لزوال الدنيا أهون عند الله من الدماء (خطبة)


لزوال الدنيا أهون عند الله من الدماء

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها المسلمون عباد الله، لقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بعلامات، وأمارات تدل على قرب ذلك اليوم العظيم، وعلى زوال هذه الدنيا وأهلها.

 

ولقد – والله – ظهرت كثيرٌ، بل أكثر هذه العلامات التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام، وهي في ازدياد يومًا بعد يوم، نسأل الله السلامة والعافية.

 

وإني محدثكم اليوم عن علامة عظيمة من هذه العلامات أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بوقوعها، وظهورها، فأصبحنا نعيشها، ونشاهدها، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا يصف حالنا، ويجلي واقعنا لنا، ألا وهي علامة انتشار القتل بين أوساط المسلمين؛ عياذا بالله رب العالمين.

 

فتعالوا بنا لننظر إلى واقعنا، ونتأمل إلى ما حدث به نبينا قبل أربعة عشر قرنا، تعالوا بنا لنعلم علم يقين أننا نعيش في آخر عمر هذه الدنيا التي قد ظهرت جلُّ علامات زوالها وفنائها، ولنعلم أن ما ذهب منها أكثر مما بقي منها:

تعالوا بنا لنتأمل إلى ما رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ بين يَدي السَّاعة الهرْج»، قالوا: وما الهرْجُ؟! قال: «القتلُ! إنَّهُ ليس بقَتْلِكم المشركين، ولكن قتلُ بعضكم بعضًا، حتى يقتل الرجلُ جارَهُ، ويقتل أخاهُ، ويقتل عمَّهُ، ويقتل ابن عمِّه»، قالوا: ومعنا عُقُولُنا يومئذٍ؟ قال: «إنَّهُ لتُنزعُ عُقُولُ أهل ذلك الزَّمان، ويُخلَّفُ لهُ هباءٌ من الناس، يحسبُ أكثرُهُم أنَّهُم على شيءٍ، وليسُوا على شيءٍ»[1].

 

وروى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قُتل»[2].

 

صلى الله على من لا ينطق عن الهوى، والله إن حبي ليزداد لحبيبي عليه الصلاة والسلام يوم أسمع وأرى ما أخبر به عليه الصلاة والسلام فلقد – والله – انتشر القتل في أوساط المسلمين! فأصبحنا نسمع، ونشاهد مجازر ومشاهد تنخلع منها القلوب من قتل المسلمين بعضهم بعضًا، بل لا أكون مبالغًا إن قلت لا يخلو يوم، ولا تخلو نشرة أخبار، ولا جريدة سياسة، ولا قناة إعلامية داخلية كانت أو خارجية، إلا وهي تبث القتل بجميع صوره؛ بالعشرات، بل بالمئات، كما هو حاصل ومشاهد في السنوات المتأخرات؛ ناهيك عن الحروب العالمية التي ذهب ضحيتها الآلاف والملايين، نسأل الله أن يطهر أيدينا من دماء المسلمين!

 

أيها المسلمون، قبل الكلام على هذه العلامة العظيمة، وعلى هذه الجريمة الكبيرة، وقبل الكلام عن أسبابها، ودوافعها، ومتعلقاتها، دعونا نتكلم عن قدر الدماء عند خالقها، وخاصة أصحاب الدماء المسلمة التي كرمها الله، وفضلها وشرفها على غيرها.

 

فلقد كرم الله هذا الإنسان تكريمًا كبيرًا، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلًا، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السماوات والأرض جميعا منه، ومن أجل هذا فقد أمر الله بجميع الحقوق التي تسمو بهذا الإنسان، وفي طليعتها حق الحياة الذي هو حق كبير لا يحل لأحد أن ينتهك حرمته، أو أن يستبيح حماه.

 

وإن أردت يا عبد الله أن تعرف قدر حياتك عند الله، وما جعل الله لك من حرمة عظيمة؛ فاسمع إلى جزاء من قتل نفسًا بغير حق ما عليه في الدنيا والآخرة، اسمع إلى الوعيد الشديد الذي توعَّد الله به من أسال الدماء وأزهق الأرواح بغير حقها؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].

