يوم تبيض وجوه وتسود وجوه


﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ

 

قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 106، 107].

 

﴿يَوْمَ: يعني به يوم القيامة؛ أي: اذكُروا يوم…

 

﴿تَبْيَضُّ وُجُوهٌ: نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]، وقوله: ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ [يونس: 26].

 

﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ: كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60]، وقوله: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة: 24، 25].

 

وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه تهويل لأمره، وتشويق لما يرد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضَّة، والوجوه المسودَّة ترعيبًا لفريق وترغيبًا لفريق آخر.

 

والأظهر أن علم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلك اليوم حاصل من قبل في الآيات النازلة قبل هذه الآية؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60]، وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس: 38-41].

 

والجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون. والبياض من النور، والسواد من الظلمة.

 

قال الزمخشري: “فمن كان من أهل نور الدين وُسِمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضَّت صحيفته وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسِمَ بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودَّت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب”.

 

وأسند الابيضاضَ والاسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود؛ لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه، وهو أشرف أعضائه.

 

وهذا البياض يكون على قسمين:

بياض عام لكل مؤمن، وبياض خاص لهذه الأمة، فتختص هذه الأمة بأنها يكون لابيضاضها نور تعرف به يوم القيامة، كما روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِن الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِن الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِن الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ). فهذه الأمة تكون وجوهها بيضاء ولكن لها نور بخلاف غيرها، وأيضًا هذه الأمة يكون النور لها حيث يبلغ الوضوء؛ أي: يكون في اليدين وفي الرِّجْلين.

 

قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البِدْعَة والفرقة.

 

وروى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي غَالِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: “﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران: 7] قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ، وَفِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ”[1].

 

وروى الترمذي عَنْ أَبِي غَالِبٍ، قَالَ: رَأَى أَبُو أُمَامَةَ رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: «كِلَابُ النَّارِ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قُلْتُ لِأَبِي أُمَامَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا حَتَّى عَدَّ سَبْعًا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ. قال الترمذي: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَبُو غَالِبٍ اسْمُهُ: حَزَوَّرٌ، وَأَبُو أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ اسْمُهُ: صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ وَهُوَ سَيِّدُ بَاهِلَةَ”.

 

قال القرطبي: “يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضَّة ووجوه الكافرين مسودَّة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذا قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيضَّ وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسودَّ وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيضَّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسودَّ وجهه. ويقال: ذلك عند قوله تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59]. ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودَّت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون؛ فيقول الله تعالى للمؤمنين: “من ربُّكم؟” فيقولون: ربنا الله عز وجل فيقول لهم: “أتعرفونه إذا رأيتموه”. فيقولون: سبحانه! إذا اعترف عرفناه. فيرونه كما شاء الله.

 

فيخرّ المؤمنون سُجَّدًا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضًا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسودّ وجوههم؛ وذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ.

 

ثم قال -رحمه الله-: فمن بدَّل أو غيَّر أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتدعين منه المسوِّدي الوجوه، وأشدهم طردًا وإبعادًا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم؛ كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تبايُن ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها؛ فهؤلاء كلهم مُبدِّلون ومبتدعون، وكذلك الظَّلَمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع؛ كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والخبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء. وكان يقول: تمام الإخلاص تجنُّب المعاصي”.

 

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ من سوء ما عاينوه من أهوال الموقف وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار.

 

وهو تفصيلٌ لأحوال الفريقين بعد الإشارةِ إليها إجمالًا. وابتدئ بالذين اسودَّت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم والتشبُّه بهم، ولمجاورة قوله: ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، والإفضاء إلى ختم الكلامِ بحسن حالِ المؤمنين كما بُدئ بذلك عند الإجمالِ، فيكون مطلع الكلام وخاتمته شيئًا يسُرُّ الطبع، ويشرح الصدر.

