{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم }
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾
يقول تعالى في سورة البقرة: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].
هذا استئناف ابتدائي ثنى به العنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربعة المتقدم ذكرها، موعظة تليق بحاله، بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله، ومثلت حال كل فريق وضربت له أمثاله، فإنه لما استوفى أحوال المؤمنين وأضدادهم من المشركين والمنافقين، لا جرم تهيَّأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشادًا لهم ورحمةً بهم؛ لأنه لا يرضى لهم الضلال، ولم يكن ما ذكر آنفًا من سوء صنعهم حائلًا دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب، ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هدَّدهم، ولامهم وذمَّ صنعهم؛ ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصًا على صلاحهم، وأنه غني عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ، فيرى انكسار نَفْسِ مُرَبَّاهُ فَيَجْبُرُ خَاطِرَهُ بِكَلِمَةٍ لَيِّنَةٍ لِيُرِيَهُ أنه إنما أساء إليه استصلاحًا وحبًّا لخيره، فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوِّهم وضلالهم وفي حال حملهم إلى مصالحهم.
وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحسانًا، وينكفُّ به المجرمون عن سوء صُنْعِهِمْ، فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظَّه منه.
﴿ يَا ﴾ حرف نداء وهو أم باب النداء، وأكثر حروف النداء استعمالًا؛ فهو أصل حروف النداء، وقد يُحْذَفُ نحو: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ ﴾ [يوسف: 29] ويُنادى به المندوبُ والمستغاثُ، والقريب والبعيد، وعلى كثرة وقوع النداءِ في القرآن لمَ يَقَعْ نداءٌ إلا به.
﴿ أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا: كل شيء نزل فيه: ﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ ﴾ فهو مكي، و﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فهو مدني.
أما في ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فصحيح، وأما في ﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ ﴾ فيحمل على الغالب؛ لأن هذه السورة مدنية، وقد جاء فيها ﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ ﴾.
وقال ابن عثيمين: النداء هنا وجِّه لعموم الناس مع أن السورة مدنية، والغالب في السور المدنية أن النداء فيها يكون موجهًا للمؤمنين، والله أعلم بما أراد في كتابه، ولو قال قائل: لعل هذه آية مكية جعلت في السورة المدنية؟
فالجواب: أن الأصل عدم ذلك؛ أي: عدم إدخال الآية المكية في السور المدنية أو العكس، ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح، وعلى هذا فما نراه في عناوين بعض السور أنها مدنية إلا آية كذا، أو مكية إلا آية كذا غير مسلَّم حتى يثبت ذلك بدليل صحيح صريح، وإلا فالأصل أن السورة المدنية جميع آياتها مدنية، وأن السور المكية جميع آياتها مكية إلا بدليل ثابت.
والمقصود بالنداء من قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ الإقبال على موعظة «نبذ الشرك» وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بـ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾، وقرينة ذلك هنا قوله: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ العبادة في الأصل «التذلل والخضوع»، ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين، كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة؛ لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق، فقد تباعد عن التذلُّل والخضوع له.
و«العبادة» تُطلَق على معنيين؛ أحدهما: التعبُّد، وهو فعل العابد، والثاني: المتعبَّد به، وهي كل قول أو فعل ظاهر أو باطن يُقرِّب إلى الله عزَّ وجلَّ.
والمعنى: تذلَّلوا له بالطاعة؛ وذلك بفعل الأوامر، واجتناب النواهي، ذلًّا تامًّا ناشئًا عن المحبة والتعظيم، و«الرب» هو الخالق المالك المُدبِّر لشؤون خلقه.
والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين. لا يقال: المؤمنون عابدون، فكيف يصحُّ الأمر بما هم ملتبسون به؟ قيل: لأنه في حقِّهم أمر بالدوام والمواظبة والازدياد من العبادة، فصحَّ مواجهة الكل بالعبادة.
وانظر لحسن مجيء كلمة «الرب» هنا، فإنه السيد والمصلح؛ إذ لم يقل: “اعبدوا الله”؛ لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانًا بأحقية الأمر بعبادته، فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة؛ لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج.
وإفراد اسم “الرب” دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى؛ إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله، ففيها دعوة صريحة للتوحيد.
وفيه العناية بالعبادة، ويستفاد هذا من وجهين؛ «الوجه الأول»: تصدير الأمر بها بالنداء؛ «والوجه الثاني»: تعميم النداء لجميع الناس مما يدل على أن العبادة أهم شيء؛ بل إنَّ الناس ما خُلقوا إلا للعبادة، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ «صفة كاشفة» تبين بعض معنى الربوبية، وبيان لموجب العبادة وأحقيتها؛ وليست «صفة احترازية»؛ لأنه ليس لنا ربَّانِ أحدهما خالق، والثاني غير خالق؛ بل ربنا هو الخالق.
