أهوال القيامة مشاهد تنخلع منها القلوب (الجزء الثاني)


أهوال القيامة مشاهد تنخلع منها القلوب (الجزء الثاني)

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفرهن ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

 

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:

 

أيها المسلمون عباد الله، لقد كان تحدثنا معكم في الجمعة الماضية عن بعض ما يحصل من أهوال يوم القيامة، وكنا قد توقفنا، وانقطع الحديث بنا عند مشهد عظيم، من مشاهد ذلك اليوم العظيم ألا وهو مشهد الحساب؛ نسأل الله أن ييسر حسابنا، ويعفو عنا!

 

ويبتدئ هذا المشهد بتطاير الصحف، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14]، فتعالوا بنا لنتأمل في هذا الموقف العظيم، ولكن قبل أن يبدأ الحساب ستحصل هناك كرامة لهذه الأمة المحمدية المرحومة، فسيدعى فريق من أمة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ليدخلوا الجنة بغير حساب، ولا عذاب. فلقد روى الإمام أحمد، وصححه الألباني رحمهما الله عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن ربي وعدني أن يُدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا، لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفًا، وثلاث حثيات من حثيات ربي»[1].

 

نسأل الله من فضله!

 

وفي لفظ عند ابن حبان: «ثم يُتبع كل ألف بسبعين ألفًا»، وهؤلاء السبعون، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون؛ كما قال عليه الصلاة والسلام

 

فاللهم لك الحمد على هذه الكرامات، وهذه الرحمات، وهذه البشريات.

 

ولابد أن نعلم – أيها الناس– أن هذه الكرامات ينبغي ألا تملأ قلوبنا جرأة على الله، بل تملأ قلوبنا رجاءً في الله، وسعة رحمته سبحانه.

 

وبعد أن تدخل هذه الزمرة الكريمة إلى الجنة بغير حساب؛ يبدأ الحساب بالعرض، ويبدأ بتطاير الصحف، فلك الآن أن تتصور، وتتخيل هذا الموقف، ولكن قبل ذلك نقول: هل قد حضرنا يومًا محاكمة في محكمة من محاكم الدنيا؟ ورأينا ذلك الرجل يصرخ قبل الحاكم بصوت عال، ويقول: محكمة، والكل ينصت لقوله، وتدخل هيئة المحكمة، ويتوسط الهيئة رئيس المحكمة، وبعد جلسات، ومداولات، ومرافعات، يبدأ رئيس المحكمة في النطق في الحكم، ونحن نرى وجوه الحاضرين؛ منهم من تسيل دموعه على خدوده، ومنهم من تندى العرق من جبينه، ومنهم من قد تملكه الخوف والقلق، واستحكم عليه الفزع والأرق، وترى أبصار الحاضرين شاخصة، وأسماعهم مصغية، ومنتظرة إلى حكم رئيس المحكمة، إلى حكم هذا الحاكم الضعيف، الذي لاحول له ولا قوة، وهذا كله في محكمة من محاكم الدنيا الدنيئة.

 

بالله عليك يا عبد الله، وقل لي بربك هل تصورت هذه اللحظات وأنت واقف بين يدي الله، وعار كما خلقك الله، تتقدم لتقف بين يدي الله، وتسوقك الملائكة سوقا إلى الله، يقول الله: ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ [ق: 21]، تساق سوقًا إلى الله، وينادى عليك باسمك الذي كنت تعرف به في الدنيا: يا فلان يا فلان بن فلان، أقبل على العرض بين يدي الله، فيقرع هذا النداء قلبك، وترتعد منه فرائصك، وتضطرب جوارحك، فتقبل ليكلمك الله؛ كما روى البخاري ومسلم من حديث عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان! فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة!»[2].

 

فان كنت يا عبد الله من السعداء -ونسأل الله أن يسعدنا جميعًا في الدنيا والآخرة-، فيضع عليك رب العزة ستره، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، أي: سترة، فيستره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: إي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الكافر، والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين!»[3].

 

فينطلق المؤمن في أرض المحشر وكتابه بيمينه، وهو يبحث عن أهله، وأحبابه ويقول لهم هاؤم اقرؤوا كتابيه.

 

وأما الكافر فيأخذ كتابه بشماله، ثم يقول: يا ليتني لم أُوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه.

