ماذا بعد مناقشة رسالتك العلمية؟
ماذا بعد مناقشة رسالتك العلمية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل نعمة العطاء والبذل مما يُتقرَّب به إليه، والصلاة والسلام على أشرف من علَّم الناس الخيرَ، محمد بن عبدالله، عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم؛ أما بعد:
فإن للعلم أثرًا يبقى ما بَقِيَ الزمان، وإن من خير ما ينفع المرء ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾ [الشعراء: 88] العلم النافع المتعدي أثره، الذي يُرجى نفعه وبقاؤه.
ثم إني قبل أن أبدأ ما هَمَمْتُ بكتابته، أهنئ من وفَّقه الله، وأتم عليه مناقشة رسالته العلمية (ماجستير أو دكتوراه)، وأقول له ناصحةً نفسي قبله: “افعل كل الخير الذي تستطيع، بكل وسيلة تستطيع، بكل السبل الممكنة، في كل مكان تكون فيه، في كل الأوقات، لجميع الناس، طالما تستطيع”، “وتذكر دائمًا أن أسعد الناس ليسوا أولئك الذين ينالون المزيد، وإنما أولئك الذين يعطون المزيد”، فإن السعادة الحقيقية بعد رضا الله تتحقق لمن يسعى في إسعاد الآخرين ونفعهم، وهذا مشاهَد محسوس؛ وفي ذلك يقول ابن القيم: “ومن أسباب شرح الصدر: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال، والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسِن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا”.
وأضع بين يديك – أيها القارئ الكريم – عددًا من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها ومراعاتها قدر المستطاع، سواء كنت أستاذًا جامعيًّا أو طالبًا حديثَ عهدٍ بالمناقشة، فليس المقصد من الحصول على الدرجة الخلود إلى كنف الراحة؛ “فبهاء الحياة يكمن في المراوحة، وأن تمتطي راحلة العمل دهورًا، وتَعْقِلها أيامًا، وأن تسير زمانًا وترتاح هُنَيْهَة، أما من آثَرَ الراحة المتصلة واختار الكسل أبدًا، فلن تفارقه سِياطُ الضمير ولَسَعات الإهمال، وستدركه عواقب القعود، كما تدرك الذنوبُ مقترفيها ولو بعد حين”، و”ذو الهمة إن حطَّ، فنفسه تأبى إلا علوًّا، كالشعلة من النار يصوبها، وتأبى إلا ارتفاعًا”.
وأذكِّرك أنك لا زلت في الحياة الدنيا وفي مرحلة التكليف لا التشريف، والنشاط لا الكسل، والعطاء اللامحدود، والمسؤولية أعظم، والحمل ثقيل، وهذه بداية العطاء الحقيقي وبداية عمر جديد في الإنتاج العلمي؛ والله يقول: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12].
فما الأثر الذي قدمته وترغب أن تراه في صحيفتك يوم القيامة؟ وها أنت قد نِلْتَ المراد والْمُنَى، فإن أردت الأثر، فطريقه الإنجاز، ونتيجته البذل والعطاء، ومن أحسن ما قيل في الحث على الإنجاز ما قاله د. محمد أبو موسى: “عليك أن تنجز أجَلَّ الأعمال في أسوأ الأزمان؛ لأن أسوأ الأزمان لن تتغير إلا إذا أنجزتَ فيها أحسن الأعمال، ولأن الزمن السيئ لو جعلك سيئًا فسوف يستمر السوء، اقطع نِياط الزمن السيئ بأن تنجز فيه أعمالًا كريمة… لا تعِشْ تبكي على الأطلال؛ لأن الذين بكوا على الأطلال ماتوا وبقيت الأطلال أطلالًا… دموع البكاء على الأطلال لم تُحْيِ طللًا، وإنما العزيمة الحذاء هي التي تغير، ليس البكاء ولا الشكوى ولا النواح، وإنما الحزم القاطع، والعزم القاطع، والإنجاز القاطع”.
ودعني أضع تساؤلًا حول هذا النص: ما نتيجة اجتماع الحزم والعزم والإنجاز القاطع؟
نتيجته: العلم قل أو كثر، وروحه العمل به وتعليمه ونشره.
ومن الأمور المثبطة عن الإنجاز: الكسل واتباع الهوى؛ والله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
فالنفس إن اتَّبعتِ الهوى ضلَّت وأضلَّت، فإن أردت النجاح، فدليله: الانضباط الذاتي، والنضال ضد التسويف، والمقاومة ضد الكسل والملهيات والمشغلات في زمن الرفاهية والراحة.
ومن الواجبات العلمية التي لا بد لطالب العلم المتخصص معرفتها والأخذ بها:
1- استفراغ الوسع والطاقة في خدمة تخصصه بما يستطيع، كيف لا، وتخصصه له مِنَّةٌ عليه بعد الله؟
2- جعل النفع الأخروي هو المعيار، وأن يتقرب إلى الله بهذه الأعمال التي قد يغفُل عنها، وإن كانت في نظر غير متعاطيها لا تُعَدُّ شيئًا مذكورًا.
وقيمة المرء بما يبذل في هذه الحياة من كدٍّ مُنظَّم، ومجهود موجَّهٍ، بعلم مفهوم، ودرس معلوم، وأحب ما تنجزه عقولنا وإن قلَّ، وأفضله على ما أنجزته عقول الآخرين وإن كثُر؛ كما قال بذلك شيخ البلاغيين أبو موسى.
ومن أحسن ما أوصيك به قول أحدهم: “سيروا إلى الله عرجًا ومكاسيرَ؛ فإن انتظار الصحة بَطالة”! فأكثر معوِّق عن الإنجاز هو السعي إلى الكمال، والكمال عزيز، فابذل حسب قدرتك وإمكاناتك، ولا تنتظر ما قد لا يأتي ولا يكون.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فعُقبى كل خافقةٍ سكونُ |
وأطرح بين يديك عددًا من المقترحات:
1- استثمار كل الأوقات مهما كانت قصيرة، ولو اقتطعت من يومك دقائقَ لخدمة الناس ونفعهم، ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
2- محاولة نشر رسالتي الماجستير والدكتوراه وطباعتهما؛ لإفادة الباحثين والباحثات منها، ولا تجعل سعيك إلى الكمال يثبِّطك عن تحقيق الإنجاز، فكم قتلت الرغبة الزائدة في تجويد العمل من آمالٍ، وصدت عن أعمال!
3- جمع الأفكار البحثية التي تنقدح في الذهن من خلال القراءة أو الاطلاع على كشافات الرسائل العلمية؛ لمحاكاتها حسب احتياج التخصص، ثم نشرها.
4- إقامة الدورات التدريبية المتعلقة بالتخصص، أو التي تتعلق بمنهجية البحث العلمي.
5- البِدار في كتابة أبحاث الترقية ونشرها، وعدم ركنها في الأدراج؛ لينتفع منها الطلاب.
6- المشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية.
7- فتح المجال للاستشارات البحثية، إذا وجدتَ من نفسك القدرة على ذلك.
ختامًا: أرجو أن تكون هذه الكلمات ثمرة دانية القِطاف، ناظرة الرَّواء، وأنفع أثرًا، وأقرب بُلغة للقارئ الكريم، ولعله يجد فيها من الذكرى ما يعِظه ويشحَذ همَّتَه إلى المعالي.