والخطاب إن كان عامًّا، كان قوله: ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ صفة مدح، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح؛ إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم، ونبه بوصف «الخلق» على استحقاقه العبادة دون غيره ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17] أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، والتمييز عن غيرهم بالعقل، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة؛ إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب.
﴿ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾؛ أي: في خلقكم من سائر الأمم الماضية، والمعطوف متقدَّم في الزمان على المعطوف عليه، وبدأ به -وإن كان متأخرًا في الزمان- لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره؛ إذ أقرب الأشياء إليه نفسه، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة، فتنبيههم أولًا على أحوال أنفسهم آكد وأهم، وبدأ أولًا بصفة الخلق إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها، وهم المخاطبون والناس تبع لهم؛ إذ نزل القرآن بلسانهم.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ليست ﴿ لعل ﴾ هنا بمعنى «كي»؛ لأنه قول مرغوب عنه، ولكنها للترجي والإطماع، وهو بالنسبة إلى المخاطبين؛ لأن الترجي لا يقع من الله تعالى؛ إذ هو ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الأنعام: 73] وهي متعلقة بقوله: ﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾، فكأنه قال: إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة.
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ المقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها، فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش، وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم.
والله تعالى قد وصف الأرض بأوصاف متعددة: وصفها بأنها فراش، وبأنها ذلول، وبأنها مهاد.
﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ البناء أبلغ في الإحكام، وأتقن في الصنعة، وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته؛ إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها، والسماء في غاية ما يكون من العظم، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصى عددها، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها، ولا عمد تُقِلُّها، ولا أطناب تشدُّها، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41]، وقيل: سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض.
قال ابن عاشور: وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية، فهي كالبناء فيما يراد له البناء، وهو الوقاية من الأضرار النازلة، فإن للكرة الهوائية دفعًا لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض، ودفع أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة الكرة الهوائية لهيئة القبة.
والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر، ومنه قولهم: “بنى على امرأته” إذا تزوَّج؛ لأن المتزوج يجعل بيتًا يسكن فيه مع امرأته، وقد اشتهر إطلاق البناء من أدم؛ ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها، وهذا كقوله في سورة الأنبياء: ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا ﴾ [الأنبياء: 32].
ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال.
وقد امتنَّ الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم، وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة، وفيهما أنفع الأشياء؛ وهما الهواء والماء النابع من الأرض، وفيهما كانت أول منافع البشر، وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى، وهي التمهيد لما سيأتي من قوله: ﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ [البقرة: 22]…إلخ، وابتدأ بالأرض؛ لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء؛ لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به.
﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ ليست هي السماء الأولى؛ بل المراد هنا العلو؛ لأن الماء -الذي هو المطر- ينزل من السحاب، والسحاب بين السماء والأرض.
﴿ مَاءً ﴾ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال، ورحمته بإنزال المطر من السماء، فلو كان كل الماء الذي تحيا به الأرض يجري على الأرض لأضرَّ الناس؛ ولحُرِم منه أراضٍ كثيرة؛ كالأراضي المرتفعة مثلًا التي لن يأتيها شيء؛ ولكن من نعمة الله أن ينزل من السماء؛ ثم هناك شيء آخر أيضًا: أنه ينزل رذاذًا؛ يعني: قطرةً قطرةً، ولو نزل كأفواه القرب لأضر بالناس.
﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ ﴾ الهاء في ﴿ بِهِ ﴾ عائدة إلى الماء، والباء معناها السببية، فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز؛ إذ الباري تعالى قادر على أن ينشئ الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقي.
ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار؛ لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيمًا للباري.
﴿ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ من للتبعيض، فكان بعض الثمار رزقًا لنا، وبعضها لا يكون رزقًا لنا، وهو الواقع، فكم من شجرة أثمرت شيئًا لا يمكن أن يكون رزقًا لنا.
﴿ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ مؤمن وكافر، لكن فضل الله على المؤمن دائم متصل بفضل الآخرة، وفضل الله على الكافر منقطع بانقطاعه من الدنيا.
وناسب في الآية تنكير الماء وكون ﴿ مِنَ ﴾ دالة على التبعيض وتنكير الرزق؛ إذ المعنى: وأنزل من السماء بعض الماء، فأخرج به بعض الثمرات بعضها رزقًا لكم.
وانتهى عند قوله: ﴿ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ ذكر خمسة أنواع من الدلائل: اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشًا وكون السماء بناءً وأنزل من السماء ماء، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان؛ لأنه أقرب إلى معرفته، وثنَّى بخلق الآباء، وثلث بالأرض؛ لأنها أقرب إليه من السماء، وقدَّم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات؛ لأن هذا كالأمر المتولَّد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر.