يا حسرتا من يوم نشر كتابيه
واطول حزني إن أكن أوتيته بشماليه

فيا عباد الله هل تفكرنا في هذه المواقف؟ وهل تفكرنا في هذه الأحوال، وهذه الأهوال؟

يأيها العبد العاصي: أتدري أنك ستقف بين يدي الله، أتدري يا من أنت غارق في بحار هذه الدنيا الدنيئة أنك عما قريب ستتركها، وعما قريب ستودعها، فإنك إذا مت فقد قامت قيامتك، هل جلست مع نفسك يومًا، ونظرت في أيام عمرك، وحياة شبابك ماذا فعلت فيها؟ أين صرفتها، وقضيتها؟ ماذا قدمت لنفسك في صحيفتك التي ستؤمر بقراءتها، وتجد كل ما عملت فيها؟!

 

أيها المسلمون عباد الله، إن الإنسان مهما عمل في هذه الدنيا من عمل فسيجده مسطرًا في كتابه، ولو كان مثقال ذرة: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، مهما غاب العبد عن أنظار الناس، مهما عصى وبغى، وتعدى وطغى فسيجد ذلك كله في يوم القيامة حاضرًا: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

 

وفي ذلك اليوم سيظهر لك شهود – يا عبد الله – ما كنت تتوقع أنهم سيشهدون عليك، وأنت الذي لطالما كنت تمتعهن، وتدافع عنهن، إنهن أعضاؤك، وجوارحك، سينطقهن الله ويكن عليك شهودًا، فلقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أنس رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: «هل تدرون مم أضحك؟» قلنا الله ورسوله أعلم! قال: «من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه، فيقال: لأركانه انطقي. قال: فتنطق بأعماله، ثم يُخلى بينه وبين الكلام، فيقول بُعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أدافع! فعنكن كنت أناضل؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]»[4].

 

ويقول – سبحانه وتعالى-: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [فصلت: 19، 20].

 

ومن رحمة الله بهذه الأمة – أمة محمد عليه الصلاة والسلام – أنها أول من ينادى عليها بالحساب، وأول أمة تدخل الجنة؛ فلقد روى الإمام ابن ماجه، وصححه الألباني رحمهما الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون»[5].

 

فأمة محمد عليه الصلاة والسلام هي أول من تحاسب.

 

ومن أول من يحاسب من هذه الأمة؟ من أول من ينادى عليهم للحساب؟ هل هم أهل الكبائر؟ هل هم أهل القتل والجرائم؟! لن تصدق إن قلت لك: إنهم قراء القرآن؟! إنهم الشهداء، إنهم الأسخياء الكرماء.

 

روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد فأوتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء؛ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار!»[6].

 

تخيل هذا الرجل الذي سال دمه، وقطعت رقبته، اغبرت قدماه، قدم نفسه، وروحه، لكن من أجل من؟ في سبيل من؟ انظروا إلى عظم وقدر الإخلاص لله عز وجل، «ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار!»

 

اللهم استرنا ولا تفضَحنا يا رب العالمين، اللهم استرنا ولا تفضحنا يا رب العالمين، تأمل ثم تأمل، عالمًا ملأ الدنيا ضجيجًا، وكلامًا وعلمًا، عالمًا دخل علمه لكل بيت، ولكل مسجد، عالمًا تسابق الناس وتزاحموا على شراء كتبه، وسماع محاضراته، يُجر على وجهه في النار، يا رب سلًّم سلِّم، وارزُقنا الإخلاص يا رب العالمين! قال: «ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار!».

 

نعوذ بالله من غضب الله، وأن تكون أعمالنا لغير الله!

 

يأيها المقاتل، يا أيها المجاهد: إن لم تقاتل من أجل الله فلا تتعب! يأيها العالم، يا صاحب المؤلفات يا قارئ القرآن ويا صاحب القراءات، إن لم يكن حفظك للقرآن، وطلبك للعلم من أجل الله فلا تتعب! يا أيها التجار، ويا أصحاب الأموال، يا أصحاب المشاريع الخيرية، ويا أصحاب الأعمال الإغاثية، إن لم تكن أعمالكم لله فلا تتعبوا! لا إله إلا الله!

 

وبعد مشهد الحساب هل يا ترى انتهت مشاهد يوم القيامة؟ لا، وكلا، فبعد الحساب تنصب الموازين. فالحساب لتقرير الأعمال، والموازين لبيان مقدارها، ليكون الجزاء على حسبها.

