بغداد مدينة آمنة.. والثقافة سبيل المصالحة
“لم يكن معرضا للكتاب فقط، بل كان لحظة جديدة للمصالحة واستعادة إيقاع الحياة كما كانت، وليست هناك سوى الثقافة لتقوم بفعل المصالحة”، بهذه الكلمات تحدث عالم السيميائيات المغربي سعيد بنكراد عن معرض بغداد الدولي للكتاب، الذي حلّ المغرب ضيف شرفه متم شهر شتنبر من سنة 2023 الراهنة.
ويحمل نص بنكراد أملا كبيرا للمنطقة؛ “بغداد مدينة آمنة”، رغم “غفلة فضائيات البحث عن الفضائح، والمتجارة بمآسي الناس”، والطائفية لا يُرى لها أثر في يوميّ الناس، فقد “كان هناك العراقيون فقط”، والأخوة المغربية الجزائرية حقيقة عملية رغم خطيئات السياسة.
وفضلا عن معرض الكتاب ببغداد الذي قدّر المثقف والأكاديمي البارز بنكراد أنه “من أنجح المعارض العربية في السنوات الأخيرة”، ينقل الكاتب مشهدا مشرقا لحاضر ومستقبل الثقافة بالمنطقة العربية، وبالضبط من “شارع المتنبي” ذائعِ الصِّيت: “هذا الشارع حالة متفردة في العراق وفي كل المدن العربية، فالمكتبات ودور النشر تنتشر في وسطه وفي جنباته وفي ما تفرع عنه من أزقة صغيرة. كانت الكتب في كل مكان، وكان كل كُتبي يقدم نفسه مثقفا عارفا بعالم الكتب والنشر والتوزيع. تشعر وهم يحدثونك بأنهم لا يبيعون الكتب بل يعرضون على الناس وجدان شارع ووجدان مدينة ووجدان شعب، إنهم ذاكرة بغداد الثقافية”.
هذا نص المقال:
“بغداد مدينة آمنة – المغرب ضيف شرف في معرض بغداد الدولي للكتاب”
حل المغرب ضيف شرف على معرض بغداد الدولي للكتاب الذي نُظِّم من 18 إلى 27 من شهر سبتمبر الماضي. وبالمناسبة نفسها استضافنا مشكورا “دولة رئيس مجلس الوزراء” أنا ومحمد الولي وسعيد ناشيد لنشارك في أنشطته الثقافية ضمن جناح المغرب في المعرض. لا أخفي أني ترددت كثيرا في البداية في تلبيّة الدعوة، فالرحلة طويلة والمخاوف الأمنية كانت في ذهني كبيرة أيضا؛ وكان العراق يبدو بعيدا والسفر إليه يستغرق ساعات طويلة. ومازالت صورة بغداد الحرب والموت والقتل العبثي حاضرة في ذاكرتنا، كما روجت لها الكثير من الفضائيات الباحثة عن الفضائح والمتاجرة بمآسي النّاس، فوحده الموت يمكن أن يكون عندها حدثا، أمّا طمأنينة الناس والمدن فجزء من تفاصيل عابرة لا تستحق الذكر. لذلك نسيت هذه القنوات بغداد عندما عاد إليها الأمن واستعاد العراقيون حريتهم في التنقل وممارسة حياتهم العادية دون خوف من القنابل والأحزمة الناسفة.
لكن إصرار أحمد الصايغ، صاحب مكتبة دار الأمان، وكان هو المسؤول عن الجناح المغربي في المعرض، بدد هذه المخاوف، فهو يعرف العراق ويعرف أهل العراق وكرمهم، ويعرف تلهفهم إلى المعرفة؛ وكان يعرف أيضا تقديرهم الكبير للمغاربة، ورغبتهم في الاطلاع على كل ما يكتبونه في الأدب والنقد والفلسفة وفي كل حقول العلوم الإنسانية. وقد نوّه رئيس الوزراء نفسه في كلمة افتتاح المعرض بالعلاقة القوية بين العراق والمغرب، والروابط المتينة التي تجمع بين الشعبين.
