الرحمن الرحيم
الرحمن الرحيم
يقول تعالى في سورة الفاتحة:
﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3] هما وَصْفانِ لله تعالى، واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من «الرحمة» على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، فالرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، فخصَّهم باسمه الرحيم، وفي الدعاء المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم: ((رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما))؛ [حسن، الطبراني].
والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أيضًا: أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]؛ لأن صلاته عليهم وصلاة الملائكة وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور رحمة بهم في الدنيا، وإن كان سبب الرحمة في الآخرة أيضًا؛ وكذلك قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117].
• واسم الرحمة موضوع في اللغة العربية لرِقَّةِ الخاطر وانعطافه نحو حيٍّ؛ بحيث تحمل من اتصف بها على الرفق بالمرحوم، والإحسان إليه، ودفع الضر عنه، وإعانته على المشاقِّ.
ووصف الله تعالى بصفات الرحمة يجيء في لسان الشرائع؛ تعبيرًا عن المعاني العالية بأقصى ما تسمح به اللغات، مع اعتقاد تنزيه الله عن أعراض المخلوقات بالدليل العام على التنزيه؛ وهو مضمون قول القرآن: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، فأهل الإيمان إذا سمِعوا أو أطْلَقُوا وَصْفَيِ: «الرحمن الرحيم» لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقة الرحمة في متعارف اللغة العربية؛ لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى من الأعراض، بل إنه يُراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثبات الغرض الأسمى من حقيقة الرحمة؛ وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف، والإحسان والإعانة.
• وفي الكلام عن البسملة قيل: الرحمن أكثر مبالغة، وكان القياس الترقي، كما تقول: “عالم نحرير، وشجاع باسل”، لكن أرْدَفَ الرحمن الذي يتناول جلائل النِّعم وأصولها بالرحيم؛ ليكون كالتتمَّة والرديف، ليتناول ما دقَّ منها ولطف.
قال ابن عاشور: “لكن شاع ورود إشكال على وجه إرداف وصْفِه الرحمن بوصفه بالرحيم، مع أن شأن أهل البلاغة إذا أجْرَوا وصفين في معنًى واحد على موصوف في مقام الكمال، أن يرتقوا من الأعم إلى الأخص، ومن القوي إلى الأقوى؛ كقولهم: شجاع باسل، وجواد فيَّاض، وعالم نحرير، وخطيب مِصقَع – أي: مجهر بخطبته – وشاعر مُفْلِق.
وأجاب أهل التفسير أن: الرحمن أخص من الرحيم؛ فتعقيب الأول بالثاني تعميم بعد خاص؛ لأن وصف الرحمن مختصًّا به تعالى، وكان أول إطلاقه مما خصَّه به القرآن على التحقيق، بحيث لم يكن التوصيف به معروفًا عند العرب.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ﴾ [الفرقان: 60]، وقال: ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ﴾ [الرعد: 30]، وقد تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن، وخاصة في السور المكية، مثل: سورة الفرقان وسورة الملك، وقد ذُكِرَ «الرحمن» في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات؛ مما يفيد الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين، فالظاهر أن هذا الوصف تُنُوسي في كلامهم، أو أنكروا أن يكون من أسماء الله.
ومن دقائق القرآن أنه آثَرَ اسم الرحمن في قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾ [الملك: 19]، وقال: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 79]؛ إذ كانت آية سورة الملك مكية، وآية سورة النحل من القدر النازل بالمدينة من تلك السورة.
أما مدلول «الرحيم» كون الرحمة كثيرةَ التعلق؛ إذ هو من أمثلة المبالغة؛ ولذلك كان يطلق على غير الله تعالى؛ كما في قوله تعالى في حق رسوله: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فليس ذكر إحدى الصفتين بمُغْنٍ عن الأخرى.
فتقديم الرحمن على الرحيم؛ لأن الصيغة الدالة على الاتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة الدالة على كثرة متعلقاتها.
• وإجراء هذين الوصفين العَلِيَّيْنِ على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين؛ لمناسبة ظاهرة للبليغ؛ لأنه بعد أن وُصِفَ بما هو مقتضى استحقاقه الحمدَ من كونه رب العالمين؛ أي: مُدبِّر شؤونهم، ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني، ناسب أن يتبع ذلك بوصفه بالرحمن؛ أي: الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدُر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم، فلما كان ربًّا للعالمين، وكان المربوبون ضعفاء، كان احتياجهم للرحمة واضحًا، وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحًا.
فإن قلت: إن الربوبية تقتضي الرحمة؛ لأنها إبلاغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، وذلك يجمع النعم كلها، فلماذا احتِيجَ إلى ذكر كونه رحمانًا؟ قلت: لأن الرحمة تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات، بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده، فكانت الربوبية نعمة، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمن؛ تنبيهًا على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر، فإنها مرفوقة باليُسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها، فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة؛ كالتمكين من الأرض، وتيسير منافعها، ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان؛ مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا كالطهارة وبث مكارم الأخلاق، ومنها ما منفعته للجمهور، فتتبعها رحمات الجميع؛ لأن في رحمة الجمهور رحمةً بالبقية في انتظام الأحوال كالزكاة.