6- وباكية أخرى تهيج البواكيا
سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ
(6) وَباكيةٌ أخرى تهِيجُ البَوَاكِيَا
هل يتَّسع القلبُ لحبيبتَينِ؟ هذا سؤالٌ وجده صاحبي مكتوبًا في ورقة صفراءَ باهتة، قد بلَّتها الشمس والريح والماء، وأكلت أطرافَهَا، وتحت هذا السؤال رُسِمَتْ يمامتان وادعتان، والذَّكرُ منهما يفتلُ ريش الأنثى من أعلى رأسها، وقد رَنَتْ لصدره في مشهدٍ غاية في الرِّقة، وكأن السائلَ أجاب حروفَه بريشته لا بقلمه!
ناولني صاحبي الورقةَ قائلًا: ما تقول؟ فقلت: على مذهب اليمام لا يجوز، لكن على بني الإنسان، نعم؛ فقد عرَفنا كثيرًا من الرجال أحبُّوا أكثرَ من امرأة في وقت واحد، وهو غير مُمتَنِعٍ لا شرعًا ولا عقلًا ولا حسًّا، لكن تأبَى ذلك الغواني اللطيفاتُ، والخرائد الْمُرْهفات، فيَقُلْنَ: القلب مسكنُ واحدةٍ، فإن شُوركت فَسَدَ الحُبُّ.
والتحقيق: أن حبَّ العشير التام يستغرق القلب، فلا يتسع في العادة لغيره، أما الوداد العادي والمحبة الطبيعية، فلا تمنعان الشركة بين اثنتين، بل أربع، فإن كان ثمَّتَ واحدة غالبة على القلب، فنصيبُ الأُخريات ينقُص بحسب ما سلبت من نصيبهن من الوداد، كما أن كُرورَ الأيام وتتابُعَ الليالي مُغرٍ بإعماق المحبة والوداد، وإحياءِ جذوة جمرة الحب الأولى مرةً بعدَ مرات، وقد تذكو حينًا، وتخمُد أُخَرَ، ومناطُنَا هنا هو المحبة النفسانيَّة، أما الشهوانيَّة فلا حدَّ لها؛ قال البحتري الطائي:
وكنت امرأً بالغورِ مني صريمة وأخرى بنجدٍ ما تعيدُ ولا تُبدي
فطورًا أكرُّ الطرْفَ نحو تِهامةٍ وطورًا أكرُّ الطرف كرًّا إلى نجدِ
وأبكي إذا فارقتُ هندًا صبابةً وأبكي إذا فارقت دَعْدًا على دَعْدِ
|
وقبله قال جرير الخطفي اليربوعي:
أخالدَ قد عَلِقتُكِ بعد هندٍ فشيَّبَتْنِي الخوالدُ والهنودُ
هوًى بتِهامةٍ وهوًى بنجدٍ فقتَّلَنِي التهائم والنُّجودُ
|
وقال جرير كذلك:
إلى الله أشكو أن بالغورِ حاجةً وأُخرى إذا أبصرتُ نجدًا بداليا
|
ثم أخذنا العِصيَّ فتجوَّلْنا على الأقدام، فقلت له: هل من أبياتٍ غائرة في الجزالة، عاليةٍ في الحُسن، تكون مثنى أو فرادى، أين نُفاضةُ جرابك؟
ولما كان صاحبي لَوْذَعيًّا ألْمَعِيًّا أحْوَذِيًّا، حاذقًا حَسَنَ التأمُّل في دقائق المحاسن ولطائف الشمائل، فهو من ذلك في أرفع المراتب؛ لم أعجب من حُسْنِ ردِّه الوافي إذ قال: خُذْهَا تقطرُ فَتِيتَ المسك وخالصَ العَنْبرِ، فمن ذلك قول لَبيد:
وجلا السيولَ عن الطُّلول كأنَّها زُبُرٌ تَجِدُّ متونَها أقلامُها
|
فالسيل حين كشف عن الأطلال، صارت كأنها كتابٌ قد انمحى بعضه فأُعيد عليه وتُرك ما تبيَّن منه، فالسيل هو القلم والأطلال هي الكتاب الباهت، وهذا البيت من عجائب الشعر، وقد كان الفرزدق يسجد إذا أنشده، ويقول: إنا لنعرف مكان السجود من الشعر كما تعرفونه في القرآن، وهذا من رِقَّةِ دينه، فالقرآن لا يُضاهى، لاهُمَّ إن قصد السجودَ لله شكرًا على ما أفرح وأسعد بإلهام المعاني الفائقة، وتسهيلها بالألفاظ الرائقة، وهذا من أعظم نعيم الدنيا عند أولئك القوم!