كان أحمد الصايغ، وهو صاحب أكبر دار متخصصة في الكتاب العربي في المغرب، هو سفير الكتاب المغربي إلى العراق، فهو ناشر وكتبي ومثقف؛ كان يعرف كل ما يحتاجه المثقفون العراقيون وما يبحثون عنه وما يروقهم، وكان حريصا على أنْ يكون ممثلا للمغرب كله لا مسؤولا عن الدار التي يديرها وحدها، فهو يمثل مغرب الثقافة كله، فعرض الكثير مما صدر للكتاب المغاربة في عدد من دور النشر، منها المركز الثقافي للكتاب ومنشورات توبقال ومنشورات الحلبي وغيرها. ولم يفت سفير المغرب تقديم كل الدعم للمشاركة المغربية، فقد زار المعرض مرتين في الافتتاح وفي الاختتام؛ بل أوفد موظفين من السفارة ليسألوا عنا ويطمئنوا على مقامنا، وأبدوا استعدادهم لحل أي مشكل قد يعترضنا في مقامنا في بغداد.
وهكذا بدأت الرحلة من الدار البيضاء إلى بغداد عبر الدوحة. كانت رحلة طويلة حقا استغرقت أكثر من عشر ساعات. وكان أهم حدث في هذه الرحلة هو ما وقع لنا في مطار الدوحة؛ فقد فوتنا في مطار حمد الدولي في طائرتنا إلى بغداد، فوجدنا أنفسنا، أنا والأستاذ محمد الولي، ضائعين في المطار، بل كان علينا وفق مسؤولي المطار تأدية غرامة مالية للحصول على بطاقة جديدة وموعد جديد. ومن حسن حظنا، كان هناك شاب جزائري اسمه هلال، ويبدو أنه كان يحتل موقعا مهما في المطار. فما إن علم بأننا مغاربة حتى سارع إلى أخذ الجوازين واتصل بالمسؤولين وغيّر لنا البطائق وأُعفينا من الغرامة، وأصر على أن يجد لنا مكانا مريحا نقضي فيه الساعات التي تفصلنا عن موعد رحلتنا المقبلة، وكانت في الساعة التاسعة صباحا، بل زودنا بقنينات الماء ولم يتركنا إلا عندما اطمأن عليها.
لقد نسي هذا الشاب ما تعرفه العلاقات المغربية الجزائرية من توتر، ولا يبدو أنه كان مهتما بكل ما ينشره الذباب الإلكتروني، من الجانبين، في الفضاء الافتراضي، وتعامل معنا كمواطنين مغاربيين، من المغرب أو الجزائر أو تونس سيان؛ فهو ونحن ننتمي في تصوره، وتصورنا أيضا، إلى شعب واحد يجمع بين أفراده التّاريخ والجغرافيا واللغة والدين والماضي المشترك. وتأكد لنا ما آمنا به دائما؛ ألا شيء يمكن أنْ يزرع الكراهية والبغضاء بين شعبين لا شيء يمكن أن يفرق بينهما. وهكذا وبفضله تمكنا من متابعة الرحلة في ظروف مقبولة إلى حد ما. وأخبرنا ذلك الشاب الجزائري بأنه يسكن مع مغربي وتونسي في البيت نفسه، وبأن بينهم من المودة ما لا تفصح عنه الكلمات، وبأنهم يعيشون في تآزر كامل، ويسيجون بعضهم ضد أي أذى يستهدف هذا التضامن المغاربي؛ ولم ينس كآدمي متحضر أن يعبر لنا عن مواساته وتعازيه إثر الزلزال الذي ضرب بلدنا… افترقنا وقدمنا له الدعوة لزيارة الرباط، وأكدنا له أن بيتنا مفتوحة متى تيسرت له الزيارة، وتبادلنا أرقام الهواتف وانصرفنا.
وحطت بنا الطائرة في مطار بغداد الدولي، وكان في استقبالنا في بابها مسؤولون من تشريفات رئيس مجلس الوزراء، سهلوا لنا كل شيء. وبعد إجراءات خفيفة رافقنا السائق إلى فندق ضخم، هو روتانا بابل، يبدو أنه من أحسن الفنادق في بغداد. كل شيء كان معدا لكي نقضي أيامنا في بغداد في أحسن الظروف. قلت للأستاذ محمد الولي مازحا: إذا سُئلنا عن مذهبنا سنجيب: نحن نُحب آل البيت، فهذه مقبولة عند السنة والشيعة. ولكنّنا لم نلمس أثرا للطائفية في سلوك الناس اليومي، لم يكن هناك سنة وشيعة في الأسواق والمقاهي والشوارع وفي ردهات المعرض أيضا. كان هناك العراقيون فقط. لقد اكتشفنا شعبا واحدا شغوفا بالقراءة والمعرفة، كانوا يتحدثون عن كل شيء، عن الكتب والنشر والثقافة والتجارة، إلا عن الطوائف. المدهش أن أحد الجامعين أجابنا ونحن نسأله عن الطائفية: إن الطائفية يستعملها من يستفيدون منها، ونحن، أي السنة والشيعة، مجرد وقودها وضحاياها.