 

ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من حرمة الدماء أيما تحذير، بل قد كانت من أبرز وصاياه قبل موته وهو يودع أمته، كما روى البخاري، ومسلم، عنْ أَبي بكْرةَ رضي الله عنه أنَّ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ في خُطْبتِهِ يوْم النَّحر بِمنى في حجَّةِ الودَاعِ: «إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم، كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت!»[3].

ولقد كان تحذيره عليه الصلاة والسلام وترهيبه من حرمة الدماء بأساليب مختلفة ومتنوعة، فها هو صلى الله عليه وسلم يطوف مرة بالكعبة وهو يرى جمالها، وهيبتها، وعظمتها، ويستشعر مكانتها عند خالقها، فخاطبها مبينا للأمة من خلال خطابه لها حرمة الدماء المسلمة عند ربها، فقال فيما رواه ابن ماجه في سننه، وصححه الألباني رحمهما الله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم – يطوف بالكعبة، ويقول: «ما أطيبك، وأطيب ريحك! ما أعظمك، وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله، ودمه»!

وقال فيما رواه البيهقي، وصححه الألباني رحمهما الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: «مرحبًا بك من بيت، ما أعظمك، وأعظم حرمتك! وللمؤمن أعظم عند الله حرمة منك!»[4].

 

ويؤكد ترهيبه، وتحذيره صلى الله عليه وسلم من الدماء حين أخبر أن أمر الدماء هي أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة، فقد روى مسلم رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء»[5].

 

قال ابن حجر رحمه الله في شرحه للحديث: «وفي الحديث عِظمُ أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظُم بحسب عِظَم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك»[6].

 

ومن عظيم تعظيمه عليه الصلاة والسلام لدماء المسلمين: ما رواه ابن ماجه في سننه، وصححه الألباني رحمهما الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق!»[7].

 

وقال فيما رواه الترمذي في سننه، وصححه الألباني رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن، لأكبَّهم الله في النار»[8].

 

وأخبر عليه الصلاة والسلام أن المؤمن لا يزال في فسحة من دينه مالم يلطخ يده بدم من حرام، فقال فيما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا!»[9]؛ أي: فإذا أصاب دمًا حرامًا، فإنه يُضيَّق عليه دينُه؛ لأن صدره يضيق به حتى يخرج منه – والعياذ بالله – فيموت كافرًا.

 

وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله!»[10].

 

اللهم طهِّر أيدينا من دماء المسلمين، يا رب العالمين!

 

أمه الإسلام، إن الدماء عظيمة وليست رخيصة، وإن وعيد الله فيمن قتل مسلمًا من المسلمين لن يذهب هدرًا، ولن يتركه الله هملًا، وإن لم يكن للمقتول من يدفع عنه، ويأخذ حقه، وإن لم يكن للمقتول عصبة، أو قبيلة تقتص له وتأخذ بثأره، بل سيجمعه الله بمن قتله، وظلمه، في يوم يقتص للمظلوم من الظالم، في يوم لا يظلم الله الناس فيه مثقال ذرة، في يوم يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء!

 

يا لها من ساعة حرجة! يا لها من مشاهد رهيبة، ومحرجة! إذا دنت الشمس فوق الرؤوس، وأُتي بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، تزفر وتُزمجر غضبًا منها لغضب ربها، والناس كلهم حفاة، عراةً غرلًا، كما خلقهم الله، وكل إنسان ينشر له كتاب لا يغادر صغيرة، ولا كبيرة، وفي هذه اللحظات يؤتى بالمقتول أمام القاتل وهو يحمل رأسه بيده بين يدي الله، ويقول: يا رب، سلْ هذا فيما قتلني؟ فقد روى الترمذي، وصححه الألباني رحمهما الله.