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: أمير الشعراء العصريين أبو الطيب، وأميرُ شعره قصيدته التي مطلعها:
مَنِ الجآذِرُ في زِيِّ الأعَارِيبِ حُمْرَ الحُلَى وَالمَطَايَا وَالجَلابيبِ
|
وأميرُ هذه القصيدة قوله:
أَزُورُهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي وَأَنْثَنِي وَبَيَاضُ الصُّبْحِ يُغري بِي
|
وقال الخوارزمي كذلك: أغزلُ بيت للعصريين قولُ أبي الطيِّب:
قد كنتُ أُشفقُ من دمعي على بصري فاليومَ كلُّ عزيزٍ بعدكم هَانا
|
ومن غُرر أبياته اليتيمات قوله:
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنيا على الحُرِّ أَنْ يَرَى عدوًّا له ما من صداقتهِ بُدُّ
|
وأنشد أبو الشيص الخزاعي، في معنًى فخمٍ مُبتكر:
وَقَفَ الهوى بي حيثُ أنْتَ فليسَ لي متأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ
أَجِدُ الملامةَ في هواكَ لذيذةً حُبًّا لذكركَ فليَلُمْنِي اللُّوَّمُ
|
وقال عبدالله بن علقمة:
أَثِيبِي بِودٍّ قبلَ أن يَشْحَطَ النَّوى وَتَنْأَى الليالي بالحبيبِ المفارقِ
|
أما عروة بن الورد فهو أمير الصعاليك، وكان لا يُغِيرُ إلا على البخلاء الأشحَّاء دون الكُرماء الأسخياء، ثم يفرِّقُ سَلَبَهُ على الفقراء، فسُمِّي عروةَ الصعاليك؛ وهم الفقراء، لذلك فعروةُ سابقٌ لـ(روبن هود) اللصِّ النبيل، ومن أحسن شعره المعبِّر عن ذلك:
إني امرؤٌ عافى إنائيَ شرْكَةٌ وأنت امرؤٌ عافى إناءك واحدُ
أَتهزأُ مِنِّي أَنْ سَمِنْتَ وأن تَرَى بجسمي شحوبُ الحقِّ والحقُّ جاهدُ
أُفَرِّقُ جِسْمِي في جسومٍ كثيرةٍ وَأَحْسُو قَراحَ الماءِ والماءُ باردُ
|
كذلك تأمَّل حكمةَ عنترة في لامِيَّتِهِ في عبلةَ ابنةِ عمِّه فهي قريبة من هذا السبيل:
بَكَرَتْ تُخَوِّفُنِي الحتوفَ كأنَّني أصبحتُ عن غَرَضِ الحتوفِ بمعزلِ
فأجبْتُهَا إنَّ المنيةَ منهلٌ لا بد أن أُسقى بكأسِ المنهلِ
فَاقْنِي حياءكِ لا أبا لكِ واعلمي أَنِّي امرؤٌ سأموتُ إن لم أُقْتَلِ
|
فعنترةُ قد جمع إلى المروءةِ الفروسيةَ الحسيَّة والمعنويَّة، وانظر لوصفه عفَّتَه:
وأغضُّ طرْفي إن بدتْ ليَ جارتي حتَّى يوارِيَ جارتي مأواها
إني امرؤٌ سمْحُ الخليقة ماجدٌ لا أُتْبِعُ النَّفس اللجوجَ هواها
|
أما الأعشى فهو أحد أشعر العرب العَرْباء، وهو أحد أصحاب المعلَّقات، وتسمَّى المُذهبات، ويزعمون أنها كُتبت بماء الذهب ثم عُلِّقت في جوف الكعبة، ولا يصح هذا الزعم ألبتةَ، فكتاب العرب لسانهم وقريحة محفوظهم، كما ليسوا بأهل ثراء حتى ينهجوا بها كظرفاء الملوك، ومن غُرَر قريضه:
قالوا الركوبَ فقلنا تلك عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نُزُلُ
|
وذكروا أن بيته هذا هو أشجع بيت قالته العرب، فهم يُحسِنون الطَّعن فُرسانًا وراجِلةً، وقد نشؤوا عليه، والأعشى وُصف بقولهم: كان إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع، وقال يسخر ويتوعَّد كسرى قبل يوم ذي قار:
واقعُدْ عليكَ التاجُ معتصبًا به لا تطلبنَّ سوامَنا فتُعَبَّدَا
|
والسَّوام هي الإبل الراعية، ويُقال لها: سائمة، والمقصود ديار العرب.