قد تكون المحاصصة الطائفية والعرقية حقيقة موضوعية في تصريف شؤون السلطة، وقد تكون السياسة مازالت جزءا من هذه المحاصصة، لكن العراقيين، في معيشهم اليومي، لم يعودوا طائفيين، لقد عادوا، كما كانوا في التاريخ والجغرافيا، حملة مشعل الحضارة الإنسانية؛ فهم من علّم البشرية الكتابة وفنون الزراعة، وهم من بلور في التخييل والأسطورة عوالم تحكي عن الخلود والسرمدية، وهم من منح البشرية أمها الأولى، عشتار، ومنحها أبوها تموز، أحد ملوك سومر الذي كان يرعى الفلاحين والرعاة على ضفتي الرافدين.. هم من منحوا الإنسانية ألف ليلة وليلة والمتنبي وأبا نواس والفلاسفة العرب، الخ.. هم من شيدوا المعابر بين الثقافات الفارسية والهندية واليونانية. بغداد تشبه إلى حد بعيد العاصمة الإيطالية روما، ففي المدينتين يتنفس الناس هواء ثقافات متعددة، وأحيانا يلمسون ذلك ببصرهم.
كان كل شيء في هذه المدينة يُوحي بالأمن، فلا أثر للانفجارات ولا أثر للحرب، عادت بغداد إلى ممارسة هويتها في التجارة والثقافة، وفي ممارسة جنونها الليلي؛ فالناس لا ينامون في هذه المدينة، كل المحلات التجارية مفتوحة، والبغداديون والبغداديات يتجولون فيها جماعات وأفرادا في طمأنينة تامة. الحضور الأمني نفسه يبدو محتشما ولا ينتشر إلا في بعض النقاط الحساسة التي لا تَحد من حركة الناس ومن نشاطهم المعتاد. هناك بعض “نقاط” الشرطة، وهي نقاط منتشرة اليوم في كل المدن العربية، مع تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف. كنا نعود إلى الفندق في ساعة متأخرة يوميا، ولم يحدث أن أوقفنا شرطي أو عسكري في الشارع أو أي أمني آخر.
كل شيء في شوارع بغداد يذكر بالماضي العريق لهذه المدينة، فبغداد لم تنسلخ عن تاريخها وماضيها العريق. كانت التماثيل في كل مكان، تمثال المتنبي وتمثال أبي نواس وتماثيل الكثير من السياسيين الذين بصموا تاريخ العراق بمواقفهم. وكأن هذه المدينة تُصر على معانقة الحداثة بلباسها كما جاءها من التاريخ؛ لقد وضعت جزءا من ذاكرتها في تماثيل الشعراء والسياسيين، بل وضعتها في تماثيل شخصيات من التخييل، مثل شهريار وشهرزاد، بطلي ألف ليلة وليلة. مازال أبو نواس يحمل كأسه ويطرب الناس، ومازال المتنبي يجاور دجلة ويتغنى بمجده الشخصي، ومازالت دجلة أيقونة العراق وبغداد تسقي الحقول والنفوس وتلهم الشعراء.
لقد احتفى بنا شباب العراق من الطلبة والباحثين في كل أسلاك التعليم العالي، واحتفى بنا وبالمغرب وبكل المثقفين الذين كانت كتبهم معروضة للبيع في المعرض المثقفون العراقيون الذين كانوا لا يغادرون الجناح المغربي إلا لكي يعودوا إليه، فقد كان قبلة لكل الباحثين عن المعرفة… كانوا يسألون عن الشعراء والروائيين والنقاد والفلاسفة، ويستفسرون عن وضع المغرب الثقافي، وعن جديد كتابه، ولا يترددون في تقديم التعازي في ضحايا زلزال الحوز؛ كانوا من كل الأطياف، روائيين ونقادا وشعراء وأساتذة في الجامعات العراقية. زارنا بعض المغاربة الذين يقيمون بالعراق، وزارنا من مدن بعيدة عراقيون كانوا طلبة في الجامعات المغربية، وزارنا صحافيون. وقد كان المعرض من أنجح المعارض العربية في السنوات الأخيرة؛ يشهد على ذلك أن القائمين على فعالياته قرروا تمديد فترة انعقاده.
