خطبة: الرقية أحكام وآداب
خطبة: الرقية أحكام وآداب
الحمد لله الشافي من كل مرضٍ وعلةٍ داهية، أحمَده سبحانه وأشكره مَنْحَ عبادَه أسبابَ السلامة والعافية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أرجو بها النجاة يوم الآزفة، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُالله ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الأمة الرسالة الصافية، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه الكرام، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فاتقوا الله يا عباد الله، واستمسكوا بالعروة الوثقى، واعتبروا صحة الأبدان قبل العلل وآفاتها، وابتدروا القربات والصالحات قبل فواتها؛ ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
أيها المسلمون: يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، فإن الله جل وعلا جاء بأعظم برهان، وجعل فيه البلسم والشفاء؛ يقول سبحانه: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44].
“فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة… إذا أحسن العليل التداوي به، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها”؛ [زاد المعاد بتصرف].
وما أنزل الله داء، إلا أنزل له دواء، علِمه من علمه، وجهِله من جهله، ومما يُستدفع به البلاء قبل وقوعه، وبعد وقوعه، الرُّقْيَةُ الشرعية؛ قال ابن القيم: “الرُّقى والعَوذ تستعمل لحفظ الصحة ولإزالة المرض”؛ [زاد المعاد (4/ 168)].
فإذا وقع بالعبد ابتلاء بالمرض الحسي أو المعنوي، فعليه أن يعلم أن ذلك ابتلاء من الله عز وجل، وأنه ما وقع إلا بأمر الله وقدره، وعليه أن يبذل الأسباب في رفعه من رقية شرعية، وعلاج طبي حسي؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تداوَوا – عباد الله – ولا تداوَوا بحرام))؛ [أخرجه أبو داود، والبيهقي].
وكم من مريض أشرف على الهلاك، ولم تجد في عِلَّتِهِ المصحَّات، ولا براعة الأطباء، واستطبَّ بالرقية الشرعية، فحقَّق الله له البُرْءَ والشفاء؛ قال السيوطي رحمه الله: “جمع صلى الله عليه وسلم بين الطب الإلهي والطب البشري”.
وقد جاءت الأحاديث النبوية في إثبات أن الرقية نافعة بعد وقوع الداء، وأنها رافعة له بإذن الله تعالى؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو أمر – أن يُسترقَى من العين))، وعن أم سلمة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، فقال: استرقوا لها؛ فإن بها النظر))؛ [أخرجهما البخاري]، والسفعة: أي: بوجهها موضع على غير لونه الأصلي، والنظرة: العين.
ورخص النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحية، وقال لأسماء بنت عميس رضي الله عنها: ((ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة، تصيبهم الحاجة؟ قالت: لا، ولكن العين تُسرِع إليهم، قال: ارْقِيهم))؛ [رواه مسلم].
ضارعة: أي نحيفة، والمراد أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم ((أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيت؟ فقال: نعم، قال: بسم الله أرْقِيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك بسم الله أرقيك))، وشكا عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا في جسده، فقال: ((ضَعْ يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر))؛ [أخرجه مسلم].
وعن عوف بن مالك الأشجعي، قال: ((كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شِرْكٌ))؛ [رواه مسلم].
وهذا الحديث يدل على جواز الرقى، ما لم يكن بها شرك، وما لم تكن ذريعة للشرك، والرقى رخَّص فيها النبي صلى الله عليه وسلم من العين والحمَّى؛ قال الحافظ في الفتح (10/195): “وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يُعرَف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بذات الله تعالى”.
وتكون الرقية بالنفث على المريض مباشرة، أو تُقرَأ في ماء ويشربه المريض، أو زيت ويدَّهن به، والأكمل أن يرقي المريض نفسه بنفسه؛ لأنه أدعى لمقام الإخلاص والذل والافتقار.
ومما يُشرَع فعله لرفع البلاء أو دفعه: الأخذ بالأسباب المشروعة من التداوي والعلاج؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبِّب؛ وهو الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].
ومما يدفع البلاء ويرفعه قراءة القرآن عمومًا، وخصوصًا: قراءة الفاتحة، وسورة البقرة، وآية الكرسي، والمعوذتين، مع المحافظة على الأذكار والأدعية المأثورة، فمتى لزِمتها حُفِظت وكُفِيت من الشرور بحول الله تعالى.
وما يدفع البلاء المحافظة على الصلاة، والصدقة، والأعمال الصالحة، والبعد عن المعاصي وأهلها، كل ذلك يجلب الطمأنينة والحياة السعيدة.
وقد كثُر مُدَّعو الرقية والطب الشعبي، وفيهم الجهَّال والكَذَبة والغَشَشَة، ويزداد ضررهم ويطير شررهم مع الوسائل الحديثة؛ فلهم مواقع يبثون من خلالها في وسائل التواصل الاجتماعي، فانتشرت صفحاتهم، وافتتن الجهال والدَّهْمَاء بهم، بل وساهموا في الترويج لهم وهم لا يشعرون.
وانتشر عند البعض تخصيص رُقًى وتعاويذ مخترَعة، لم يَرِدْ بها من الكتاب والسُّنَّة، وجعلوا لها تسميات وكيفيات باسم الشيخ الفلاني، وهي لا أصل لها.
فعلى المسلم أن يحفظ إيمانه وعقله بالبعد عن هؤلاء، مع السعي في الإنكار والإبلاغ عن هؤلاء المخالفين، بكل وسيلة ممكنة، للجهات المختصة؛ ومنها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فاتقوا الله عباد الله، وحصنوا البيوت والأولاد بالأوراد الشرعية، وحُثُّوهم على الأذكار الصباحية والمسائية؛ فهي الحصن الواقي بإذن الله، وتوكلوا على المولى النصير؛ ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، فمن تعلَّق بالله، وأنزل حوائجه به، والتجأ إليه، وفوَّض أمره إليه كفاه، ومن تعلَّق بغيره، أو سكن إلى التمائم والحُرُوز والتعاليق، وَكَلَهُ الله إلى ذلك وخذَله، والله وحده هو القادر والقاهر فوق عباده، وبيده وحده تصريف الأمور، سبحانه وتعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وصونوا عقيدتكم عن كل ما ينافيها، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدَثاتُها.
اللهم صلِّ وسلم على سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية العشرة، وأصحاب الشجرة، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحْمِ حَوزةَ الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين، وأعِذْنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين، ووليَّ عهده لِما تحب وترضى.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].