أما زُهير بن أبي سُلْمَى فهو شاعر الحكمة والتأملات ومدح الفضائل، وله أبيات في الحكمة يحفظها العامَّة إلى هذا الزمان، وهو والد كعب صاحب البُردة، وهو مُعلِّم الحُطَيئةِ الشعر، وقد كانت له في الشعر مدرسة خاصَّة، ولعله أخذها عن أستاذه أَوْس بنَ حَجَر التَّمِيمي القائل:
أَيَّتُها النَّفْسُ أَجْمِلي جَزَعًا إِنَّ الذي تَحْذَرِينَ قد وَقَعا
إنَّ الذي جَمَّعَ السَّماحَةَ والنَّ جَدَةَ والبَأْسَ والنَّدَى جُمَعا
الأَلْمَعِيُّ الذي يَظُنُّ بِكَ الظَّ نَّ كأنْ قد رَأَى وقَدْ سَمِعا
|
وزهيرٌ هو صاحب الحولِيَّات؛ إذ ينظِمُ القصيدة في أربعة أشهر، ثم يُدَقِّقُها أربعة أشهر، ثم يعرضها على شعراء قومه أربعة أشهر، فإذا كان رأس الحول صدح بها في عُكاظ، فطارت بها العرب، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي الْمُحَكَّك، ومن حُسين شعر زهير:
تداركْتُمَا عبْسًا وذُبيانَ بعدما تفانَوا ودقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشِمِ
وما الحربُ إلا ما عرَفْتُمْ وذُقتُمُ وما هوَ عنها بالحديثِ الْمُرجَّمِ
متى تبعثوها تبعثُوها ذميمة وتَضْرَ إذا ضرَّيتموها فتَضرَمِ
|
وقال في هَرِم بن سِنان:
ولأَنت تفري ما خلقتَ وبعض القوم يخلُق ثم لا يفري
|
ومعنى يخلق يقدِّر، ومعنى يفري يقطع، فهو إذا عَزَمَ فَعَلَ ولم يَنْثَنِ، وقال زهير في حصن بن حذيفة:
وأبيضَ فيَّاضٍ يداهُ غمامةٌ على مُعْتَفِيهِ ما تُغبُّ فواضلُه
تراهُ إذا ما جِئتَهُ متهَلِّلًا كأنَّك تُعطيهِ الذي أنتَ سائلُه
|
والمُعتفُ هو السائل، ومعنى تُغِبُّ أي: تنقطع، وقال أيضًا:
وهل يُنبتُ الخطِّيَّ إلا وشيجُهُ وتغرسُ إلا في منابتها النخلُ
|
وقال أبو الطيب:
ومن ينفق الساعاتِ في جمعِ مالِهِ مخافةَ فقرٍ فالذي فعل الفقرُ
|
وقال النابغة:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراءَ الله للمرءِ مذهبُ
وإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ إذا طلعتْ لم يبدُ منهن كوكبُ
ألم تَرَ أن الله أعطاك سُورَةً ترى كلَّ مَلْكٍ دونها يتذبذبُ
ولستَ بمستبقٍ أخًا لا تلُمُّهُ على شعثٍ أيُّ الرجال المهذبُ
|
والسُّورة هي المنزلة، وإذا أُطلق النابغة فهو الذبياني؛ لأن هناك نوابغَ سواه، وأطلقوا عليهم ذلك لأنهم نبغوا في الشعر بعد الأربعين، وقال في قصيدته العينيَّة في اعتذاره للنعمان بن المنذر، وهو تشبيه لم يُسبق إليه ولم يُلحق به:
فإنَّكَ كالليلِ الذي هو مُدركِي وإن خِلْتُ أن المُنْتَأَى عَنْكَ واسعُ
أَبَى اللهُ إلا عدله ووفاءهُ فلا النكْرُ معروفٌ ولا العرفُ ضائعُ
|
وفي مدح الغساسنة يُنشد، وقد نقل أَخْيِلَتَه غيرُ واحد من الشعراء:
إذا ما غزَوا بالجيش حلَّق فوقهم عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائبِ
