الشهيد جل جلاله، وتقدست أسماؤه
الشَّهِيدُ
جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ
الدِّلالاتُ اللُّغَويَّةُ لاسمِ (الشَّهِيدِ):
الشَّهِيدُ في اللُّغةِ صيغةُ مبالغةٍ مِن اسمِ الفاعلِ الشَّاهدِ، فعْلُه شَهِدَ يشهَدُ شُهودًا وشَهادةً، والشُّهودُ هو الحضورُ مع الرؤيةِ والمشاهدةِ.
وعند أبي داود وحسَّنه الألبانيُّ مِنْ حديثِ أُبَيٍّ رضي الله عنه؛ أنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا الصُّبْحَ، فَقَالَ: «أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ: «أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ: «إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى المُنَافِقِينَ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ»[1].
والشَّهادةُ هي الإِخْبارُ بما شاهَدَه، شَهِدَ فلانٌ على فلانٍ بحقٍّ فهو شاهِدٌ وشهيدٌ، فالشَّاهِدُ يلزمُه أن يُبَيِّنَ ما عَلِمَهُ على الحقيقةِ، وعند البخاريِّ مِن حديثِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟»، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»، وَكَانَ مُتَّكِئًا فجلس، فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ»، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ[2].
والشَّهادةُ تأتي بمعنى الحُكْمِ كما وَرَدَ عند البخاريِّ من حديثِ زيدِ بن ثابتٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ أُمَّ العلاءِ رضي الله عنها قالت عند وفاةِ عثمانَ بنِ مظعونٍ رضي الله عنه: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكرَمَهُ؟» فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ فَمَنْ يُكرِمُهُ اللهُ… الحديث[3].
والشَّهيدُ سُبْحَانَهُ هو الرَّقيبُ على خلْقِه أينما كانوا وحيثُما كانوا، حاضِرٌ شهيدٌ أقربُ إليهم مِنْ حبلِ الوريدِ، يَسمَعُ ويرى وهو بالمنظرِ الأعلى وعلى العرشِ استوى، فالقلوبُ تعرفُه، والعقولُ لا تُكيِّفُه، وهو سُبْحَانَهُ فوقَ عرشِه على الحقيقةِ، وبالكيفيَّةِ التي تُناسِبُه، وشهادتُه على خلْقِه شهادةُ إحاطةٍ شاملةٍ كاملةٍ، تشملُ العِلمَ والرؤيةَ والتدبيرَ والقُدْرَةَ[4].
والشَّهيدُ أيضًا هو الذي شَهِدَ لنفسِه بالوَحْدانيةِ والقيامِ بالقِسْطِ كما قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، وشهادةُ الله لِنفسِه بالوَحْدانيةِ تضمَّنتْ عند السَّلفِ عدَّةَ مراتبَ.
قال ابنُ أبي العز: «وعباراتُ السَّلفِ في (شَهِدَ) تدُورُ على الحُكْمِ والقَضَاءِ والإعلامِ والبيانِ والإِخبارِ، وهذه الأقوالُ كلُّها حقٌّ لا تَنافيَ بينها، فإِنَّ الشَّهادةَ تتضمَّنُ كلامَ الشاهدِ وخبرَه، وتتضمَّن إِعلامَه وإِخبارَهُ وبيانَهُ، فلها أربعُ مراتبَ، فأوّلُ مراتبِها علمٌ ومعرِفةٌ واعتقادٌ لصِحَّةِ المشهودِ بِه وثُبوتِه، وثانيها تكلُّمُه بذلك وإِنْ لم يُعْلِمْ به غيرَهُ، بل يتكلَّم بها مع نفسِه ويتذكَّرُها ويَنطقُ بها أو يَكتبُها، وثالثُها أن يُعلِمَ غيرَه بما يَشهَدُ به ويخبرَهُ به ويبيِّنَه له، ورابعُها أَنْ يلزِمَهُ بمضمونِها ويأمرَه به، فشهادةُ اللهِ سُبْحَانَهُ لنفسِه بالوَحْدانيةِ والقيامِ بالقِسْطِ تضمَّنَتْ هذه المراتبَ الأربعَ، علمُه بذلك سُبْحَانَهُ وتكلُّمُهُ به وإعلامُه وإخبارُه لخلْقِه به وأمرُهم وإِلزامُهم به»[5].
فاللهُ شهيدٌ يشهَدُ بصدقِ المؤمنين إذا وحَّدوه، ويَشْهَدُ لرسلِه وملائكتِه، وفوق كلِّ شهادةٍ شهادتُه لنفسِه بالوَحْدانيةِ.
وُرودُه في القرآنِ الكريمِ[6]:
وَرَدَ هذا الاسمُ في القرآنِ ثماني عَشْرَةَ مرَّةً، منها قولُهُ تعالى: ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117].
