يعلمنا القرآن (3) المتكبر بالأنا!
يعلمنا القرآن (3)
المتكبِّر بالأنا!
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12].
﴿ قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ [ص: 75 – 77].
والكبر هو ذاك المرض الذي يصيب الإنسان في ذكائه وفطنته، فينخر فيها حتى تستحيل إلى حمق وغباء وانعدام بصيرة.
وجذر الكبر “الأنا”، تتعاظم في النفس إلى أن يضيق بها صدر المتكبر، فتخرج منه في ظرف من الظروف لتصبغ حياته أقوالًا وسلوكًا، فتنتهي به إلى مخلوق متخبط لا يعرف الحق والاتزان له سبيلًا.
وهذا واقع نشهده في حياتنا كل يوم، يبقى الإنسان – رجلًا كان أو امرأةً – يتمتع بقدر من الذكاء والفطنة وربما الدهاء، إلى أن يستحكم فيه الكبر، فيستحيل إلى إنسان أحمق بأقوال وسلوكيات لا تمتُّ إلى ما كان عليه من اتزان بصلة.
وعناصر الكبر، باختصار، تلخِّصها لنا قصة إبليس، شيخ المتكبرين، في عصيانه أمر الله للسجود لآدم: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12].
التكبر بما ليس للمتكبر فيه فضل: فإبليس يعترف بادئ ذي بدء، أن سبب كبره، وهو ما يراه من الفوقية الخلقية على آدم، ليس أمرًا من صنيعه هو، بل هو من صنع الله الذي خلقه على هذه الهيئة: ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ﴾ [الأعراف: 12]، فبماذا يتكبَّر؟! وكذا أمر كل مخلوق، بماذا يتكبَّر؟ بقوَّته، بجماله، بماله، بعلمه، بجبروته، بسلطته ونفوذه؟ يتكبر بما لا فضل له فيه؛ بل هو عطايا ونعم من خالقه! وكيف به لو ذهب الله بكل ما لديه في طرفة عين؟
التقوُّل على الله بغير علم: ثم إن إبليس لما استعظم الكبر في نفسه تقوَّل على الله بغير علم، تكلم بما لا يعرف، فقاس النار والطين بمنظوره الكِبْريّ، ليقرر أن النار أفضل من الطين، وما أدراه؟ هنا كان المتكبر قد وصل إلى مرحلة التذاكي – والعياذ بالله – على خالقه، فرأى في نفسه عالمًا حكمًا، يفوق خالقه علمًا، ويقرر، ويصدر أحكامًا نيابة عنه، وهذا بعينه ما يكون من أمر البشريِّ عندما يضع القوانين نيابةً عن الله، ويقرر ويصدر أحكام زمانه نيابة عن خالق الزمان والمكان.
الأفضلية المطلقة:وهذا ما كان من إبليس، فكان سبب عصيان إبليس لأمر الله أنه افترض في نفسه الأفضلية والخيرية، “أنا خيرٌ منه”، فامتنع من الطاعة، لأنه -حسب رأي إبليس -لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، وأنا خير منه، فكيف تأمرني بالسجود له؟ وهكذا المتكبرون دائمًا هم أفضل من غيرهم، أو بالأحرى هم الأفضل بالمطلق، لا يقبلون حقًّا، فالحق عندهم ما يقولون وما يفعلون، وتراهم في ازدراء دائم لمن حولهم، ومهما تحَلَّوا “بالدبلوماسية” تفضحهم زلَّات ألسنتهم! وصدق الصادق المصدوق: “الكبر بطر الحق وغمط الناس”.
الرأي في مواجهة أمر الله: وأخطأ اللعين عندما وضع رأيه في مواجهة أمر الله، فجعله سببًا مبررًا للعصيان!
فقد قاس إبليس برأيه، فوضع رأيه في كفة وأمر الله له بالسجود في كفة، فرجَّح كفة رأيه على أمر الله، “قال ابن عباس: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس”، قال ابن سيرين: “ما عبدت الشمس إلا بالقياس”، واليوم حدِّث في هذا ولا حرج، مع الأسف الشديد أصبح شرع الله “مرتعًا” والعياذ بالله للأهواء والآراء والتأويل والتفسير بما لا يمتُّ للحق بصلة!
والكبر يورث الزلل وعمى البصيرة، ولعظم كبر إبليس بنى معصيته على قياس خاطئ أصلًا، فقرَّر أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين؛ لعلوِّ النار على الطين وصعودها، بل وجعله مبررًا لعدم سجوده لآدم، يقول القرطبي: “وقالت الحكماء: أخطأ عدوُّ الله من حيث فضل النار على الطين، فإن الطين أفضل من النار من عدة أوجه: أن من جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة والحلم، والحياء، والصبر؛ وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية.
ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب؛ وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء؛ قاله القفَّال.
الثاني: أن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارًا، وأن في النار ترابًا.
الثالث: أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سببًا للعذاب.
الرابع: أن الطين مستغنٍ عن النار، والنار محتاجة إلى المكان، ومكانها التراب.
قلت: ويحتمل قولًا خامسًا، وهو أن التراب مسجد وطهور؛ كما جاء في صحيح الحديث، والنار تخويف وعذاب؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ﴾ [الزمر: 16]، وقال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربَّه، وهو أول من قاس برأيه”؛ انتهى.
وهل يصيب من يقيس بالهوى؟!
فيا أيها المسلم، اعرض نفسك على عناصر الكبر التي أودت بإبليس إلى الجحيم خالدًا مخلدًا، وتلَمَّس مكانك منها.
رحم الله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه القائل: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوها قبل أن تُوزَنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية”.
وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ”، قالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ: “إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ“؛ صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود.
هذا باختصار والله أعلم، والله من وراء القصد.