على عارفاتٍ للطِّعان عوابسٍ بهن كلومٌ بين دامٍ وجالبِ
ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفهم بهنَّ فلولٌ من قِراع الكتائبِ
|
ولعامر المحاربي في معنًى بديع جدًّا:
وكنَّا نجومًا كلما انقضَّ كوكبٌ بدا زاهرٌ منهن ليس بأقتما
|
وقال طُفيل الغنوي في نفس معنى المحاربي ولعلَّه أجودُ:
نجومُ ظلامٍ كلما غاب كوكبٌ بدا ساطعًا في حِنْدِس الليل كوكبُ
|
ولعنترةَ، وتأمَّل تشبيهه العجيب للذُّباب حينما يَحُكُّ إحدى يديه بالأخرى بِرَجُلٍ أجذم يحاول قدح الزِّناد بذراعيه، وهذا من روائع التشبيه:
فترى الذُّبابَ بها يُغَنِّي وحده هزِجًا كفعلِ الشَّارب المترنِّمِ
غَرِدًا يحكُّ ذراعَهُ بذراعِهِ فِعْلَ المُكِبِّ على الزِّنادِ الأجذمِ
|
ثم قال: هل أُنبئك بخبر ابن عجلان؟ قلت: حيَّهلًا بكما!
فقال: ذكروا أن عبدالله بن عجلان النَّهدي القضاعي، صاحب هند النهدية، وهو أقل العشاق أيامًا، خرج يومًا إلى شِعْبٍ في نجد ينشُد ضالَّةً، فشارف على ماء نهرٍ يُقال له: غسَّان، فلما علا ربوة تُشْرِفُ عليه إذ بنات قد خلعن ثيابهن يغتسلن في الماء، فكمَن ينظر مستخفيًا، فخرجن حتى بقِيَت هندٌ وكانت طويلةَ الشعر، فأخذت تمشِّطه وتسرِّحه وتسبِّبه على بدنها، وهو يتأمل شفوف بياض جسدها من خلال سواد شعرها، فتمكَّن الهوى من سُوَيْدَائِهِ، فنهض ليركب راحلته فعجز وأُقْعِدَ ساعةً مبهوتًا مما جرى من عقره، فلم يستطع ركوب ناقته بعدما كانت تُصَفُّ أمامه ثلاث رواحل فيقفزها ويرتحل الرابعة، فقال وقد عرف ما داخَلَه من الحب الذي أعجزه وعطَّل حركته:
لقد كنتُ ذا بأسٍ شديدٍ وهمَّةٍ إذا شئتُ لَمْسًا للثُّريَّا لمستُهَا
أتَتْنِي سِهامٌ من لِحاظٍ فأُرشقتْ بقلبي ولو أستطيعُ رددتها
|
ثم قال: هذه والله الضالَّة التي لا تُرَدُّ، فخطبها إلى أبيها فزوَّجه، ومضى عليهما ثماني سنين في أحسن مقام وأهنأ حال، ولما لم تحبَل منه أراد والده تزويجه فأبى، فلما ألحَّ عليه عرض عليها أن يأخذ غيرها، فأبَت أن تكون مع أخرى، ثم إنه سَكِرَ يومًا فجمع أبوه وجوهَ الناس وطلبوا إليه فراقها فطلَّقها في حال سُكْرِهِ، فلما أفاق احتجبت عنه، وزُوِّجت بعدُ لغيره، فذاب حاله كمدًا، فمات عشقًا قبل الفيل بأربع سنين.
وقيل: إنه ذهب إليها في مضارب زوجها، وكان من بني نُمَير، فرآها جالسة في حوض فدنا منها، فتعانقا وسقطا ميتين.
وبعض أخبار العشاق ومصارعهم هي من نسج أخيلة الرُّواة، وتمليحات القُصَّاص، ولكن لا علينا لئن كان صدقًا فليس بمستغرب، فلْنَعِشْ جوَّهم العطريَّ قليلًا، ولنَمْتَع فيه خُطانا، ولنُمَتِّع به أرواحنا، فالخيال عند أهل الفن أجدى من الواقع وأمتعُ، فأحلام اليقظة والمنام تنفيسٌ عن كُربات الأيام، وإن كانت الحقائقُ بخلافها!