 

وقال ابن عاشور: وقدم عند وصف اليوم ذكر البياض الذي هو شعار أهل النعيم، تشريفًا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأن رحمة الله سبقت غضبه، ولأن في ذكر سمة أهل النعيم، عقب وعيد غيرهم بالعذاب، حسرة عليهم؛ إذ يعلم السامع أن لهم عذابًا عظيمًا في يوم فيه نعيم عظيم. ثم قدم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلًا بمساءتهم.

 

﴿أَكَفَرْتُمْ؛ أي: فيقال: أكفرتم. ويحتمل أن القائل هو الله عز وجل، ويحتمل أن يكون القائل الملائكة.

 

والاستفهام للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم، وتلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات؛ لأن قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ غيبة، و﴿أَكَفَرْتُمْ مواجهة بما كنتم.

 

﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ والخطاب في ﴿أَكَفَرْتُمْ إلى آخره يتفرَّع على الاختلاف في الذين اسودَّت وجوههم:

فإنْ كانوا الكفار فالتقدير: بعد أن آمنتم الإيمان الفطري حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم كالذرِّ حين أَشْهَدَهُم الله تعالى على أنفسهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172].

 

وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان.

 

وإن كانوا بني قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه، وكفرهم به بعده، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوَّته ووصفه والأمر باتباعه ثم تنكرهم لهذا.

 

وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم.

 

وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة ثم ارتدوا على أعقابهم.

 

﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ يقال لهم تقريعًا وتوبيخًا، فيجمع لهم بين الألم القلبي النفسي بالتوبيخ ﴿أَكَفَرْتُمْ والألم البدني ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ؛ أي: ذوقوا العذابَ المعهودَ الموصوفَ بالعِظَم للدلالة على أن الأمرَ بذَوْق العذابِ على طريق الإهانةِ مترتبٌ على كفرهم المذكورِ.

 

والكُفَّار يوبخون في عرصات القيامة ويوبخون عند دخول النار: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك: 8، 9].

 

ويوبِّخون أيضًا في حال دخولهم النار ومكثهم فيها ما شاء الله وطلبهم أن ينجوا منها فيقال لهم: ﴿قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108].

 

والذوق هنا ليس ذوقًا باللسان بل هو ذوق بالبدن كله؛ لأن الذوق قد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالبدن، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا)؛ [مسلم] المراد به ذوق القلب لا ذوق اللسان، وإذا قيل: ذاق الثمرة فهذا ذوق اللسان، ذاق العذاب: هذا ذوق البدن، فلكل مقام مقال.

 

﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ صريحٌ في أن نفسَ الذوْقِ معلَّلٌ بكفرهم بالله وشرائعه، فالباء سببية.

 

وفيه: أن من فيه خصلة من خصال الكفر فله من عذاب الكافرين بقدرها؛ لأن لدينا قاعدة وهي أن الحكم المعلق بوصف يقوى ويضعف بحسب ذلك الوصف، إن وُجد فيه جملة كبيرة من الوصف استحقَّ من الحكم الذي رتب عليه بقدر هذه الجملة الكبيرة وإلا فبحسبها.

 

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ «في» للظرفية، ورحمة الله هنا ليست الرحمة المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف: 58]؛ لأن هذه صفة الله، أما هنا ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ فهي مخلوق الله، والمراد بها «الجنة» كما جاءت في الحديث الصحيح: إن الله قال لها – أي الجنة – (أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي) [البخاري]، ويمتنع أن يكون المراد بها الصفة؛ لأن الصفة لا تكون ظرفًا للبشر، وإذا امتنع أن تكون ظرفًا للبشر امتنع أن يراد بالرحمة هنا الرحمة التي هي صفة الله تعالى، بل هي الرحمة المخلوقة لله، وأطلق عليها اسم الرحمة؛ لأنها كانت برحمة الله يرحم الله بها من يشاء من عباده.

 

وعُبِّر عن الجنة بالرحمة تنبيهًا على أن المؤمنَ وإن استغرق عمرَه في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخُل الجنةَ إلا برحمته تعالى.