وقولُهُ تعَالَى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ [الأنعام: 19].
وقولُهُ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [الحج: 17].
وقولُهُ: ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [سبأ: 47].
وقولُهُ: ﴿ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6].
وقولُهُ: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 166].
وقولُهُ: ﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 96].
معنى الاسمِ في حَقِّ اللهِ تعالى:
قال ابنُ جريرٍ: «﴿ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117]: وأَنْتَ تشهَدُ على كلِّ شيءٍ؛ لأَنَّه لا يخفى عليك شَيءٌ»[7].
وقال في: «﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]: واللهُ على حقيقةِ ما أقولُ لكم شهيدٌ يَشهَدُ لي بِهِ، وعلى غيرِ ذلك من الأشياءِ كلِّها»[8].
وقال الزَّجاجي: «فاللهُ عز وجل لما كانتِ الأشياءُ لا تَخْفى عليه، كان شهيدًا لها وشاهدًا لها؛ أي: عالمًا بها وبحقائِقِهَا، عِلْمَ المُشاهدَةِ لها؛ لأنه لا تَخْفَى عليه خافيةٌ»[9].
وقال الخطَّابيُّ: «هو الذي لا يَغيبُ عنه شَيْءٌ، يُقالُ: شاهِدٌ وشهيدٌ، كعالِمٍ وعليمٍ؛ أي: كأَنَّه الحاضِرُ الشَّاهِدُ الذي لا يَعْزُبُ عنه شَيءٌ، وقد قال سُبْحَانَهُ: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، أي مَنْ حَضَرَ منكم الشَّهْرَ فليصُمْهُ.
ويكونُ الشَّهيدُ بمعنى: العليمِ، كقولِهِ: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [آل عمران: 18]، قِيلَ معناه: عَلِمَ اللهُ.
وقال أبو العبَّاسِ أحمدُ بنُ يحيى[10] معناه: «بيَّن اللهُ أنَّهُ لا إلهَ إلا هو».
وهو أيضًا الشَّاهِدُ للمظلومِ الذي لا شَاهِدَ له ولا ناصِرَ، على الظَّالمِ المتعدِّي الذي لا مانعَ له في الدُّنيا، لينتصِفَ له منه» اهـ[11].
وفي المَقْصِدِ: (الشَّهيدُ) يرجعُ معناه إلى (العليمِ) مع خُصوصِ إضافةٍ، فإنَّه تعالى عالمُ الغيبِ والشَّهادةِ، والغيبُ عبارةٌ عمَّا بَطنَ، والشَّهادةُ عمَّا ظهرَ، وهو الذي يُشاهِدُ.
فإذا اعتُبِرَ العِلمُ مطلقًا فهو العليمُ.
وإذا أُضِيفَ إلى الغيبِ والأمورِ الباطنَةِ فهو الخبيرُ.
وإذا أُضِيفَ إلى الأُمورِ الظاهرةِ فهو الشَّهيدُ.
وقد يُعتبرُ مع هذا أَنْ يَشْهَدَ على الخلْقِ يومَ القِيَامةِ بما عَلِمَ وشَاهَدَ منهم.
والكلامُ في هذا الاسمِ يقرُبُ من الكلامِ في (العليمِ والخَبيرِ) فلا نعيدُه[12].
وقال ابنُ كثيرٍ: شَهيدٌ على أفعالِهم، حَفيظٌ لأقوالِهم، عليمٌ بسرائرِهم وما تُكنُّ ضمائرُهم[13].
وقال السَّعديُّ: (الشَّهيدُ)؛ أي: المُطَّلِعُ على جميعِ الأَشياءِ، سَمِعَ جميعَ الأصواتِ خفيَّها وجَليَّها، وأبصرَ جميعَ الموجوداتِ دقيقَها وجليلَها، صغيرَها وكبيرَها، وأحاطَ عِلْمُه بكلِّ شيءٍ، الذي شَهِدَ لعبادِهِ وعلى عبادِهِ بما عَمِلوه[14].
ثمراتُ الإِيمانِ بهذا الاسمِ:
1- إنَّ اللهَ عزَّ شأنُه هو عالِمُ الغيبِ والشَّهادةِ، لا يَخْفَى عليه شيءٌ وإِنْ دَقَّ وصَغُرَ، فهو سُبْحَانَهُ شهيدٌ على العبادِ وأفعالِهم، ليس بغائبٍ عنهم، كما قال سُبْحَانَهُ: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ [الأعراف: 6، 7].