المثير حقا أن كثيرا ممن أقبلوا على شراء الكتاب المغربي كانوا مهندسين وصيادلة وتشكيليين وإعلاميين، بل وحتى تلاميذ اعتقدنا وهم يقتنون كتبنا أنهم في المراحل المتقدمة الجامعية، فإذا هم تلاميذ يقولون إنهم يعشقون هذا النوع من الدراسات، خاصة إذا كانت مغربية. كل الزوار كانوا معنيين بالكتاب، لا مجرد التجوال في ردهات المعرض. وذاك أمر طبيعي، فالمعرض مفتوح في وجه كل الزوار. بل إن الكثير من الطلبة كانوا يسددون ببطاقات دعم تقدمها لهم وزارة الثقافة تشجيعا للقراءة.
ولم يكن هذا هو الدرس الوحيد الذي تعلمناه في بغداد، فخلال كل الفترة التي قضيناها فيها، ورغم الازدحام، لم نر حادثة سير ولا شجارا بين السائقين ولا شرطيا يوقف سيارة ويسجل ذعيرة؛ بل كنا نرى سيارات تقف عند اللون الأخضر وأخرى لا تمتثل للوقوف أمام الأحمر. حينما سألنا لماذا يحدث هذا أجابوا بأنهم يفعلون ذلك مراعاة لبعض الحاجات التي لا يلتفت إليها قانون السير.
وكانت إلهام بلمليح، وهي صاحبة دار الحلبي، المتخصصة في كتب الأطفال، منار الجناح وقلبه النابض. لم تنل هذه السيدة الفاضلة ما تستحقه من التقدير رغم كل ما قدمته للثقافة المغربية ولكتاب الطفل على وجه الخصوص، ولم تنتبه إليها وزارة التعليم ولم تولها أي اهتمام إلى حد الآن؛ وظل عملها تطوعيا نضاليا من أجل تربية نشء لا تقول عنه موجات الإصلاح المتتالية أي شيء في غالب الأحيان… إنها من المتخصصين القلائل في هذا الميدان، وقد أسهمت بنشاطها هذا في إغناء مكتبة الطفل بالكثير من القصص والرسوم الجميلة، وأسهمت بقسط كبير في تمكين الطفل من تعلم كيفية الانتماء إلى الوطن والتاريخ الحضارة والقيم من خلال قصص ورسوم هي ما يساعده على النمو في اللغة. إنها قصص جميلة تزينها صور على ورق صقيل تحترم الذوق وتحترم الإرث الحضاري المغاربي في تنوعه وغناه. وكان الإقبال في المعرض على هذه القصص كبيرا.
وأسهمنا بدورنا في فعاليات المعرض بعروض تناولت تخصصاتنا؛ فقد حدثهم سعيد ناشيد عن الطمأنينة والتداوي بالفلسفة، وحدثهم عن الخلاص في الفلسفة والدين وحِكم الشعوب القديمة، وحدثهم محمد الولي عن البلاغة وعوالمها؛ وكعادته، لم يبسط أمامهم قواعد مدرسية خاصة بصناعة الخطاب ونمط اشتغاله، بل حكى لهم قصة الإنسان في اللغة، وحدثهم عن قدرته على الإقناع والإغراء والتضليل، فقصة البلاغة من قصة الإنسان، ومن موقعها هذا تسربت إلى مواقف الناس وإلى طريقتهم في تصريف انفعالاتهم ورغبتهم في الذهاب إلى الآخر، أو من أجل التخلص من شروره وعدوانيته… كان أرسطو كالعادة حاضرا في مداخلته، كان هذا الفيلسوف جزءا من “الحاضرة” اليونانية وهي تمارس البلاغة من أجل نشر التمدن وترسيخ الديمقراطية، وبطريقته دائما حدثهم عن السادة والعبيد وعن موقع الفعل البلاغي في بناء المدينة وتنظيم العلاقات بين الناس.