 

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دمًا يقول: يا رب، هذا قتلني! حتى يدنيه من العرش»[11]؛ أي يحضره: ويأتي به في يوم الحساب والجزاء، وشعر مقدم رأس القاتل ورأسه يمسكهما المقتول بيده، وأوداج المقتول، وهما عرقان على جانبي العنق تسيل دمًا، يقول: يا رب، هذا قتلني حتى يقرب المقتول القاتل من العرش، وهو إشارة إلى استقصاء المقتول في طلب ثأره، والمبالغة في إرضاء الله تعالى إياه بعدله، وفي رواية للنسائي: فيقول: «أي رب، سل هذا: فيم قتلني؟»[12].

 

وقد يؤتى بالمقتولين أمام القاتل وهو لا يدري من هم، وكم عددهم، والمقتول كذلك لا يدري فيما قُتل؟ وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال لا يدري القاتل فيم قَتل، ولا المقتول فيم قُتل!

 

فها نحن نرى كثيرًا من القتلة يرمون بالأسلحة المدمرة التي يذهب ضحيتها العشرات من الأبرياء، ومن المظلومين والضعفاء!

 

فيامن أمرك زعيمك، أو شيخك، أو أميرك بإزهاق الأنفس المحترمة، والاعتداء على الضعفاء بالأسلحة المدمرة المحرمة، ماذا سيكون جوابك أيها القاتل يوم يأتي المقتول يسوقك ويدفعك إلى الله، يوم لا ينفعك زعيمك، ولا شيخك، ولا قبيلتك، وعصابتك: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾ [عبس: 34، 35]، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، في يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه؟!

 

علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! علامَ يتقاتل الناس في هذا الزمان؟! من أجل القبيلة المقيتة، والعصبية البغيضة تسفك الدماء؟! من أجل المال، ولعاعة الدنيا تمزق الأشلاء، ويقتل الأبرياء؟! من أجل شهوة المناصب والكراسي تباد حضارات، وتهدم دول ومصانع ومنشئات؟!

 

والتاريخ بين أيديكم، بل هي أحداث البلاد اليمنية في هذه السنوات الأخيرة أمام أعينكم، التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف، ما أسبابها وبواعثها؟! ومن كان من وراءها؟! نسأل الله أن يجعل لنا ولبلدنا من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله أمر بتقواه، وأخبر أن من اتقاه وقاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أيها المسلمون عباد الله، لقد كثر القتل في هذا الزمان، ولقد حصل ما أخبر به المصطفى عليه الصلاة والسلام، فلقد ابتلت الأرض في هذا الزمان بدماء من كان يمشي على مناكبها، وأصبح كثير ممن كان على ظهرها في داخلها، وهذا للأسف الشديد في أمة الإسلام قبل غيرها، ولقد كان لأعداء الإسلام اليد الطولى، وقد كانوا من أبرز الأسباب الأولى فيما حصل ويحصل من الحروب، والاقتتال في بلاد المسلمين، فهي صانعة الأسلحة القتالية التي دمرت، وما زالت تقضي على الحياة الإنسانية، وتبيد أو تنقص الأعداد البشرية، فما غرضها؟ وما مقصدها وطلبها؟ حين تنفق المليارات من الدولارات التي تصنع الأسلحة المدمرات، ثم تبيعها للدول المسلمة بعد أو قبل أن تجتهد في وسائل الفتن، والتحريش بين أصحاب العقيدة الواحدة، ثم تجعلها تعيش في حروب وآلام، وبلدانهم في أمان وسلام، بل أصبحوا يتفرجون على المشاهد، والأفلام التي صنعوها، ونشروها في دول الإسلام؟!

 

إذًا أليس أعداء الإسلام هم الذين يشعلون فتيل الحرب والاقتتال في بلاد الإسلام، سواء بأسلحتهم المدمرة، أم بوسائلهم الماكرة الفاجرة؟!