 

فالميزان أيها الناس قضية خطيرة، وجليلة، ونحن المؤمنون نؤمن بالميزان، ونعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا يعلم عظمته، وحقيقته إلا الله، فقد روى الحاكم في مستدركه وصححه الألباني رحمهما الله، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزنت فيه السماوات والأرض لوسعهما، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك!»[7].

 

وقد أثبت الله الميزان في غير ما آية من كتابه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 103].

 

وقد اختلف العلماء في الذي يوزن، هل هي الأعمال؟ أم الأجساد؟ أم هي الصحف؟ بكلٍّ قال العلماء، وقد يشكل على بعض الناس كيف توزن الأعمال وهي أعراض وليست أجسامًا؟، فالجواب: أن الله قادر على كل شيء، قادر على أن يحول الأعراض إلى الأجساد، كما أنه سيجعل الموت بصورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، كما قال عليه الصلاة والسلام.

 

فالميزان سينصب وستوزن فيه أعمال العباد، ولا يظلم ربك أحدًا: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 – 9]؛ يقول ابن كثير رحمه الله: « فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ».

 

وما هذه الواحدة؟ الله أعلم، قد تكون بسمة ابتسمتها في وجه أخيك أو أختك، أو في وجه زوجتك وأولادك، قد تكون صدقة تصدقت بها على جيرانك، قد تكون سجدة سجدتها، أو محاضرة حضرتها أو سمعتها، فلا تحتقر من الأعمال شيئا فإنك لا تدري أية حسنة سيرجح بها الميزان، وتكون سببًا في دخولك الجنان، بإذن الكريم المنان.

 

نسأل الله الكريم من فضله، وأن يرحمنا برحمته! أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور!

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

أيها المسلمون عباد الله، بعد أن توزن أعمالنا كلها، ستظهر معاييرنا الحقيقية عند ربنا، فهناك لا نوزن بجمالنا وأحسابنا، ولا بأموالنا وأنسابنا، وإنما بأعمالنا، وطاعتنا لربنا، ستظهر قيمتكم أيها المصلون الساجدون، ستثقل موازينكم أيها المحسنون المتصدقون، ستعلو مكانتكم أيها العلماء العاملون، ستسعدون سعادة لا شقاوة بعدها، وستدخلون جنة طابت وطاب نعيمها، بإذن الله تعالى.

 

وهنا سؤال في غاية الأهمية، ما هو وزني ووزنك عند الله؟ أقول لك: ما قاله رسول الله، فيما صححه الألباني رحمه الله: «إذا أردت أن تعرف ما عند الله لك؛ فانظر ما لله عندك»، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن هناك أعمالًا تثقل الميزان، فمن ذلك سبحان الله، والحمد لله، كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى لرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!

 

فثقل ميزانك وأنت جالس على فراشك، وأنت تمشي في طريقك، قض أوقاتك بطاعة ربك، اشغل حياتك بما يقرِّبك إلى خالقك، فالعمر قصير، والموت قريب: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8].

 

كذلك مما يثقل الميزان، بل لا يثقل معه شيء، كلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلًا، كل سجل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب! قال ألك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرجل! فيقول: لا يا رب! فيقول بل إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وسط البطاقة، قال: ولا يثقل مع اسم الله شيء!» [8].

 

سبحانك! ما أعظمك! ما أرحمك! ما أكرمك! ما أحلمك! هنيئًا ثم هنيئًا لكم أيها الموحدون أن أكرمكم الله بالتوحيد! هنيئًا لك أيها المسلم على نعمة الإسلام، وعلى العيش في بلاد الإسلام!

 

عش فقيرًا أيها المسلم في بلاد الإسلام، عش مريضًا مدينًا، كئيبًا، يكفيك نعمة الإسلام، وأنعم بها وأكرم، فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام.

 

ثم بعد الميزان يكون الحوض، وما أدراكم ما الحوض؟! وهنا تظهر منقبة عظيمة، ومنزلة شريفة لأهل اليمن، وأصحاب الإيمان والحكمة، فهم أول من يشرب من حوض نبيهم عليه الصلاة والسلام، وتعظم منقبة أهل اليمن والإيمان عند رسول الله عليه الصلاة والسلام حين يطرد الناس ويذودهم عن حوضه؛ من أجل أن يشرب أهل اليمن، كما قال عليه الصلاة والسلام.