وما كُلُّ دارٍ أقفرتْ دارةُ الحِمى ولا كُلُّ بيضاء الترائبِ زينبُ
|
وقد ذكروا أن ابن المولى الشاعر المدني وكان موصوفًا بالعفة وطيب الإزار، فأنشد عبدَالملك شعرًا له من جملته:
وأَبكي فلا ليلى بكتْ من صبابةٍ لباكٍ ولا ليلى لِذِي البذل تبذلُ
وأخنعُ بالعُتْبَى إذا كنتُ مُذْنبًا وإن أذنبَتْ كنتُ الذي أتنصَّلُ
|
فقال عبدالملك: من ليلى هذه؟ إن كانت حرَّة لأزوجنَّكها، وإن كانت أَمَةً لأشترينها لك بالغةً ما بلغت، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنتُ لأصعِّر وجه حرٍّ أبدًا في حُرَّتِه ولا في أَمَتِهِ، وما ليلى التي أَنِسْتُ بها إلا قوسي هذه، سمَّيتُها ليلى لأن الشاعر لا بد له من النسيب.
ومن مشاهير العُشَّاق كذلك ذو الرُّمَّة التميمي وصاحبته مَيُّ، كذلك مالك أخو ذي الرُّمَّة وصاحبته جنوب الجعدية، وابن علقمة القحطاني وصاحبته حبيش الخريمية، والمُرَقِّشُ الأكبر الضَّبعي وصاحبته أسماء، وهي ابنة عمه ومات من حبِّها بعد زواجها من غيره، ونصيب الزِّنجي وصاحبته زينب الكنانية، وعتبة بن الحباب الأنصاري وصاحبته ريَّا بنت الغطريف السللي، وكعب الطائي وصاحبته ميلاء ابنة عمه، والصِّمَّة القشيري التغلبي وصاحبته ريا ابنة عمه، نعوذ بالله من نار الهوى.
وقد أحسن بَشَّار ثم أحسن في صيد طريدة حسن التشبيه إذ قال:
أقولُ ولَيْلَتِي تَزْدادُ طُولًا أما لِلَّيْلِ بَعْدَهُمُ نَهارُ
جَفَتْ عَيْنِي عن التَّغْمِيضِ حتَّى كأَنَّ جُفُونَها عَنْها قِصارُ
كأَنَّ جُفُونَها كُحِلَتْ بِشَوْكٍ فَليْسَ لِوَسْنَةٍ فِيها قَرارُ
|
ومِن فَخَارِ الفرزدق الفاخِرِ:
يختلف الناسُ ما لم نجتمع لهمُ ولا خلافَ إذا ما أجمعتْ مُضرُ
فينا الكواهلُ والأعناقُ تقدُمها فيها الرؤوسُ وفيها السَّمعُ والبصرُ
أما الملوكُ فإنا لا نلين لهم حتى يلينَ لضرس الماضِغ الحجرُ
|
وبينا نسيرُ في الصَّحصحان عَنَّتْ على مَدِّ النظر تَبَّةٌ حمراء مُشرفة على قاع مخضرٍّ فيه ألوان الربيع فأضحى مرجًا رائقًا، فبلغنا التبَّة وجلسنا عليها بين ثُمامتين سلِمَتَا من مشافرِ النِّيب، مشرفين على ذلك المرج الذي يشرح الصدرَ منظره وهواؤه، فقلت: حدِّثني عن نبات نجدٍ الذي تغنَّت به الأعاريب، فمدَّ يده لثمامة عن يساره، فكسر منها عودًا ولاكه بين أسنانه كهيئة المُتَطَعِّم المُتذوِّق ثم لفَظَه، وقال: نبدأ بهذا الثُّمام، وهو كما ترى نبْتٌ ضعيف قصير لا يَطُول، وخُوصُهُ السَّلَب، يقال: أسلب الثُّمام إذا أخرج خوصه، والناصِفَة: الأرضُ التي تُنْبِتُ الثُّمَامَ وغيرَه، ويُسمَّى الثُّمام الجَلِيل، وقد تمثَّل بلال رضي الله عنه لما أصابته حُمَّى يثربَ:
ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ لَيْلَة بِوَادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وهل أَرِدْنَ يَوْمًا مِياهَ مَجَنَّةٍ وهل يَبْدُوَنْ لِي شامةٌ وطَفِيلُ
|
وقد ذكر الإذخر، ويُسمِّيه بعضهم السَّاف، وهو نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، أما شامَة وطَفِيل فهما جَبَلان مُشْرِفان على مَجَنَّة، وعندَ مَجَنَّة كانت تُقامُ سوقٌ للعَرَبِ في الجاهِلِيَّة، وقال الأَصْمَعِيُّ: كانت بمَرِّ الظَّهْران، وهو وادي فاطمة حاليًّا، وكانت سوقُ مَجَنَّة تُقام عَشْرةَ أيَّام من آخِر ذي القَعْدَة، وبعضهم يذكر أنه مجنة جنوب مكة، وقَبْلَها سوق عُكاظ شرقيَّ الطائف مما يلي نجد شمال جبل حضن، بجوار عُشَيرَة والعَرْفَا حاليًّا.