 

ثم لا يخفى علينا أن هناك أسبابًا تؤثر على المسلمين لبث القتل فيما بينهم، وتدفع الإخوان، والأقارب، والجيران للتطاول على بعضهم، بإراقة دمائهم وإزهاق أرواحهم.

 

فمن ذلك، ومن أبرز ذلك: المال الذي هو فتنة أمة الإسلام، كما أخبر بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام، فكم نسمع عن جرائم القتل هنا وهناك؛ بسبب شبرٍ من الأرض، أو بسبب مبلغ من المال، أو بسبب مشكلة بين الأهل، أو العيال! كذلك من الأسباب الحسد الذي كان سببًا في أول جريمة قتل على وجه الأرض، كما قص الله علينا من خبر ابني آدم، حين تقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فقال: لأقتلنك!

 

فقد يحسد الحاسد أقرب الناس إليه؛ من أجل ماله، أو بسبب ورثه، فلا يطفئ نار حسده إلا بقتله، من أجل إرثه، ولا حظ له في ذلك في شريعة الإسلام كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام، وكم هي القصص في ذلك والآلام التي سمعناها على مر الزمان؛ والله المستعان!

 

كذلك من الأسباب المؤدية إلى هذه الجريمة الفظيعة، وهذه الكبيرة الشنيعة: حب المناصب، والتعالي، وحب الشهرة والكراسي التي هي السبب الأعظم في الاقتتال بين الأمم، فمن كان من وراء الحروب المدمرة العالمية التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من الأعداد البشرية، إلا حب الزعامات، والمناصب والرئاسات!

 

ما الذي تسبب في قتل خمسة عشر مليونًا في الحرب العالمية الأولى؟ كذلك في خمسة وخمسين مليون في الحرب العالمية الثانية؟ وفي ثلاثة عشر مليونًا في الحرب الأهلية الإسبانية؟ وما يقرب من مليون في الحرب العراقية الإيرانية؟ كذلك نفس العدد في الحرب الأهلية الروسية؟ وكذلك في اليمن المكلوم ما يقرب من نصف مليون، إلا حب المناصب والكراسي، وعشق الزعامات والتعالي! فبحب الرئيس لكرسيه، وحرص صاحب المنصب على منصبه، قد يقتل الرجل أقرب الناس كان محببًا ومقربًا إلى قلبه.

 

كذلك من الأسباب المفضية إلى إزهاق الأنفس البشرية: النعرات العصبية، أو الحزبية البغيضة، أو القبلية الذميمة، فقد يحمل صاحب النسب المعجب بنسبه، أو العصبية المتعصب لعصابته وجماعته العزة بالإثم؛ فيتجرأ بسلاحه على من هو أدنى منه في نسبه، فيزهق روحه، ويسيل دمه عجبًا وغرورًا وتكبرًا وتجبرًا، كما هو مشاهد عند بعض الأعراف البغيضة، وعند من لا يزالون يعيشون حياة الجاهلية المقيتة.

 

من الأسباب كذلك الغضب – نعوذ بالله من الغضب- فقد يستحكم الغضب على بعض الجهلة، فتثور ثائرته، وتشتعل شراسته، ثم يوجه سلاحه على من مدَّ يده إليه، أو من أخطأ عليه، وقد يكون الخطأ صوابًا، ومن نقل إليه الخبر كاذبا، لذلك أوصى الحليم الكريم، وصاحب الخلق الرحيم، بوصية عظيمة، وهي: «لا تغضب! لا تغضب! لا تغضب!» [13].

 

كذلك من الأسباب: حمل السلاح الذي انتشر انتشارًا واسعًا، وأصبحت ظاهرة سيئة، خاصة في بلد الإيمان والحكمة، نسأل الله المغفرة، والرحمة، كم هي الأيام التي ملأت قلوبنا بالأحزان والآلام، حين نسمع في أسواقنا، أو في مجامعنا ومجتمعاتنا، وكثير من مواطن حياتنا، عن تهور أولئك المسلحين، واعتداءاتهم على كثير من المسلمين على أتفه الأسباب، أو أدنى السباب، والله المستعان.

