﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ (9)
تأملات في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (9)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
ومن هدي القرآن الكريم للطريق التي هي أقوم وأعدل، المصالح التي عليها مدار الشرائع الثلاثة وهي:
1- الأولى: درء المفاسد المعروف عند أهل علم الأصول بالضروريات.
2- الثانية: جلب المصالح المعروف عند أهل علم الأصول بالحاجيات.
3- الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، المعروف عند أهل علم الأصول بالتحسينيات والتتميميات.
وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها.
فالضروريات التي هي درء المفاسد إنما هي درؤها عن ستة أشياء:
الأولى: الدِّين، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، كما قال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُم حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتنَة وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾[سورة البقرة، الآية رقم: 193]، وفي آية الأنفال: ﴿وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [ الآية رقم: 29]، وقال تعالى: ﴿تُقَٰتِلُونَهُم أَو يُسلِمُونَ﴾ [سورة الفتح، الآية رقم: 16]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»[1] الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»[2]، إلى غير ذلك من الأدلة في المحافظة على الدين.
والثاني: النفس، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها، ولذلك أوجب القصاص درءًا للمفسدة عن الأنفس، كما قال تعالى: ﴿وَلَكُم فِي ٱلقِصَاصِ حَيَوٰة يأوْلِي ٱلأَلبب لَعَلَّكُم تَتَّقُون﴾ [البقرة: 179]، وقال تعالى: ﴿عَلَيكُمُ ٱلقِصَاصُ فِي ٱلقَتلَى ٱلحُرُّ بالحُرِّ﴾ [البقرة: 178]، وقال تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظلُوما فَقَد جَعَلنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلطَٰنا ﴾ [الإسراء: 33].
الثالث: العقل، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلخَمرُ وَٱلمَيسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزلَٰمُ رِجس مِّن عَمَلِ ٱلشَّيطَٰنِ فاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ * نَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمُ ٱلعَدَٰوَةَ وَٱلبَغضَآءَ فِي ٱلخَمرِ وَٱلمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ فَهَل أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: 90-91]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ) [3]، وقال: (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)[4] كما قدمنا ذلك مستوفى في «سورة النحل» وللمحافظة على العقل أوجب صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءًا للمفسدة عن العقل.
الرابع: النسب، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، ولذلك حرم الزنى وأوجب فيه الحد الرادع، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت، لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَة وَسَآءَ سَبِيلا﴾ [الإسراء: 32]، ونحو ذلك من الآيات، وقال تعالى: ﴿ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فاجلِدُواْ كُلَّ وَٰحِد مِّنهُمَا مِاْئَةَ جَلدَة ﴾ [النور: 2] وقد قدمنا آية الرجم والأدلة الدالة على أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم، وقال تعالى في إيجاب العدة حفظًا للأنساب: ﴿وَٱلمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓء ﴾ [البقرة: 228]، وقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزوَٰجا يَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَربَعَةَ أَشهُر وَعَشرا ﴾ [البقرة: 234]، وإن كانت عدة الوفاة فيها شبه تعبد لوجوبها مع عدم الخلوة بين الزوجين.
ولأجل المحافظة على النسب منع سقي زرع الرجل بماء غيره؛ فمنع نكاح الحامل حتى تضع، قال تعالى: ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلأَحمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعنَ حَملَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4].
الخامس: العرض، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، فنهى المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه، وأوجب عليه إن رماه بفرية حد القذف ثمانين جلدة؛ قال تعالى: ﴿وَلَا يَغتَب بَّعضُكُم بَعضًا﴾ [الحجرات: 12]، وقبحﭼ غيبة المسلم غاية التقبيح؛ بقوله:﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتا فَكَرِهتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّاب رَّحِيم﴾، وقال: ﴿وَلَا تَلمِزُوٓاْ أَنفُسَكُم وَلَا تَنَابَزُواْ بالأَلقَٰبِ بِئسَ ٱلِٱسمُ ٱلفُسُوقُ بَعدَ ٱلإِيمَٰنِ وَمَن لَّم يَتُب فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾ [الحجرات: 11]، وقال في إيجاب حد القاذف: ﴿وَٱلَّذِينَ يَرمُونَ ٱلمُحصَنَٰتِ ثُمَّ لَم يَأتُواْ بِأَربَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلِدُوهُم ثَمَٰنِينَ جَلدَة وَلَا تَقبَلُواْ لَهُم شَهَٰدَةً أَبَدا وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلفَٰسِقُونَ * إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾ [النور: 4-5].