قال الأصبهانيُّ: «فينبغي لكلِّ عاملٍ أرادَ عملًا صَغُرَ العملُ أو كَبُر، أنْ يقِفَ وقفةً عند دُخولِه فيه، فيعلمَ أَنَّ اللهَ شهيدٌ عليه فيحاسِبَ نفسَه، فإِنْ كان دخولُه فيه للهِ: مضى فيه، وإلا ردَّ نفسَهُ عن الدُّخُولِ فيه وتَرَكه»[15].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
فهو يَقْضِي بين عبادِه بعلمِهِ وسَمْعِه وبصَرِه الذي لم يُفارِقْهم في الدُّنيا طَرْفَةَ عينٍ، ولا يَحتاجُ سُبْحَانَهُ إلى الشُّهودِ؛ لأَنَّهُ على كل شَيءٍ شهيدٌ، كما جاءَ في جوابِ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لرَبِّه يومَ القِيامَةِ في قولِه تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 116، 117].
فإِنَّ عيسى يتبرَّأُ يومَ العَرْضِ من عُبَّادِ الصَّليبِ، الذين اتخذُوه وأُمَّهُ إلهين مع اللهِ، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظالمون عُلوًّا كبيرًا، بقولِه: سُبْحَانَكَ! ما أمرتُهم بهذا، وما يكونُ لي أَنْ أَنْطِقَ به، وإنما أمرتُهم بعبادتِك وَحْدَك لا شريكَ لك، وأنا إنما عاينتُ وشَهِدْتُ مِن أعمالِهم ما عَمِلوه وأنا بين أَظهُرِهم، فأمَّا ما وقَعَ بعدُ إِذْ رفعتني فإِنّي لم أشهَدْهُ ولم أعلَمْهُ، وأنت قد علِمْتَه وشَهِدْتَهُ وأنتَ على كلِّ شيءٍ شهيدٌ، ولا يغيبُ عنك شيءٌ[16].
2- اللهُ سبحانه وتعالى أعظمُ شيءٍ شهادةً، كما قال سُبْحَانَهُ: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 19]؛ فإِنَّ شهادتَهُ سُبْحَانَهُ لا غلَطَ فيها ولا ظُلْمَ تعالى عن ذلك.
قال ابنُ جريرٍ: «يقولُ اللهُ تعالى ذكْرُه لنبيّه مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: قل يا محمَّدُ لهؤلاءِ المشركين الذين يُكذِّبون ويَجْحَدون نبوَّتك من قومِك: أيُّ شَيءٍ أعظمُ شهادةً وأكبرُ، ثم أخبِرْهُم بأَنَّ أكبرَ الأشياءِ شهادةً، اللهُ الذي لا يجوزُ أَنْ يقعَ في شهادتِه ما يجوزُ أَنْ يقعَ في شهادةِ غيرِه من خلْقِهِ مِن السَّهو والخطأِ والغلطِ والكَذِبِ.
ثم قُلْ لهم: إِنَّ الذي هو أكبرُ الأشياءِ شهادةً، شهيدٌ بيني وبينَكُم بالمحِقِّ منَّا مِن المُبطِل، والرَّشيدِ منَّا في فعلِه وقولِه من السَّفيه، وقد رضينا به حَكَمًا بيننا» اهـ[17].
3- شَهِدَ اللهُ سبحانه وتعالى لِنفسِه بأَنَّه واحِدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ، لا شَريكَ له ولا وزيرَ، ولا نِدَّ ولا نَظيرَ، وشَهِدَ ملائكتُه وأولو العلمِ بذلك، كما في قولِه جلّ شأنُه: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
فتضمَّنَتِ الآيةُ أعظمَ شَهادةٍ مِن أعظمِ شَهيدٍ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله: «تضمَّنَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ: إِثباتَ حقيقةِ التَّوحيدِ، والرَّدَّ على جميعِ هذه الطوائفِ – التي فَصَّلَ عقائِدَها الباطلةَ قبل هذا – والشهادةَ ببطلانِ أقوالِهم، ومذاهبِهم، وهذا إنما يتبيَّنُ بَعْدَ فهمِ الآيةِ، ببيانِ ما تضمَّنَتْهُ مِن المعارفِ الإِلهيَّةِ، والحقائقِ الإِيمانيَّةِ.
فتضمَّنَتْ هذه الآيةُ: أجلَّ شهادةٍ وأعظمَها، وأعدلَها وأصدقَها مِن أجلِّ شاهدٍ، بأجلِّ مشهودٍ.
وعباراتُ السَّلفِ في (شَهِدَ) تدورُ على: الحُكمِ والقَضَاءِ والإِعْلامِ والبيانِ والإِخْبارِ.
قال مجاهدٌ: حكَمَ وقضَى.
وقال الزَّجاجُ: بيَّن.
وقالتْ طائِفَةٌ: أعلمَ وأخبرَ.
