غزوة الرجيع


غزوة الرجيع

 

في صفر من السنة الرابعة، وكان سببها قدوم وفد من عضل والقارة – قبيلتان – إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فينا إسلامًا، فابعث لنا نفرًا يفقِّهونا في الدين ويقرئونا القُرْآن، فبعث معهم سبعة نفر وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، وقيل: مرثد بن أبي مرثد، والباقون هم: خالد بن أبي البكير وعبدالله بن طارق البلوي وأخوه لأمه معتب بن عبيد، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، فلما كانوا بالهدأة عند ماء الرجيع – وهو لهذيل – غدروا بهم واستصرخوا عليهم حيًّا من هذيل يقال لهم: بنو لحيان – وكان بنو لحيان قد اتفقوا مع عضل والقارة وجعلوا لهم مالًا على أن يذهبوا لمحمد ويطلبوا منه نفرًا يفقههم في الدين فيأخذوا بثأر سفيان بن خالد الهذلي، فيقتلوا قاتله الذي قتله في أُحد، ويأخذوا من تبقى ليبيعوهم لأهل مكة – فطلع عليهم مائة رجل، فلجأ المسلمون إلى جبل، فأعطوهم العهد ألا يقتلوهم، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم خبِّرْ نبيك عنا، وقاتلهم هو ومرثد وخالد بن البكير فاستشهدوا، ونزل الآخرون على العهد، فغدروا بهم وقيدوهم، فقال عبدالله بن طارق: هذا أول الغدر، فقاتلهم فرمَوه بالحجارة حتى قتلوه، وقاتلهم معتب فقتلوه، وحملوا الآخرينِ: خبيب بن عدي، وابن الدثنة، وأخذوهما وباعوهما في مكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن نوفل ليقتلوه بالحارث؛ لأن خبيبًا قتله في أحد، وحملوه إلى التنعيم ليصلبوه، فطلب منهم أن يصلي ركعتين، وقال: لولا أن تقولوا: خشيت من الموت لأطلت، وهو أول مَن سن الركعتين عند القتل، ثم قال:

 

ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، ثم صلبوه، وقد روي فترة حجزه أنه كان يستحد – يحلق – قبل أن يصلب وبيده حديدة – شفرة حادة – ثم اقترب منه طفل، وهو ابن المرأة التي كان محجوزًا عندها، واسمها ماوية، فلما رأت طفلها ارتعات، فقال لها: أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليس من شأننا، ولو كان غيره لأخذه رهينة لا يفلته حتى يخلوا سبيله، فقالت بعد أن أسلمت: ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، والله لقد اطلعت عليه من صير – شق – الباب وإنه لفي الحديد، لقد رأيته وما بمكة ثمرة وإن في يده لقطفًا من عنب يأكله، ما كان إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا، وكان يتهجد بالقُرْآن، ورُوي أن معاوية بن أبي سفيان قال: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليُضجعني إلى الأرض فَرَقًا من دعوة خبيب، وذكر عدد ممن حضروا خبيبًا أنهم فروا من دعوته، فما بين جاثٍ على الأرض يوارى بالشجر خشية أن تصيبهم، وقد عيَّن عمر بن الخطاب سعيد بن عامر واليًا على حمص فكانت تأتيه نوبة من الغشية، فشكاه أهل حمص إلى عمر، فاستدعاه، فلما سأله عن هذه الغشية، قال: لقد شهدت قتل خبيب، فكلما ذكرته وأنا في مجلس، غشي عليَّ، فعذَره عمر.

 

وأما ابن الدثنة، فإن صفوان بعث به إلى التنعيم ليقتل، وأوكل نسطاسًا بقتله، فقال له نسطاس: أنشدك الله، أتحب محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: ما أحب أن محمدًا الآن مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، ثم قتله نسطاس، وأما عاصم فقد حمى الله جثمانه بالدبر – وقيل: النحل – نهارًا، فلدغت كل من اقترب منه، واحتمله السيل ليلًا لئلا تشرب سلافة بنت سعد برأسه الخمر كما نذرت.

 

وقد حزن المسلمون لما أصاب وفدهم ولما غرر بهذا الرهط حتى استدرجوهم إلى مصارعهم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري مع رجل من الأنصار إلى مكة لقتل أبي سفيان، فخرج عمرو والأنصاري على بعير له، وكان برِجل الأنصاري علة فكان عمرو يحمله حتى وصل إلى بطن يأجج، عقل بعيره في الشعب وقال للأنصاري: انطلق بنا إلى أبي سفيان لنقتله، فإن خشيت شيئًا فالحق بالبعير فاركبه والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فدخل مكة ومعه خنجر، فقال صاحبه: هل لنا أن نطوف بالبيت ونصلي ركعتين؟ فقال عمرو: إن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم – بمعنى خارج الغرف فيرون من يأتي – لكن شوق الأنصاري إلى الكعبة جعل عمروًا يستجيب لرغبته، فطافا وصليا، فلما خرجا مرا بمجلس لقريش، فعرفه بعضهم فصرخ: هذا عمرو الضمري ما جاء إلا لشر – وكان عمرو فاتكًا خطرًا – فثار أهل مكة إليهم، فقال عمرو لصاحبه: النجاءَ، هذا الذي كنت أحذر، أما أبو سفيان فليس إليه سبيل – بعد انكشاف أمرهما – فانجُ بنفسك، فخرجا والطلب في إثرهما، فصعدا جبلًا وكان عمرو خبير بشعاب مكة، فاختبأا في غار، فإذا بعثمان بن مالك التيمي بفرس له، فقام على باب الغار، فخرج إليه عمرو فطعنه بالخنجر، فصاح صيحة أسمع منها أهل مكة، فأقبلوا إليه فوجدوه وبه رمق فقال: طعنني عمرو الضمري، ومات ولم يخبرهم عن موضعه، وانشغلوا بمقتل عثمان التيمي عن ملاحقة عمرو، ومكث في الغار يومين، ثم خرج إلى التنعيم فوجد خبيبًا مصلوبًا، وفك قيوده فاحتمله مسافة، لكن الموكلون بحراسته تبعوه فألقى خبيبًا وهرب، فأما الأنصاري فانطلق نحو شعب يأجج فأخذ الراحلة ولحق بالمدينة، وعاد عمرو فمر بضنجان، ودخل غارًا، فأتى راعي غنم من بني الدئل، فدخل الغار، وبعد حديث بينهما تبين كفر الراعي، حيث تغنى بشعر فيه:

ولستُ بمسلم ما دمت حيًّا
ولستُ أدين دين المسلمينا

فلما نام الراعي قام إليه عمرو فذبحه، وفي الطريق تعرف إلى رجلين بعثتهما قريش للتجسس على المسلمين، فرمى عمرو أحدهما بسهم، وأسر الآخر، فقاده أسيرًا إلى المدينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى له في رحلته، فضحك حتى بدت نواجذه، ودعا له بخير.



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
وضع الكتاب بالمغرب وهل يكون الكتاب الرقمي حلا لانتشار الكتاب … – 2M
«إستراتيجيات الحروب في القرن الحادي والعشرين».. كتاب جديد لمركز … – بوابة الأهرام