 

وقبل كل هذه الأسباب، وأعظم هذه الأسباب، هو ضعف الإيمان، وقلة الخوف من رب الأرباب ومسبب الأسباب.

 

فيا أمه الإسلام، ويا أمه محمد عليه الصلاة والسلام، إن للدماء حرمة ومكانة عند الله؛ لذا جعل الله لقاتل النفس عقوبة مغلظة، فقال تعالى:
﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].

 

وإضافة إلى ما سبق من تأكيده عليه الصلاة والسلام حرمةَ الدماء؛ فقد نهانا عن مقدمات ذلك، وكل ما يوصل إلى ذلك، فقد نهانا عن أن نشير بالسلاح على إخواننا، فقال فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة؛ فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه!»[14] ، وقال فيما رواه الشيخان: «لا يُشِر أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار»[15].

 

بل إنه حكم على من نوى قتل أخيه بالنار وإن لم يتمكن من قتله، فقد روى الشيخان والنسائي عن أبى بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار! قال: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»[16].

 

وكما حرم علينا دماء غيرنا من إخواننا، فقد حرَّم علينا قتل أنفسنا التي بين جنوبنا، وجعل علينا عقوبة مغلظة إذا تسببنا بإزهاق أرواحنا، فقال فيما رواه مسلم: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها[17].

بل إن الكافر الذي لا يؤذينا، ولا يحاربنا في ديننا، قد حرَّم الإسلام دمه علينا، فلقد روى الإمام أحمد في مسنده، وصححه الألباني رحمهما الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلًا من أهل الذمة لم يرح رائحه الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا!»[18].

 

ودونكم في الختام هذا الخبر يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، لتعلموا ولتعلم الدنيا عظمة الدماء في شريعة الإسلام، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرَقَة من جهينة، فصبحنا القوم على مياههم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!»، قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا! فقال: «أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!»، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم! [19].

 

ألا فلتسمع الدنيا ولتسمع أوربا، ولتسمع أمريكا، وليسمع أولئك الذين يتهمون رسول الله ودين الله أنه ما جاء للبشرية إلا بالعنف والوحشية، والإرهاب، وبالسيف، والعذاب، فليسمع الإرهابيون الذين يقتلون الأبرياء، ويعتدون على الضعفاء، ويخدعون الناس أنهم يحاربون الإرهاب.

 

فيا أيها المسلمون، ويا أيها العالم كله، الدماء لها حرمة، يا قادة العالم يا من تسفكون الدماء باسم الحرية، وباسم الديمقراطية، وأصبحت الدماء عندكم من أرخص الأشياء، اتقوا الله في دماء المسلمين، يا وجهاء القبائل، اتقوا الله في دماء إخوانكم، وأصلحوا ذات بينكم! يا من تعتدون على الناس في ممتلكاتهم، اتقوا الله في دماء المساكين! يا من تسحقون الآلاف من المواطنين من أجل كراسيكم، اتقوا الله في دماء المسلمين، يا من يقتل أخاه المسلم، تذكر قبل أن تقتله، وقبل أن تطرحه على الأرض، أن جبهته كانت تسجد لله، وبين يدي الله، وأنه سيحاجك بلا إله إلا الله! تذكر قبل أن تقتله أن من ورائه أولادًا سيصبحون أيتاما، وعالة على غيرهم، وأن قلوب أرحامه، وأقاربه، ومحبيه، ستحترق بفقده، وسيتألمون على غيابه وبعده، وسيصبون عليك الدعوات صبًّا عند ذكره وتذكُّره، وقبل ذلك تذكر مآلك، مصيرك وحالك، عند الله الملك العدل سبحانه وتذكر: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].

 

أسأل الله أن يطهِّر أيدينا من دماء المسلمين…..





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
توقيع ومناقشة كتاب “تحولات الثقافة فى مصر” بالقنصلية الفرنسية
كتاب وأقلام – الرأي – صحيفة الجزيرة