وهذه الأقوالُ كلُّها حقٌّ، لا تَنافيَ بينَها، فإِنَّ الشَّهادةَ تتضمَّنُ كلامَ الشَّاهِدِ، وخبَره وقولَهُ، وتتضمَّنُ إِعلامَهُ وإخبارَه وبيانَه، فلها أربعُ مراتبَ:
فأوَّلُ مراتِبها: علمٌ ومعرفةٌ، واعتقادٌ لِصحَّةِ المشهودِ به وثُبوتِه.
وثانيها: تكلُّمه بذلك ونطقُه به، وإن لم يُعلِمْ به غيرَه، بل يتكلَّمُ هو به مع نفسِه، ويذكرُها وينطِقُ بها، أو يكتبُها.
وثالثها: أن يُعلِمَ غيرَهُ بما شَهِدَ به، ويخبرَهُ بِهِ، ويبيِّنه له.
ورابِعُهَا: أَنْ يُلزِمَهُ بمضمُونِها، ويأمُرَهُ به.
فشهادةُ اللهِ سُبْحَانَهُ لنفسِه بالوحدانيةِ، والقيامِ بالقِسْطِ: تضمَّنَتْ هذه المراتبَ الأربعَ: علمُ اللهِ سُبْحَانَهُ بذلِكَ، وتكلُّمه به، وإِعلامُهُ، وإخبارُهُ خَلْقَهُ بِه، وأمرُهم وإِلزامُهم به.
أما مرتبَةُ العِلمِ: فإِنَّ الشهادةَ بالحقِّ تتضمَّنُها ضرورةً، وإلا كان الشَّاهِدُ شاهدًا بما لا عِلْمَ له به، قال اللهُ تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86].
وأما مرتبةُ التكلُّمِ والخبرِ: فمَنْ تكلَّم بشيءٍ وأخبرَ به فقد شَهِدَ به، وإِنْ لم يتلفَّظْ بالشَّهادةِ، قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ [الأنعام: 150].
وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 19]، فجعلَ ذلِك منهم شهادةً، وإِنْ لم يتلفَّظوا بلفظِ الشَّهادةِ، ولم يُؤدُّوها عند غيرِهم.
وسمَّى اللهُ تعالى إقرارَ العبدِ على نفسِه شهادةً، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [النساء: 135]، فشَهادةُ المَرْءِ على نفسِهِ: هي إقرارُ المَرْءِ على نفسِهِ، وفي الحديث الصحيح في قصَّةِ ماعزٍ: فلمَّا شَهِدَ على نفسِه أربعَ مرَّاتٍ رجمَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: ﴿ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 130].
وهذا وأَضْعَافُه يدُلُّ على أَنَّ الشَّاهِدَ عند الحاكمِ وغيرِه لا يُشترطُ في قَبُولِ شهادتِه أَنْ يتلَفَّظَ بلفظِ الشَّهادةِ، كما هو مذهبُ مالكٍ، وأهلِ المدينةِ، وظاهرُ كلامِ أحمدَ.
وأمَّا مرتبةُ الإِعلامِ والإِخبارِ: فنوعانِ: إعلامٌ بالقَولِ، وإعلامٌ بالفِعْلِ، وهذا شأنُ كلِّ مُعْلِمٍ لغيرِه بأمرٍ: تارةً يُعلِمُه بقولِه، وتارةً بفعلِه، ولهذا كان مَنْ جعَلَ دارًا مسجدًا وفتح بابهَا لكلِّ مَنْ دخل إليها، وأَذَّنَ بالصَّلاةِ فيها – مُعْلِمًا أنها وقفٌ، وإِنْ لم يتلفَّظْ بِهِ، وكذلك مَنْ وُجِدَ متقرِّبًا إلى غيرِه بأنواعِ المسَارِّ – مُعلِمًا له ولغيرِه: أَنَّهُ يُحِبُّه، وإِنْ لم يتلفَّظْ بقولِه، وكذلك بالعكسِ.
وكذلِكَ شهادةُ الرَّبِّ جل جلاله وتباركت أسماؤه وبيانُه وإِعلامُهُ: يكونُ بقولِه تارةً، وبفعلِه تارةً أُخرى، فالقولُ: هو ما أرسَلَ به رُسُلَهُ، وأنزل به كُتبَهُ، ممَّا قد عُلِمَ بالاضْطرارِ: أَنَّ جميعَ الرُّسُلِ أخبروا عن اللهِ أَنَّه شَهِدَ لنفسِه بأَنَّه لا إله إلا هو، وأخبرَ بذلك، وأمَرَ عبادَهُ أَنْ يشهدوا به.
وشَهادتُه سُبْحَانَهُ ﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ مَعْلومَةٌ من جهةِ كلِّ مَنْ بلَّغ عنه كلامَهُ.
وأما بيانُه وإِعْلامُه بفِعلِه: فهو ما تضمَّنه خبرُه تعالى عن الأَدِلَّةِ الدَّالةِ على وَحْدانيتِه التي تُعلَمُ دِلالتُها بالعقلِ والفِطْرَةِ.