السادس: المال، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها؛ ولذلك منع أخذه بغير حق شرعي؛ وأوجب على السارق حد السرقة، وهو قطع اليد كما تقدم؛ قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأكُلُوٓاْ أَموَٰلَكُم بَينَكُم بالبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاض مِّنكُم﴾ [النساء: 29]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَأكُلُوٓاْ أَموَٰلَكُم بَينَكُم بالبَٰطِلِ وَتُدلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلحُكَّامِ لِتَأكُلُواْ فَرِيقا مِّن أَموَٰلِ ٱلنَّاسِ بالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وقال: ﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فاقطَعُوٓاْ أَيدِيَهُمَا جَزَآءَ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلا مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [المائدة: 38]، وكل ذلك محافظة على المال ودرء للمفسدة عنه.
جلب المصالح:
وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها؛ ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فانتَشِرُواْ فِي ٱلأَرضِ وَٱبتَغُواْ مِن فَضلِ ٱللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10]، وقال تعالى: ﴿لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُواْ فَضلا مِّن رَّبِّكُم﴾ [البقرة: 198]، وقال تعالى: ﴿وَءَاخَرُونَ يَضرِبُونَ فِي ٱلأَرضِ يَبتَغُونَ مِن فَضلِ ٱللَّهِ ﴾ [المزمل: 20]، وقال تعالى: ﴿بالبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاض مِّنكُم ﴾ [النساء: 29].
ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع: ليستجلب كل مصلحته من الآخر، كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة، وما جرى مجرى ذلك.
الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات: وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها، والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جدًّا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما سئلت عائشةرضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»[5] لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق؛ لأن الله تعالى يقول في نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم ﴾ [القلم: 4].
فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق: أنه يكون على خلق عظيم، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق، وسنذكر لك بعضًا من ذلك تنبيهًا به على غيره.
فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَن تَعفُوٓاْ أَقرَبُ لِلتَّقوَىٰ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلفَضلَ بَينَكُم﴾ [البقرة: 237]، فانظر ما في هذه الآية من الحض على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل.
وقال تعالى: ﴿وَلَا يَجرِمَنَّكُم شَنَـَٔانُ قَومٍ أَن صَدُّوكُم عَنِ ٱلمَسجِدِ ٱلحَرَامِ أَن تَعتَدُواْ ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَجرِمَنَّكُم شَنَـَٔانُ قَومٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعدِلُواْ ٱعدِلُواْ هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَىٰ﴾ [المائدة: 8] فانظر ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق، والأمر بأن تعامل من عصى الله فيك بأن تطيعه فيه.
وقال تعالى: ﴿وَٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشرِكُواْ بِهِۦ شَيئًا وَبالوَٰلِدَينِ إِحسَٰنا وَبِذِي ٱلقُربَىٰ وَٱليَتَٰمَىٰ وَٱلمَسَٰكِينِ وَٱلجَارِ ذِي ٱلقُربَىٰ وَٱلجَارِ ٱلجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بالجَنبِ وَٱبنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَت أَيمَٰنُكُم ﴾ [النساء: 36] فانظر إلى هذا من مكارم الأخلاق، والأمر بالإحسان إلى المحتاجين والضعفاء، وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأمُرُ بالعَدلِ وَٱلإِحسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلقُربَىٰ وَيَنهَىٰ عَنِ ٱلفَحشَآءِ وَٱلمُنكَرِ وَٱلبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].
وقال تعالى: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِد وَكُلُواْ﴾ [الأعراف: 31]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقرَبُواْ ٱلفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام: 151]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ باللَّغوِ مَرُّواْ كِرَاما ﴾ [الفرقان: 72].
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغوَ أَعرَضُواْ عَنهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعمَٰلُنَا وَلَكُم أَعمَٰلُكُم سَلَٰمٌ عَلَيكُم لَا نَبتَغِي ٱلجَٰهِلِينَ﴾ [القصص: 55].
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات[6].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.