوّي النفس البشريّة المسلمة فتعطيها مناعة من تفاهات المجتمع، كما تقوّيها في صلتها بربّها، وذلك لبقاء دعوة التوحيد خالدة لا تزول، فكوني ممّن يدعو لخلود هذا الدين بقوله وعمله، وليس ممّن يهرب منه بتمنّي الموت وكأنّه الحلّ الناجع، ولك في رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم – أسوة حسنة، فهو لم يتمن الموت قطّ.
وما جاء في الآثار عن بعض الصحابة – رضي الله عنهم- أنّهم تمنّوا الموت؛ كقول عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- أنّه قال: ((اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيّتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط))[10] قد كان قوله هذا و غيره في زمن اشتدّت بهم الفتن، كما أنّ في لفظه رضي الله عنه دعاء بحسن الختام.
و أمّا ما جاء في قوله تعالى على لسان يوسف – عليه السلام-: ﴿ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [سورة يوسف:101] و على لسان سليمان -عليه السلام-: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [سورة النمل:19].
و في الحديث عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: سمعت النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وهو مُسْتَنِدٌ إليّ يقول: ((اللهم اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعلى))[11].
و في الحديث الطويل عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- في دعاء الرسول -صلّى الله عليه و سلّم- في الصلاة، أنّه قال: ((وإذا أردت فتنة قوم فتوفّني غير مفتون))[12] فهو دعاء بحسن الختام.
و ما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه-أنّ رسول الله -صلّى الله عليه و سلّم- قال: ((لا تقوم الساعة حتّى يمرّ الرجل بقبر الرجل، فيقول: ياليتني مكانه))[13] إنّما هو خبر عن تغيّر الزمان وما يحدث فيه من المحن والبلاء والفتن[14].
كما أوصيك أختي بتجديد التفاؤل؛ فلن يكون الزمان كلّه ظلامًا حالكًا بالفتن؛ بل سيتبدّد هذا الظلام بنصر الإسلام والمسلمين مهما خطّط الأعداء و دبّر، ومهما غفل الغافلون منّا، فإنّ الطائفة المنصورة لا تزال قائمة على الحقّ، ويستفيق من حولها، فقيام أمر الله –تعالى- هو الحقّ الخالد، فعن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: « بشّر هذه الأمة بالسناء والتمكين في البلاد والنصر والرفعة في الدين ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة نصيب »[15].
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الغرّ المحجّلين نبيّنا محمّد عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.