وهذا أيضًا يُستعمَلُ فيه لفظُ الشَّهادةِ، كما يُستعمَلُ فيه لفظُ الدِّلالةِ، والإرشادِ والبيانِ، فإِنَّ الدليلَ يبيِّن المدلولَ عليه ويُظهِرُه، كما يبيِّنُه الشَّاهِدُ والمُخبِرُ بل قد يكون البيانُ بالفعلِ أظهرَ وأبلغَ، وقد يُسمَّى شاهدُ الحالِ نطقًا وقولًا له وكلامًا لقيامِه مقامَه، وأدائِه مؤدَّاهُ، كما قِيْلَ:
وقالتِ العينانِ: سمعًا وطاعةً وحَدَّرَتَا بالدُّرِّ لمَّا يُثَقَّبِ |
وقال الآخرُ:
شكا إليَّ جملي طُولَ السُّرى صبرًا جُمَيَلي، فكلانا مُبتَلى |
وقال الآخرُ:
امتلَأ الحوضُ، وقال: قَطْني مهلًا رويدًا قد ملأتَ بطني |
ويُسمَّى هذا شهادةً أيضًا، كما في قولِه تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾ [التوبة: 17]، فهي شهادةٌ مِنهُم عَلَى أنفسِهم بما يَفْعَلُون من أعمالِ الكُفْرِ وأقوالِه، فهي شهادةٌ بكفرِهم، وهُمْ شَاهدون على أنفسِهم بما شَهِدَتْ بها عليهم.
والمقصودُ: أَنَّه سُبْحَانَهُ يشهَدُ بما جعلَ آياتِه المخلوقةَ دالَّةً عليه.
فإِنَّ دلالتَها إِنَّما هي بخلْقِه وجعْلِه، يشهدُ بآياتِه القَوليَّةِ الكلاميةِ المطابقةِ لما شَهِدَتْ به آياتُه الخَلْقِيَّةُ، فتطابقَتْ شهادةُ القَولِ وشهادةُ الفِعْلِ، كما قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]؛ أي: أَنَّ القُرآنَ هوَ الحقُّ، فأخبرَ أَنَّه يدُلُّ بآياتِه الأفُقيِّةِ والنفسيَّةِ على صِدْقِ آياتِه القوليَّةِ الكلاميَّةِ.
وهذه الشَّهادةُ الفعليَّةُ: قد ذكرها غيرُ واحدٍ من أَئِمَّةِ العربيةِ والتفسيرِ.
قال ابنُ كَيْسانَ: شَهِدَ اللهُ بتدبيرِه العجيبِ، وأمورِه المُحكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ: أَنَّهُ لا إله إلا هو.
وأما المرتبَةُ الرَّابِعَةُ: وهي الأمرُ بذلك والإِلزامُ به: وإِنْ كانَ مُجرَّدَ الشَّهادةِ لا يَستلزِمُه، لكنَّ الشَّهادةَ في هذا الموضعِ تدُلُّ عليه، وتتضمَّنُه، فإِنَّه سُبْحَانَهُ شَهِدَ به شهادةَ مَنْ حكمَ به، وقَضَى وأمَرَ، وألزَمَ عبادَه به كما قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [النحل: 51]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ [الإسراء: 22]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ [الشعراء: 213]، والقرآنُ كلُّه شاهِدٌ بذلك.
ووجه استلزَامِ شهادتِه سُبْحَانَهُ لذلك: أَنَّه إذا شَهِدَ ﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ فقد أخبرَ، وبيَّنَ، وأعلمَ وحكَمَ وقَضَى: أَنَّ ما سِواه ليس بإلهٍ، وأَنَّ إلهيةَ ما سِواهُ أبطلُ البَاطِلِ، وإثباتَها أظلمُ الظُّلمِ، فلا يستحقُّ العبادةَ سِواهُ، كما لا تصلحُ الإلهيةُ لغيرِه، وذلك يستلزمُ الأمرَ باتخاذِهِ وَحْدَهُ إلهًا، والنهيَ عن اتخاذِ غيرِه معه إلهًا، وهذا يفهَمُه المُخاطَبُ مِنْ هذا النفي والإِثباتِ، كما إذا رأيتَ رجلًا يَستفتِي، أو يَسْتَشْهِدُ، أو يستَطِبُّ مَنْ ليس أهلًا لذلك، ويَدَعُ مَنْ هو أهلٌ، فتقولُ له: هذا ليس بمُفتٍ، ولا شاهدٍ، ولا طبيبٍ، المفتي فلانٌ، والشَّاهِدُ فلان، والطبيبُ فلان، فإن هذا أمرٌ منك ونهيٌ.