ولم يبخل علينا العراقيون بكرمهم، فقد كان الكثير منهم يدعوننا إلى تناول العشاء أو الغذاء في منازلهم؛ وقد استضافنا مدير المعرض السيد أحمد الراضي في بيته، ضواحي بغداد، وهو من أدار فعاليات هذا المعرض بحنكة وحكمة، وكان من أسباب نجاحه؛ وقد كان كرمه كبيرا، وكانت ليلتها فرصتنا أيضا للاطلاع على آراء بعض المثقفين العراقيين، ومنهم عميد كلية علوم الدين، حول ما يجري حقيقة في العراق. كان رجلا متسامحا داعيا إلى التآخي بين العراقيين ونبذ العنف والتطرف. حدثونا جميعهم عن المصالحة والعفو وضرورات العيش المشترك. فلن تكون الغلبة في نهاية الأمر لأحد، وحده العراق سيكون المنتصر في معركة ما كان لها لتكون أصلا. لقد أدركوا بضرورة التاريخ والثقافة والعيش المشترك نفسه ضرورة التخلص من الطائفية والعودة بالعراق إلى طبيعته الأولى كما كان منذ أن كان، وطنا للجميع لا مجرد مقاطعات طائفية أو عرقية.
ومن بين كل الذين التقينا بهم كان سامر السبع من طينة خاصة، كان بشوشا ومرحا ومثقفا، فهو صاحب دار للنشر (منشورات نابو)، ولكنه كان ضابطا في وزارة الداخلية أيضا؛ إنه عراقي، يُحب العراق خارج الطوائف والأعراق وخارج السياسة، فالعراق عنده فكرة ومبدأ ووطن ومسكن ووجدان… إنّه العراق الذي تسرب إلى التاريخ والجغرافيا، وإلى الأغاني التراثية وإلى أزقة بغداد القديمة؛ لقد تجول بنا في كل مكان، أخذنا إلى المطاعم الشعبية والمطاعم الفخمة وترددنا على النوادي الراقية، وكان يفعل ذلك بعفوية وحب وسخاء لا حدود له، يفعل ذلك وكأنه يعرفنا منذ عشرات السنين، ومعه سنكتشف من جديد الشاعر مظفر النواب، الشاعر الشعبي الذي غنى هموم العراقيين والعراقيات بلغة محلية جنوبية صعبة الفهم، ولكنها كانت تتسرب إلى نفوسنا بـ”حنية” من خلال مواويل المغنيين العراقيين، فنحن لا نعرف عن هذا الشاعر إلا قصيدته الشهيرة “وتريات ليلية”.
لقد تجول بنا في الكثير من شوارع بغداد؛ شاعر الرشيد وشارع أبي نواس ليلا، وتجول بنا في شارع المتنبي نهارا. وهذا الشارع حالة متفردة في العراق وفي كل المدن العربية، فالمكتبات ودور النشر تنتشر في وسطه وفي جنباته وفي ما تفرع عنه من أزقة صغيرة. كانت الكتب في كل مكان، وكان كل كُتبي يقدم نفسه مثقفا عارفا بعالم الكتب والنشر والتوزيع. تشعر وهم يحدثونك بأنهم لا يبيعون الكتب بل يعرضون على الناس وجدان شارع ووجدان مدينة ووجدان شعب، إنهم ذاكرة بغداد الثقافية.. إنهم يعرفون معظم الكتاب المغاربة ويحكون لك عن تاريخ كل كتاب، ولا يترددون في الاعتراف لك بأنهم استنسخوا كتب المؤلفين المغاربة أيام الحصار وفي فترة كورونا أيضا… لم يفعلوا ذلك من أجل الربح؛ والربح وارد، ولكنهم فعلوا ذلك أيضا حبا في المعرفة.
وكان هو نفسه في وداعنا ليلا، وكان وداعا مؤثرا حقا.. دعانا للعودة من جديد، ودعوناه لكي يزور المغرب وطنه الثاني، وعدناه ووعدنا. وتلك كانت خاتمة رحلتنا إلى بغداد. كانت رحلة ممتعة حقا، عاينا حضور الناس بالآلاف إلى المعرض. لم يكن معرضا للكتاب فقط، بل كان لحظة جديدة للمصالحة واستعادة إيقاع الحياة كما كانت، وليست هناك سوى الثقافة لتقوم بفعل المصالحة، فالمعرفة مفتاح الحياة، ونحن نتعلم من خلالها كيف ننتمي إلى ثقافتنا، وكيف نقبل كل الثقافات أيضا.