ومن نبات أرض العرب النَّصيُّ وهو نَبْتٌ سَبْطٌ أبيضُ ناعِمٌ من أفضل المَرْعَى، ولا تَسَلْ عن جماله إذا تمايل وعكس بقدِّه ضياءَ الشمس عند الأصيل، كأنه مِرآة صافية تعكس ضوء الشمس.
ومن نباتها العَرَار، وطالما تغنَّى به الشعراء؛ وهو نبات نجديٌّ واحدته عَرَارة، ولها وردة ناعمة صفراء طيِّبة الرَّائحة؛ قال الصِّمَّة بن عبدالله القُشَيْري:
أقولُ لِصَاحبي والعِيسُ تَهْوِي بِنَا بَيْنَ المُنِيفَةِ فالضِّمَارِ
تمتعْ مِنْ شِميم عَرَارِ نجْدٍ فَمَا بَعْدَ العَشِيَّةِ من عَرَارِ
ألا حَبَّذَا نفحاتُ نجدٍ وريَّا روضه غب القطارِ
|
ومن نباتها الأُقْحوان، واحدته أُقحوانة والجمع أقاحي، وهو نبت معروفٌ لا يكاد يخلو منه بلد ولا سهل ولا وَهْدٌ، وهو من نبات الربيع، طيب الرائحة خفيفها، أبيض النَّور، في وسطه دائرة صغيرة صفراء، وأوراقُ زهرِهِ مفلجة صغيرة، ناصعة البياض جدًّا يشبهون بها الأسنان، وهي زهرة في غاية الحسن والرِّقة، والجمال واللطافة، وتسمَّى القُرَّاص والقُحوان، وعند المصريين حوان، أما الفُرس فيسمونه البَابُونَج.
وقد أحسن ظافر بن القاسم في قوله:
أنظر فقد أبدى الأقاحي مبسمًا يفترُّ ضحكًا فوق قدٍّ أملدِ
كفصوص درٍّ لطفت أجرامه وتنظمت من حول شمسة عَسْجَدِ
|
ومن نبات بلاد العرب الأراكُ، وهو من شجر تِهامة، ومن خير المراعي، وهو معدود من شجر الحمض، ويُستاك بقضبانه، واحدته أراكة، والبَرِيرُ ثَمَره، فإذا اسْودَّ وبلغ قيل له: الكَبَاث، أما جذوره فهي خير المساويك، واحدها مسواك الأراك؛ وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرِّ الظهران نجني الكَبَاث، فقال: عليكم بالأسود منه؛ فإنه أطيبُ، فقلت: أكنتَ ترعى الغنم؟ قال: نعم، وهل من نبيٍّ إلا رعاها؟))، ويَرْوُون عن عليٍّ رضي الله عنه أنه رأى فاطمة رضي الله عنها تستاك بالأراك، فتناوله منها ثم خاطبه:
حظيتُ يا عودَ الأراك بثغرِهَا ما خفتَ يا عود الأراك أراكا
لو كنتَ من أهل القتال قتلتُكَ لم ينجُ مني يا سواكُ سِواكا
|
ومن ظرف الحسن بن سهل ولطفه أنه كان في يده ضغث من أطراف الأراك، فسأله المأمون عنه: ما هذه؟ فقال: محاسنك يا أمير المؤمنين، تجنُّبًا لأن يقول: مساويك، وقال إبراهيم المهدي راثيًا ابنه:
سأبكيكَ ما أبقت دموعيَ والبُكَا بعينيَّ ماءً يا بنيَّ يُجِيبُ
وما غَارَ نجمٌ أو تغنَّتْ حمامةٌ أو اخضرَّ في فرع الأراك قضيبُ
|
وأصاب الأبيوردي عينَ الجمال بقوله:
رمى صاحبي منْ ذي الأراكِ بنظرةٍ إلى الرَّملِ عجلى ثمَّ كرَّرها الوجدُ
وأتبعتُهَا أخرى فبي مثلُ ما بهِ أجلْ ما استطعتَ الطَّرفَ أسعدكَ يا سعدُ
متى طرَقَتْنِي نفحةٌ غَضَوِيَّةٌ يفوحُ بريَّاها العَرارُ أوِ الرَّندُ
|
والعرب إذا رأَوا العرار اشتاقوا لنجدٍ، وإن رأوا الأراك حنُّوا لتِهامةَ.