وأيضًا فإن الآية دلَّت أنه وَحْدَه هو المستحِقُّ للعبادةِ، فإذا أخبرَ أَنَّه وَحْدَه المستحِقُّ للعبادةِ تضمَّنَ هذا الإخبارُ أمرَ العبادِ وإلزامَهم بأداءِ ما يَستحِقُّه الربُّ تعالى عليهم، وأَنَّ القيامَ بذلك هو خالصُ حَقِّهِ عليهم، فإذا شَهِدَ سُبْحَانَهُ أنه لا إله إلا هو تضمَّنَتْ شهادتُه الأمرَ والإِلزامَ بتوحيدِهِ.
وأيضًا: فلفظُ الحُكْمِ والقَضَاءِ يُستعمَلُ في الجملِ الخبرِيَّةِ، ويُقالُ للجُملِ الخبريّةِ: قَضيَّةٌ وحُكْمٌ، وقد حُكِمَ فيها بكيت وكيت، قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [الصافات: 151 – 154]، لكن هذا حكمٌ لا إلزامَ معه، والحكمُ والقضَاءُ بأنَّه لا إلهَ إلا هو: متضمِّنٌ للإِلزامِ، واللهُ سُبْحَانَهُ أعلمُ» اهـ[18].
4- يجوز إطلاقُ هذا الاسمِ على الخَلْقِ؛ فقد سمَّى اللهُ عز وجل الرسولَ صلى الله عليه وسلم وأمتَهُ بذلك في آياتٍ منها: قولُه سُبْحَانَهُ: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
وقولُه: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، وغيرُهما.
وسمَّاهُمُ اللهُ تعالى شهداءَ لأنَّهم يشهدون على الأُممِ يومَ القيامةِ[19]، ومَنْ قُتِلَ في سبيل اللهِ يُسمَّى بالشهيدِ[20].
وسَمَّى اللهُ تعالى الإنسانَ عمومًا بالشَّهيدِ، مِن جهةِ أَنَّه يشهَدُ على نفسِه، ويعلمُ منها ما لا يعلمُه غيرُه، في قولِه تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴾ [العاديات: 6، 7][21].
المعاني الإيمانيَّةُ:
1- تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 79]، عَقِبَ قولِهِ: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 79].
وذلك يتضمَّنُ أشياءَ:
منها: تنبيهُ أُمَّتِه على أَنَّ رسولَهُ الذي شَهِدَ له بالرِّسالةِ إذا أصابَهُ ما يكرَهُ فمِنْ نفسِهِ فما الظَّنُّ بغيرِه.
ومنها: أَنَّ حُجَّةَ اللهِ قد قامَتْ عليهم بإرسالِهِ، فإذا أصابَهُمْ سُبْحَانَهُ بما يسُوؤهم لم يكُنْ ظالمًا لهم في ذلك؛ لأنه قد أرسَلَ رسولَه إليهم يُعلِمُهم بما فيه مصالِحَهم وما يجلبها عليهم، وما فيه مضرَّتُهم وما يجلبها عليهم، فمَنْ وجد خيرًا فليحمدِ اللهَ ومَنْ وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَهُ.
ومنها: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قد شَهِدَ له بالرِّسالةِ بما أظهرَهُ على يديهِ مِنَ الآياتِ الدَّالةِ على صدقِه وأنَّه رسولُه حقًّا، فلا يضرُّهُ جحدُ هؤلاءِ الجاهلينَ الظالمينَ المتطيِّرينَ به لرسالتِهِ وهو مَنْ شَهِدَ له ربُّ السَّماواتِ والأرضِ.
ومنها: أنهم أرادوا أَنْ يجعلوا سيِّئاتِهم وعقوباتِهم حُجَّةً على إبطالِ رسالتِه فشَهِدَ له بالرِّسالةِ وأخبرَ أَنَّ شهادتَهُ كافيةٌ.
فكان في ضِمْنِ ذلك إبطالُ قولِهم: إِنَّ المصائِبَ من عندِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وإثباتُ أَنَّها مِنْ عندِ أنفسِهم بطريقِ الأَولى.
ومنها: إبطالُ قولِ الجهميَّةِ المُجبِرةِ ومَنْ وافقَهُمْ في قولِهم: إِنَّ اللهَ قد يُعذِّبُ العبادَ بلا ذَنْبٍ.
ومنها: إبطالُ قولِ القَدَرِيَّةِ الذين يقولون: إِنَّ أسبابَ الحسناتِ والسيِّئاتِ ليسَتْ مِن اللهِ بل هي مِنَ العبدِ.
ومنها: ذَمُّ مَنْ لم يتدبَّرِ القرآنَ ولم يفقَهْهُ، وأَنَّ إِعراضَهُ عن تدبُّرِه وفقهِهِ يوجبُ له من الضَّلالِ والشَّقاءِ بحسَبِ إعراضِه.