 

فإذا فرغ الحق تبارك وتعالى من الحساب، وتقرر الجزاء للعباد، أمر الملَك بأن ينصب الصراط على ظهر جهنم، يا رب، سلم! سلم! وهل هناك صراط بعد الميزان؟ نعم، سيُضرب صراطٌ على متن جهنم، فتكون جهنم تحت الصراط، والكل وارد عليه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]، وقد اختلف العلماء في المراد بالمرور، فقيل: الدخول؛ أي: إن كل واحد سيدخلها، لكنها ستكون بردًا وسلامًا على المؤمنين، ولكن قول جمهور العلماء: أن الورود بمعنى المرور، وقد يكون الورود للكفار دخولا، وللمؤمنين مرورا.

 

وأول من يمر على الصراط هو نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، وكل واحد منهم يقول: اللهم سلم سلم! وعلى الصراط كلاليب تخطف الناس على حسب أعمالهم.

 

فتخيل نفسك يا عبد الله إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقَع بصرك على سواد جهنم، ثم قرع سمعك شهيقُ النار وتغيُّظُها، وقد أمرك الله أن تمشي على هذا الصراط، هل تستطيع أن تمشي؟

 

يا قاطع الصلاة، يأيها الظالم، ويا من تسعى في الأرض الفساد، يا من ثقلت بالذنوب وبمظالم العباد، يا له من مظهر ما أفظعه! وما أصعبه!

 

قال الحسن البصري رحمه الله: «قال رجل لأخيه: يا أخي، هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: «فهل أتاك أنك خارج منها؟»، قال: لا، قال: «ففيما الضحك؟» قال: فما رئي ضاحكًا حتى مات[9].

 

وعن قيس بن حازم قال: كان عبد الله بن رواحة واضعًا رأسه في حجر امرأته فبكى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال إني ذكرت قول الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]، فلا أدري أننجو منها أم لا؟!»[10].

 

فيمر الناس على الصراط على حسب أعمالهم الصالحة، منهم من يمر كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كالطير، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يتعثر ثم يقوم، ومنهم من يُكب على وجهه في النار؛ أعاذنا الله وإياكم من النار!

 

وبعد أن يمر من خلصهم الله من جسر جهنم، يبقى أمر عظيم قبل دخولهم الجنة، إنه القصاص في القنطرة بين الجنة والنار، فقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض في مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا، ونقوا، أُذن لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أعرف بمنزله الذي كان له في الدنيا»[11]؛ أي: إنهم يعرفون منازلهم أكثر من معرفتهم لمنازلهم في الدنيا».

 

فلا بد من القنطرة، وإن عبرت جسر جهنم، وان خُلِّصت وظننت أنك قد نجوت منها، إلا أن حق العباد باق عليك، إلا أن المظالم تبقى حائلًا بين يديك،

 

فما دمت يا عبد الله في هذه الحياة، فانتبه لنفسك، ولا تظلمن من سيكون لك خصمًا عند ربك، وإن ظلمت وأخذت حق غيرك؛ فتحلل منه مادامت روحك في جسدك!

 

وبعد القصاص ورد الحقوق تكون الشفاعة العظمى للشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، سيد الأولين والآخرين، ومن أرسله الله رحمة للعالمين، وهي شفاعة دخول أهل الجنة الجنة التي أشار الله إليها في كتابه الكريم بقوله: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73].

 

وقوله: (وفُتحت) يدل على أن هناك من تقدمهم ليفتح لهم الجنة. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فآخذ بباب الجنة فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد. فيفتحون لي، ويرحبون، فيقولون: مرحبًا فأخر ساجدًا،

 

الجنة وما أدراكم ما الجنة موضوع حديثنا في اللقاء القادم بإذن الله تعالى.

 

أسأل أن يجعلنا من أهلها، وأن يهون علينا مواقف القيامة وأهوالها…….».


[1] رواه أحمد (22303).

[2] رواه البخاري (6539)، ومسلم (1016).

[3] رواه البخاري (4421).

[4] رواه مسلم (2969).

[5] رواه ابن ماجه (4290).

[6]رواه مسلم (1905).

[7] رواه الحاكم في مستدركه (7839).

[8] رواه الترمذي في سننه (2639).

[9] الزهد لابن المبارك (311).

[10] رواه الحاكم في مستدركه (8809).

[11]رواه البخاري (6535).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Kim Kardashian’s Skims Is Now Worth $4 Billion
Lucy Score talks about ‘Things We Left Behind’