ومن نبات أرضهم الشِّيح؛ وهو نبت سهليٌّ رائحته طيبة قوية، وهو كثير الأنواع ترعاه الماشية، والقيصومُ قريب من الشيح؛ وهو نَبْتٌ طيِّبُ الريحِ ومعدود من رياحين البر، وهو خاصٌّ ببلاد العرب، ويُقال لمن خلصت بدويته: فلانٌ يمضغ الشيح والقيصوم؛ قال عمر بن أبي ربيعة:
إحْدَى بُنَيَّاتِ عَمِّي دون منزلها أرضٌ بقيعانها القَيْصُومُ والشِّيحُ
|
ومن نباتها الأَرْطَى واحدتُهَا أرطأة، تنبتُ عصيًّا من أصل واحد، تطول قدر القامة، وهي مُرَّةٌ تأكلها الإبل غضَّةً، ويشبه الأرطى الغضا إلا أن الغضا أعظمهما، ويُضرب المثل بحرِّ جمره، وذئبُ الغضا من أفتك الذئاب، وسمَّتْه سِيْدَ الغضا، وقالوا في المدح:
إذا سِيم ريح الخَسف زَبْد رأيتَه كسِيْدِ الغَضَا أرْبى لك المُتَظالعُ
|
ومن نباتها الأثْلُ؛ وهو شجر عظيم ظليل، وجذوعه سُقُفُ دُورِهم إن كانت بقُربه، وتُشْبِهُهُ الطَّرفاء، إلا أنها أصغر، والأثل هو أكبر شجر بلاد العرب مع السِّدر البرِّي؛ قال ذو الرُّمَّة:
نظرتُ إلى أظعان مَيٍّ كأنَّها ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبُه
فأسبلت العينان والصَّدرٌ كاتمٌ بمُغرورق نمَّتْ عليه سواكبُه
|
ومن نباتها الجَثْجَاثُ؛ وهو شجر أصْفَر مُرٌّ طيب الريح، تَسْتطيبُه العرب وتُكْثر ذكره في أشعارها، كذلك البَسْباسُ وهو طَيِّبُ الريح ويُشْبِه طَعْمُه طعمَ الجزر، وثالثهما الفَشْفَاشُ.
كذلك الرِّمْثُ؛ وهو نبات سهليٌّ من أحماض المراعي، وله أنواع عديدة، ويُقال: أرض رميثة إذا كانت كثيرة الرمث، ودُخَان الرمث يخالط سوادَه بياضٌ، وهذا اللون الرمادي يسمى الأورق، ومنه سمَّوا الذئب أورقًا والذئبة ورقاء، ومَن شَمِطَ من الرجال كانت لحيته مقاربة للون الرِّمث يابسًا أو لون دخانه.
ولاحظ أن كلَّ هذه الأسماء لنبات أرضهم قد سمَّوا بها أولادهم، فسمَّوا رمثة وطلحة وسمرة، وكحال بيئتهم وأدواتهم وبهائمهم فسمَّوا غيثًا وحجرًا وجبلًا، وجملًا وأسدًا وليثًا، وثعلبًا وسبيعًا وكلبًا، وثورًا وجحشًا وحمارًا، والآن: مطرًا ورعدًا وذئبًا، وصقرًا وبازًا وشاهينًا، وعُقابًا وقعودًا ونجرًا، ومحماسًا وفنجالًا، وفيما ذكرت لك من النبات مقنع، فهلُمَّ فقد شارفت شمس المغيب.