وأشار في هذه الآية إلى ثلاثة براهين من براهين البعث بعد الموت وبينها مفصلة في آيات أُخَر.
«البرهان الأول»: خلق الناس أولًا المشار إليه بقوله: ﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 21]؛ لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني، وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة؛ كقوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ [الروم: 27]، وقوله: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾ [الأنبياء: 104]، وكقوله: ﴿ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [الإسراء: 51]، وقوله: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [يس: 79]، وقوله: ﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ ﴾ [ق: 15]، وكقوله: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [الحج: 5]، وكقوله: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى ﴾ [الواقعة: 62].
ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول، كما في قوله: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ [يس: 78]، وقوله: ﴿ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 66، 67]، ثم رتب على ذلك نتيجة الدليل بقوله: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ﴾ [مريم: 68] إلى غير ذلك من الآيات.
«البرهان الثاني»: خلق السماوات والأرض المشار إليه بقوله: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾؛ لأنهما من أعظم المخلوقات، ومن قدر على خلق الأعظم فهو على غيره قادر من باب أحرى.
وأوضح الله تعالى هذا البرهان في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [غافر: 57]، وقوله: ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 81]، وقوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى ﴾ [الأحقاف: 33]، وقوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ [الإسراء: 99]، وقوله: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾ [النازعات: 27، 28] إلى غير ذلك من الآيات.
«البرهان الثالث»: إحياء الأرض بعد موتها؛ فإنه من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت، كما أشار له هنا بقوله: ﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ وأوضحه في آيات كثيرة؛ كقوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39]، وقوله: ﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 11]، يعني: خروجكم من قبوركم أحياء بعد أن كنتم عظامًا رميمًا، وقوله: ﴿ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ [الروم: 19]، وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57]، إلى غير ذلك من الآيات.
قال بعض المفسرين: اختص تعالى بهذه المخلوقات وهي: الخلقة البشرية، والبنيتان الأرضية والسماوية؛ لأنها محل الاعتبار، ومسرح الإبصار، ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية، وبها يقوم الدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية، وانفراده بخلقها وأحكامها، وقدم الخلقة البشرية، وإن كانت للعالم الأصغر، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان، ولا يحيط بكنهه فكر إنسان، وظهور حسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلى ذهنه.
﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾ سموا أندادًا على جهة المجاز من حيث أشركوهم معه تعالى في التسمية بالإلهية والعبادة، صورة لا حقيقة؛ لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى الله تعالى، وكانوا يسمون الله إله الآلهة ورب الأرباب.
والنِّد: المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئًا؛ أي: معاديًا، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من «ند» إذا نفر وعاند، ومن شابه شيئًا في وصف ما قيل: هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دون بقية أوصافه، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع؛ لأنهم لم يتخذوا له تعالى ندًّا واحدًا، وإنما جعلوا له أندادًا كثيرة، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه.
والمعنى: لا تثبتوا لله أندادًا تجعلونها جعلًا وهي ليست أندادًا، وسمَّاها أندادًا تعريضًا بزعمهم؛ لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون: إن الآلهة شفعاء ويقولون: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية: “لبيك لا شريك لك، إلَّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك”، لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادةَ الله، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى؛ لأن العبرة بالفعل لا بالقول، وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال.
﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أنه لا نِد له في الخلق والرزق وإنزال المطر، وما أشبه ذلك من معاني الربوبية ومقتضياتها؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الخالق هو الله، والرازق هو الله، والمُدبِّر للأمر هو الله، إقرارًا تامًّا، ويعلمون أنه لا إله مع الله في هذا؛ لكن في العبادة ينكرون التوحيد: يشركون؛ يجعلون مع الله إلهًا آخر؛ وينكرون على من وحَّد الله حتى قالوا في الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5].
والآية جملة حالية، وفيها من التحريك إلى ترك الأنداد وإفراد الله بالوحدانية ما لا يخفى؛ أي: أنتم من ذوي العلم والتمييز بين الحقائق والإدراك للطائف الأشياء، والاستخراج لغوامض الدلائل، في الرتبة التي لا تليق لمن تحلى بها أن يجعل لله ندًّا وهو خلقه؛ إذ ذاك فعل من كان أجهل العالم وأبعدهم عن الفطنة وأكثرهم تجويزًا للمستحيلات.
قال ابن عاشور: وقد جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تمليحًا في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة، فإنه أثبت لهم علمًا ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية، ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به، وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخًا لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم، وأضاعوا من سلامة مداركهم، وهذا منزع تهذيبي عظيم؛ أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله، فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه، خارت عزيمته، وذهبت مواهبه، ويأتي بما يدل على نقائض فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلا والكمال.