أصول النصرة الإلهية


أصول النصرة الإلهية

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:

ففي ظل تداعي الأمم الكافرة على أمة الإسلام، في أرضها المقدسة المباركة، في فلسطين، وفي غيرها من بلاد الإسلام، كان من الواجب الشرعي اللازم بيان أصول النصرة الإلهية التي تأتي جوابًا على السؤال الكبير: (كيف ننتصر على الأعداء؟).

 

فإلى بيان هذه الأصول مستعينًا بالله:

1- النصر من عند الله جل وعلا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126]، وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [آل عمران: 160]، وفي هذا تحقيق لتوحيد الربوبية: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ إذ لا نصر على الحقيقة إلا بـعون الله ومدده.

 

2- نصر الله يكون لمن ينصر دينه، بامتثال شرعه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171 – 173]، وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، وفي الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم))؛ [إسناد صحيح، أخرجه النسائي (4372)].

 

وفي هذا تحقيق لتوحيد الألوهية: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ إذ لا نصر على الحقيقة إلا بـتحقيق عبوديته.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وصلاح الدين وأهل بيته ما كانوا يوالون النصارى، ولم يكونوا يستعملون منهم أحدًا في شيء من أمور المسلمين أصلًا، ولهذا كانوا مؤيَّدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد، وإنما قَوِيت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل أخي صلاح الدين، حتى إن بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين، وحدث حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، وقال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]”؛ [مجموع الفتاوى 28/ 639].

 

ويقول رحمه الله: “وكل من عرف سِيَرَ الناس وملوكهم، رأى كل من كان أنصرَ لدين الإسلام، وأعظم جهادًا لأعدائه، وأقومَ بطاعة الله ورسوله – أعظم نصرةً وطاعةً وحرمةً، من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلى الآن”؛ [مجموع الفتاوى 28/ 640].

 

3- النصر يكون بعد الابتلاء؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 4].

 

وفي الحديث: عن خباب بن الأرت، قال: ((شكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسِّد بُردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألَا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))؛ [أخرجه البخاري (3613)].

 

4- النصر مع الصبر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34]، وهي سنة الله الجارية في أوليائه؛ كما في حديث هرقل مع أبي سفيان رضي الله عنه: ((وكذلك الرسل تُبتَلى، وتكون لها العاقبة))؛ [أخرجه البخاري (2941)].

 

وفي الحديث: ((وأن النصر مع الصبر))؛ [إسناده صحيح، أخرجه أحمد، (2803)].

 

5- بشارة الوحي لهذه الأمة المحمدية بالنصر والتمكين؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وعن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بشِّر هذه الأمة بالسَّناء، والرِّفعة، والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمِل منهم عَمَلَ الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب))؛ [إسناده صحيح، أخرجه أحمد، (21223)].

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فهذه سنة الله وعادته في نصر عباده المؤمنين إذا قاموا بالواجب على الكافرين، وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل، بعذاب من عنده، أو بأيدي المؤمنين، هي سنة الله التي لا توجد منتقضة قط”؛ [الرد على المنطقيين، ص: 390].

 

يقول ابن القيم رحمه الله: “والله سبحانه قد بيَّن في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة.

 

قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].

 

وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [المائدة: 56].

 

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 20، 21]، وهذا كثير في القرآن.

 

وقد بيَّن سبحانه فيه: أن ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدو، أو كسر، وغير ذلك، فبذنوبه”؛ [إغاثة اللهفان (2/183)].

 

وأختم بكلمة تأصيلية جامعة لهذه الأصول كلها للإمام ابن القيم؛ إذ يقول رحمه الله: “وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، فأعطى عباده الأسماع والأبصار، والعقول والقُوى، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأرسل إليهم رُسُلَه، وأمدَّهم بملائكته، وقال لهم: ﴿ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الأنفال: 12]، وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم، وأنه إن سلَّطه عليهم، فلتركهم بعض ما أُمِروا به ولمعصيتهم له، ثم لم يُؤْيِسْهم ولم يقنطهم، بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم، ويداووا جراحهم، ويعودوا إلى مناهضة عدوهم، فينصرهم عليه، ويُظْفِرهم بهم، فأخبرهم أنه مع المتقين منهم، ومع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المؤمنين، وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم، ولولا دفاعه عنهم لتخطَّفهم عدوهم واجتاحهم.

 

وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم وعلى قدره، فإن قَوِيَ الإيمان قويت المدافعة، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومَنَّ إلا نفسه.

 

وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته، وكما أن حق تقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليُسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله، فيكون كله لله وبالله، لا لنفسه ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده، ومعصية أمره، وارتكاب نهيه، فإنه يعِد الأمانيَّ ويُمنِّي الغرور، ويعِد الفقر ويأمر بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهدى، والعفة والصبر، وأخلاق الإيمان كلها، فجاهده بتكذيب وعده، ومعصية أمره، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان وعُدَّة، يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه، ويده وماله؛ لتكون كلمة الله هي العليا”؛ [زاد المعاد (3 /8)].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
أحمد حسن: صن داونز كتاب مفتوح لـ كولر.. والفريق الجنوب إفريقى … – الكابتن
نور الدين زنكي (خطبة)