 

وانظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودَّت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب، وهنا جعلهم مستقرِّين في الرحمة، فالرَّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم.

 

﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لما أخبر تعالى أنَّهم مستقرُّون في رحمة الله بيَّن أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، فذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعارًا بأنَّ جانب الرحمة أغلب.

 

وهو استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤال نشأ من السياق كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعَنون عنها ولا يموتون.

 

وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه، بل قال: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ ولما ذكر العذاب علَّله بفعلهم ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة.

 

والخلود في الجنة أبدي؛ لأنه جاء بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت والاستمرار. كما ذكره تعالى في آيات كثيرة، ولم يثبت الخلود لمقابله، وقد صرح به في غير هذا الموضع.

 

فإن قال قائل: إذا قلت إنه أبديّ فما جوابك عن قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] فاستثنى فقال: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ؟

 

فالجواب: لا تعارض الآيات الدالة على الأبدية هذه الآية؛ لأنها من المشكل الذي يجب ردُّه إلى المحكم، والعلماء لهم في هذه الآية أقوال؛ ولكن القول الذي يريح الإنسان أن يجعل هذا القيد، والقيد الذي في أهل النار: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 106، 107] من الأمور المتشابهة، ويحمل على النصوص المحكمة فنقول: إن الله قال: ﴿إِلَّا مَا شَاء رَبُّكَ مع أنه قد شاء أن يبقى هذا أبَدَ الآبدين، وهو كقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في زيارة القبور: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ)؛ [مسلم]، فعَلَّقه بالمشيئة مع أن اللحوق بهم لا بد منه، وهذا القول يستريح به الإنسان، ولا يعترض عليه معترض كما اعترض ابن القيم رحمه الله بأن قال: فاختلاف ختم الآيتين يدل على أن أهل النار ليس خلودهم أبديًّا بخلاف أهل الجنة؛ لأنه قال في أهل الجنة: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وقال في أهل النار: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ.

 

وهذا في الحقيقة يدلُّك على أن الإنسان مهما بلغ في العلم والذكاء فلن يسلم من الغلط، والفرق بين الآيتين ظاهر؛ لأن آية (السعادة) فضل فقال: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وآية النار (الشقاء) عدل، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وهذا من فعله الذي أراد، وليس المعنى أنه فَعَّال لما يريد سيفعل في المستقبل خلاف ذلك كما فهمه ابن القيم رحمه الله، فإن هذا فهم غير سليم بلا شك، بل إن مناسبة ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ هو أنه لما كان الشقاء غير محمود قال: هذا من فعل الله، والله يفعل ما يريد مع أنه لم يظلمهم.


[1] في رفعه نكارة، لكنه ثابت موقوفًا عن أبي أمامة، فقد روي من طريق حسن كذلك، وقال الحافظ ابن كثير في “تفسيره” بعد ما أورد هذا الحديث من طريق “المسند”: وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفًا من كلام الصحابي ومعناه صحيح؛ فإن أوَّل بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غنائم حُنَيْن، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخُوَيْصرة-بقر الله خاصرته-اعدل فإنك لم تعدل، فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “لقد خِبْتُ وخَسرْتُ إنْ لَمْ أكن أَعدل، أيَأْمَنُني على أهل الأرض ولا تَأْمَنُونِي”. فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية: خالد بن الوليد- ولا بُعد في الجمع -رسول الله في قتله، فقال: “دَعْهُ فإنه يخرج من ضِئْضِئ هذا -أي: من جنسه- قوم يَحْقِرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يَمْرُقُونَ من الدين كما يَمْرُقُ السهم من الرَّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجْرًا لمن قتلهم”.

ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب، وقتلهم بالنَّهْروان، ثم تشعَّبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحَلٌ كثيرة منتشرة.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
'Before I Let Go' Is on TIME’s List of the 50 Best Romance Novels – TIME
The Walking Dead: Daryl Dixon: The Book of Carol – Rotten Tomatoes