ومنها: إثباتُ الأسبابِ وإبطالُ قولِ مَنْ يَنفيها ولا يَرى لها ارتباطًا بمسبَّباتِها.
ومنها: أَنَّ الخيرَ كلَّهُ مِنَ اللهِ والشَّرَّ كلَّه مِنَ النَّفسِ، فإِنَّ الشَّرَّ هو الذُّنوبُ وعقوبتُها، والذنوبُ من النفسِ وعقوبتُها مترتِّبةٌ عليها، والله هو الذي قَدَّرَ ذلك وقضَاهُ، كلٌّ مِن عندِه قضاءً وقدرًا وإن كانت نفسُ العبدِ سببَه، بخلافِ الخيرِ والحسَناتِ فإِنَّ سبَبها مجرَّدُ فضلِ اللهِ ومنِّهِ وتوفيقِه كما تقدَّم تقريرُه.
ومنها: أَنَّه سُبْحَانَهُ لما رَدَّ قولَهُمْ: إِنَّ الحسنَةَ مِنَ اللهِ والسَّيئةَ من رسولِه وأبطلَهُ، بقوله: ﴿ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 78].
رَفَع وَهْمَ مَنْ توَهَّمَ أَنَّ نفسَهُ لا تأثيرَ لها في السيِّئةِ ولا هي منها أصلًا، بقوله: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79].
وخاطبَهُ بهذا تنبيهًا لغيرِهِ كما تقدَّمَ.
ومنها: أنه قال في الردِّ عليهم: ﴿ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 78].
ولم يَقُلْ: مِنَ اللهِ، لمَّا جمعَ بين الحسناتِ والسَّيئاتِ، والحسَنةُ مضافةٌ إلى اللهِ مِنْ كلِّ وجهٍ، والسيئةُ إنما تضافُ إليه قضاءً وقدرًا وخَلْقًا، وأنَّهُ خالِقُها كما هو خالقُ الحسَنةِ، فلهذا قال: ﴿ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 78].
وهو سُبْحَانَهُ إنما خَلقَها لحكمةٍ فلا تُضافُ إليه من جهةِ كونِها سيِّئةً، بل مِن جهةِ ما تضمَّنتهُ مِنَ الحكمةِ والعدلِ والحمدِ، وتُضافُ إلى النَّفسِ من جهةِ كونِها سيئةً.
ولمَّا ذكرَ الحسنةَ مفردةً عن السيِّئةِ قال: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 79].
ولم يَقُلْ: مِن عندِ اللهِ، فالخيرُ منه وإنَّه موجبُ أسمائِه وصفاتِه، والشرُّ الذي هو بالنسبة إلى العبدِ شرٌّ مِن عندِه سُبْحَانَهُ فإنه مخلوق له عدلًا منه وحكمةً.
ثُمَّ قال: ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79].
ولم يَقُلْ: مِن عندِك، لأَنَّ النفسَ طبيعتُها ومُقتضَاها ذلك فهو مِنْ نفسِها، والجميعُ مِن عندِ اللهِ.
فالسَّيئةُ مِن نفسِ الإنسانِ بلا رَيْبٍ، والحسَنةُ مِن اللهِ بلا ريْبٍ، وكلاهما مِن عِنْدِه سُبْحَانَهُ قضاءً وقدَرًا وخلْقًا.
ففَرْقٌ بين ما مِنَ اللهِ وبين ما مِنْ عندِه.
والشرُّ لا يُضافُ إلى اللهِ إرادةً ولا محبةً ولا فعلًا ولا وصفًا ولا اسمًا، فإِنَّه لا يُريدُ إلا الخيرَ ولا يُحِبُّ إلا الخيرَ ولا يفعلُ شرًّا ولا يوصَفُ به ولا يُسمَّى باسمِه[22].
2- حال السَّابقِ بالخيراتِ عند قيامِه مِن نومِه، ولهذا القربِ مِن الإمامِ تأثيرٌ في صلاةِ الفجرِ خاصَّةً يعرِفُهُ مَنْ عرَفَ قولَهُ تعالى: ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78]، قِيلَ: يشهَدُه اللهُ عز وجل وملائكتُه، وقيل: يشهدُه ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النَّهارِ، فيتفقُ نزولُ هؤلاءِ البدَلِ عند صعودِ أولئك فيجتمعون في صلاةِ الفجرِ، وذلك لأنَّها هي أولُ ديوانِ النَّهارِ وآخرُ ديوانِ الليلِ فيشهَدُه ملائكةُ الليلِ والنَّهارِ، واحتُجَّ لهذا القولِ بما في الصحيحِ من حديثِ الزُّهْريِّ، عن أبي سلمةَ، عن أبي هُريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ صَلَاةِ الجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الوَاحِدِ خَمْسٌ وَعُشْرُونَ دَرَجَةً» ويجتمعُ ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ في صلاةِ الفجرِ لقولِ أبي هُريرةَ: «واقرؤوا إِنْ شِئتم ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾»، رواه البخاري في الصحيح[23].
