والده عاتبه بسببه.. «في الشعر الجاهلي» يحاكم طه حسين بالصحف والبرلمان – فن


حياة عميد الأدب العربي كانت مليئة بالمعارك الفكرية والثقافية طوال سنوات حياته، إذ تفجرت مبكرا جدا، بعد عودته من باريس مباشرة، عبر صفحات مجلة السفور، فضلا عن «كوكب الشرق»، مشتبكا مع العديد من المفكرين والأدباء، بدأت بالرافعي، وانتهت بتوفيق الحكيم وغيرهما الكثير، غير أن معركة «في الشعر الجاهلي»، كانت الأشرس.

صدر كتاب طه حسين سنة 1926، ومما جاء فيه: «أن الأدب العربي في الخمسين سنة الأخيرة، انحدر وأصابه المسخ والتشويه بسبب مجموعة احتكرت اللغة العربية وآدابها بحكم القانون، وهذا أمر ليس خليقًا بأمة كالأمة المصرية، كانت منذ عرفها التاريخ ملجأ الأدب وموئل الحضارة، عصمت الأدب اليوناني من الضياع، وحمت الأدب العربي من سطوة العجمة وبأس الترك والتتر».. وغير ذلك الكثير من الأطروحات التي أثارت الدنيا على العميد.

ويسرد محمد حسن الزيات زوج السيدة أمينة ابنة طه حسين، بداية الأزمة في كتابه «ما بعد الأيام»، إذ يقول: ويخرج كتاب «في الشعر الجاهلي» من المطبعة، فتثور زوبعة لم يكن المؤلف يقدِّر أن تثور، فكل الجهات التي خاصمها طه حسين تهاجمه الآن لتنال منه مَقْتَلًا لم يُتَح لها من قبل، لا يتردد المهاجمون في استعمال أشد الأسلحة إيذاء لمؤلف الكتاب.

وقال طه حسين في الكتاب: «لقد أغلق أنصار القديم على أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد، كما أغلقه الفقهاء في الفقه، والمتكلمون في الكلام، فما زال العرب ينقسمون إلى بائدة وباقية، وإلى عاربة ومستعربة، وما زال أولئك من جرهم، وهؤلاء من ولد إسماعيل، وما زال امرؤ القيس صاحبَ قصيدة (قفا نبك)، وطرفة صاحبَ (لخولة أطلال)، وعمرُ بن كلثوم (ألا هبى)، لكنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي، وألححت في الشك، وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهليا، ليست من الجاهلية في شيء، إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام».

ويصيف «الزيات» أن هذا الكتاب يصدر عن مؤلف هاجم الإنجليز وهاجم القصر، ولم يتحرج عن انتقاد زعيم البلاد سعد زغلول.. هذا الكتاب يظهر بعد أن نشر الشيخ علي عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي أسخط الملك لأنه جاء عقبة في طريق مطامعه في الخلافة، وأسخط معه رجال الدين وأثار ثائرة المحافظين ضد كل «المجددين» المتأثرين بالفكر الغربي وبطريقة الدراسة في الغرب.

ويقول إن هذا الكتاب يصدر عن محرر الصفحة الأدبية في جريدة السياسة الذي سبق أن انتقد بعنف كاتبًا كبيرًا مثل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والذي هاجم كذلك كاتبًا كبيرًا آخر وهو الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار.

رشيد رضا: مؤلفات طه حسين كلها حرب على الدين والأمة

ويواصل: الآن يهاجمه الرافعي بكتاب يختار له عنوانًا مثيرًا وهو «تحت راية القرآن»، ويهاجمه الشيخ محمد عرفة بعنوان مثير أيضًا، وهو «نقض مطاعن في القرآن الكريم»، وتنشر مجلة المنار لصاحبها الشيخ رشيد رضا أن «مؤلفات طه حسين كلها حرب على الدين والأمة، سواء في ذلك ما كتبه عن أبي العلاء أو ما نشره بعنوان حديث الأربعاء أو ما كتبه عن الشعر الجاهلي».

