تسوية الصفوف في الصلاة (خطبة)
تسوية الصفوف في الصلاة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فالصلاة – عباد الله – أعظم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وصلاة الجماعة معلوم فضلها بنص أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ومن ذلك قوله: ((صلاة الجماعة تفضُل على صلاة الرجل وحده، بسبع وعشرين درجةً))[1]، وحتى نفوزَ بأجرها كاملًا أودُّ التذكير في هذه الخطبة بضرورة الحرص على تسوية الصفوف؛ لِما نراه في هذا المسجد خاصةً وبعض المساجد عمومًا من تهاون البعض في إتمام الصفوف؛ من خلال الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: حثُّ الإمام للمأمومين بتسوية الصفوف؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِل على الناس قبل تكبيرة الإحرام للصلاة بهدف حثِّهم على تسوية صفوفهم، وأورد الإمام البخاري في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف حديثَ أنس رضي الله عنه قال: ((أُقِيمتِ الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم وتراصُّوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري))[2]، وهذا ما ينبغي للإمام فعله، فيتريَّث قليلًا حتى يتمكَّن الناس من تسوية الصفوف، ويأمرهم بذلك، ولا يلتفت إلى من يتضجر من تباطئه قليلًا؛ فهو الإمام والمسؤول، فيقول لهم – مثلًا – ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة))، وفي رواية: ((من حسن الصلاة))[3]، وكان عمر رضي الله عنه يُوكِل رجالًا بإقامة الصفوف، ولا يكبِّر حتى يُخبَر أن الصفوف قد اسْتَوتْ.
الوقفة الثانية: معنى تسوية الصفوف؛ المقصود بتسوية الصفوف ما يلي:
أولًا: التراص فيها؛ فتنظر إلى الصف كأنه خط مستقيم، فلا تجد فيه التقديم أو التأخير، وهكذا تكون الملائكة عند ربها؛ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألَا تصُفُّون كما تصُفُّ الملائكة عند ربها، قلنا: بلى، قال: يُتِمُّون الصفوف الأُوَلُ، ويتراصُّون في الصف))[4].
ثانيًا: سد الخلل بينك وبين جارك؛ وهذا لا يكون إلا بالمحاذاة بالمناكب والأقدام، والمعتبر في الأقدام هو مُؤْخِرُ القدم؛ لأن الناس تختلف في أكعابها وأقدامها؛ وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخَلَل، ولِينوا بأيدي إخوانكم، ولا تَذَرُوا فُرْجات للشيطان، ومن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله))[5]؛ قال أبو داود: “معنى: ولينوا بأيدي إخوانكم: إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه، فينبغي أن يلين له كل رَجُلٍ مَنْكِبيه حتى يدخل في الصف”.
ولا يفهم من سد الخلل التزاحم الشديد المؤذي، الذي قد يشغل المصلي عن صلاته، أو يوقع في نفسه على أخيه شيئًا، ولكن المراد به تقارب المصلين وتلاصقهم.
ثالثًا: إتمام الصفوف الأوَّلَ فالأوَّلَ؛ كما تفعل الملائكة عند ربها، وكما رأينا الأمر النبوي بإتمام الصفوف، لكن ما نراه من وجود قطعة من الصف هنا وقطعة هناك، وقد يأتي من يكمل الفراغ في الصف وقد لا يأتي، وهذا أمر منافٍ لكمال صلاة الجماعة، والواجب إتمام الصف الأول الذي يلي الإمام أولًا، فإذا تم نشرع في الثاني، ونبدأ خلف الإمام مباشرةً، وهكذا، والبعض حرصًا منه على إدراك ركعة يدخل في صف غير تام، والواجب العمل على إتمام الصف ثم قضاء ما فات من الصلاة، كما أنه لا تشرع الصلاة بين سواري المسجد إلا عند ضرورة امتلاء المسجد؛ لأن السارية تقطع الصف.
فاللهم اجعلنا ممن يتمون صفوفهم، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فقد رأينا في الخطبة الأولى ضرورة الأمور التي تتم بها تسوية الصفوف لأجل تمام وكمال الصلاة، ومما يعين كذلك على تمام الصف:
الوقفة الثالثة: إرشاد الأطفال لتسوية الصفوف؛ ينبغي – عباد الله – أمْرُ الأطفال بالصلاة، واصطحابهم إلى المسجد لتأدية صلاة الجماعة؛ تشجيعًا لهم على المحافظة على هذه الشعيرة العظيمة في حياتهم، ونستنكر عمل أولئك الذين يتضايقون منهم، ويجرؤ بعضهم على طردهم من المسجد، صحيح أن الأطفال قد تصدر منهم بعض السلوكيات المخالفة لآداب المسجد، ومنها عدم التراص في الصفوف وغيرها، فالواجب الأخذ بأيديهم وحسن تعليمهم بالحكمة والموعظة الحسنة، والأصل أن يصطفَّ الأطفال خلف صف الرجال، إذا كانوا على قدر كبير من الاحترام لآداب المسجد، وعدم خوف التشويش، لكن إذا خِيفَ أن يصدر منهم ما يشوِّش على المصلين، فَلْيُفرَّق بينهم في صفوف الرجال؛ لضمان اقتدائهم بالكبار وتعليمهم ما يجهلون.
الوقفة الرابعة: رسالة إلى المصلين على الكراسي؛
أولًا: المصلي الجالس على الأرض لا يطالب باصطفاف رجليه مع أرجل القائمين؛ لأن مَقْعَدَتَه في هذه الحالة تقوم مقام رجليه.
ثانيًا: المصلي على الكرسي عليه أن يبذل جهده في سبيل استقامة الصف وانسجامه، دون أن يضر بالمصلين، فإذا عجز أن يكون منسجمًا مع الصف فلا حرج عليه في ذلك؛ لأنه معذور؛ قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقال أيضًا: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، ولذلك لا ينبغي وضع الكرسي بحيث يضايق المصلين خلفه؛ لأن في ذلك ضررًا عليهم، فعليه إذًا؛ إذا كان يصلي جالسًا في صلاته كلها أن يكون الكرسي مع خط الصف ومتقدمًا بأرجله عند الجلوس، أما إذا كان يصلي قائمًا ويجلس على الكرسي في حال الجلوس والسجود فقط، فالعبرة بالقيام فيحاذي الصف عند قيامه، وعلى هذا سيكون الكرسي خلف الصف، ما لم يتأذَّ به مَن خلفه مِنَ المصلين وإلا جعله بين رجليه إذا أمكن.
عباد الله: إن أسوأ عقاب عدم التزامنا بتسوية صفوفنا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لَتُسَوُنَّ صفوفكم، أو ليخالفَنَّ الله بين وجوهكم))[6]؛ قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: “معناه يُوقِع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما يُقال: تغير وجه فلان عليَّ، أي ظهر لي من وجهه كراهة لي وتغير قلبه عليَّ؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن”[7].
فاللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، آمين.
(تتمة الدعاء).