ويسمع والد طه حسين بهذا فيرسل إليه رسائل قلقة يتساءل فيها عن هذا الذي يقرأ، فيرد عليه طه حسين وهو يكتم آلامه: «أبي: أنت أوصيتني ألَّا أصدق كل ما أسمع، وأنا أوصيك ألَّا تصدق كل ما تقرأ.. ولك من زوجتي ومني أطيب التمنيات».

وينتقل الهجوم من الصحف والكتب إلى مجلس النواب، ويُقدَّم اقتراح من النائب عبد الحميد البنان بأن يكلف المجلس الحكومة بثلاثة أمور:

أولًا- مصادرة وإعدام كتاب طه حسين المسمى «في الشعر الجاهلي».

ثانيًا- بتكليف النيابة العمومية برفع الدعوى على طه حسين مؤلف الكتاب لطعنه في الدين الإسلامي، دين الدولة.

ثالثًا- بإلغاء وظيفته من الجامعة.

وتدور في مجلس النواب مناقشة يشترك فيها وزير المعارف ووزير الحقانية ورئيس الوزراء عبد الخالق ثروت باشا، ويشترك فيها من جهة أخرى رئيس المجلس الزعيم سعد زغلول باشا.

وتتصاعد المناقشة حتى يقول رئيس الوزراء إنه سوف يطلب طرح الثقة بالوزارة، إذا لم يكتفِ المجلس بما فعلته الحكومة في موضوع الكتاب، وينهض النائب الوفدي عباس محمود العقاد للحديث، لا يمنعه انحيازه للوفد من الدفاع عن طه حسين، يقول: «إن اللجان التي تلا حضرة النائب بعض فقرات من قراراتها لا يمكن أن تبلغ شأن الأستاذ الذي وضع الكتاب من حيث المعرفة بالآداب العربية، ولا يمكن أن نجد بسهولة رجلًا يقوم بتدريس الأدب العربي مثلما يقوم به صاحب الكتاب ولو على درجة قريبة منه».

محاكمة طه حسين تحت قبة البرلمان

ويجري الاتفاق بين رئيس المجلس سعد باشا، ورئيس الوزراء عدلي باشا، على الاكتفاء بأن يقوم النائب صاحب الاقتراح بإبلاغ النيابة إن شاء.

ويستكمل المؤلف قائلا: إن طه حسين مدعوٌّ الآن إلى الصمت، إن هجوم المهاجمين لم يكن مقصورًا عليه بل كان يمتد إلى الجامعة نفسها، وهي ناشئة لم تقف على قدميها بعد، سكوت طه حسين في ذلك الوقت كان يتطلب من القوة أكثر مما يتطلبه النضال بالقلم واللسان.

ويأتي صيف 1926، ويسافر طه حسين مع أسرته كعادته، وهو يقول لزوجته: «لو أردت أن أقارن نفسي بشيء ما لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شاطئ النيل في صعيد مصر؛ ما إن يمسها المرء حتى يتفجر منها الماء».

ونفس طه حسين لم تمس في ذلك العام فحسب، بل أُثخنت بالطعان؛ لقد تصاعدت الصرخات بأنه جاهل، زنديق، كافر، ملحد، مفسد للشباب، من الضالِّين، من المضللين، تهم يلقيها في ذلك الوقت من لم يدرس، بل لم يقرأ كتبه في أغلب الأحيان، وهي تهم سوف يعود ليلقيها بعد وفاته من يدفعه الجهل والتطاول إلى مهاجمة الرجل وهو في قبره، ممن يغريهم البحر الزاخر بإلقاء الحجارة فيه.

ولكن رجالًا مثل عبد العزيز فهمي، مصطفى عبد الرازق، علي عبد الرازق، عبد الخالق ثروت، أحمد لطفي السيد، محمد حسين هيكل، عباس محمود العقاد، حافظ إبراهيم، دسوقي أباظة، إسماعيل صدقي، وآخرين مثل علي الشمسي باشا، الذي كان من أقرب المقربين إلى سعد زغلول، قد وقفوا إلى جانب أستاذ الأدب العربي الشاب، كما وقف إلى جانبه طلابه وقراؤه المعجبون به في كل مكان.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
محاورة (قصيدة)
وفاة دكتور الرياضيات القدير خضر الأحمد