قال أصحابُ القولِ الأوَّلِ: وهذا لا يُنافي قولَنا وهو أَنْ يكونَ اللهُ سُبْحَانَهُ وملائكةُ الليلِ والنَّهارِ يَشهدون قرآنَ الفجرِ، وليس المرادُ الشَّهادةَ العامَّةَ فإِنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ شهيدٌ، بل المرادُ شهادةٌ خاصَّةٌ وهي حُضورٌ ودنوٌّ متَّصِلٌ بدنوِّ الربِّ ونزولِه إلى سماء الدُّنيا في الشَّطرِ الأخيرِ من الليلِ.
قال اللهُ عز وجل: ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾؛ يشهدُه اللهُ عز وجل وملائكتُه ملائكةُ الليلِ والنَّهارِ، ففي هذا الحديثِ أَنَّ النزولَ يدومُ إلى صلاةِ الفجرِ، وعلى هذا فيكونُ شهودُه سُبْحَانَهُ لقرآنِ الفجرِ مع شهودِ ملائكةِ الليلِ والنَّهارِ له، وهذه خاصَّةٌ بصلاةِ الصُّبحِ ليسَتْ لغيرِها مِن الصلواتِ، وهذا لا يُنافي دوامَ النزولِ في سائرِ الأحاديثِ إلى طلوعِ الفَجْرِ، ولا سيما وهو مُعلَّقٌ في بعضِها على انفجارِ الصُّبحِ، وهو اتِّساعُ ضوئِه، وفي لفظٍ: «حتى يُضيءَ الفجرُ» وهذا دليلُ لفظِ «حتى يسطعَ الفجرُ» وذلك هو وقتُ قراءةِ الفجرِ، وهذا دليلٌ على استحبابِ تقديمِها مع مواظبةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخلفائِه الراشدين على تقديمِها في أوَّلِ وقتِها، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ فيها بالسِّتِّينِ إلى المائةِ ويُطيلُ ركوعَها وسجودَها وينصرفُ منها والنساءُ لا يُعرفن مِن الغَلَسِ، هذا لا يكونُ إلا مع شدَّةِ التقديمِ في أوَّلِ الوقتِ لتقعَ القراءةُ في وقتِ النُّزولِ فيحصُلُ الشهودُ المخصوصُ، مع إنه قد جاءَ في بعضِ الأحاديثِ مصرَّحًا به دوامُ ذلك إلى الانصرافِ من صلاةِ الصُّبحِ رواه الدارقطني، في كتاب نزولِ الربِّ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا، مِن حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هُريرةَ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «يَنْزِلُ اللهُ عز وجل إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لِنِصْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ أَوِ الثُّلُثِ الآخِرِ يَقُولُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ أَوْ يَنْصَرِفَ القَارِئُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ».
رواه عن محمدٍ جماعةٌ: منهم سليمانُ بنُ بلالٍ، وإسماعيلُ بنُ جعفرٍ، والدراوردي، وحفصُ بنُ غياثٍ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وعبدُ الوهابِ بنُ عطاءٍ، ومحمدُ بنُ جعفرٍ، والنَّضْرُ بنُ شُمَيل؛ كلُّهم قال: «أَنْ يَنْصَرِفَ القَارِئُ مِنْ صَلَاةِ الفَجْرِ» فإِنْ كانت هذه اللفظةُ محفوظةً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهي صريحةٌ في المعنى، كاشفةٌ للمرادِ، وإِنْ لم تكُنْ محفوظةً وكانت شَكَّ الراوي هل قال هذا أو هذا فقد قدَّمنا أنه لا منافاةَ بين اللفظينِ، ولأَنَّ حديثَ اللَّيثِ بنِ سعدٍ، عن محمَّدِ بن زيادةَ يدلُّ على دوامِ النزولِ إلى وقتِ صلاةِ الفَجْرِ، وأَنَّ تُعلّقَه بالطلوعِ لكونه أولَ الوقتِ الذي يكونُ في الصعودِ، كما رواه يونس بنُ أبي إسحقَ، عن أبيه، عن الأغرِّ أبي مُسلم قال: شهدتُ على أبي هُريرةَ، وأبي سعيدٍ الخدري؛ أنهما شهدا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قال: «إِنَّ اللهَ عز وجل يُمهِلُ حَتَّى إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ هَبَطَ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِ السَّمَاءِ فَفُتِحَتْ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغِيثٍ أُغِيثَهُ؟ هَلْ مِنْ مُضْطَرٍّ أَكْشِفَ عَنْهُ؟ فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ مَكَانَهُ حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ»، قال الدارقطني: فزاد فيه يونسُ بنُ أبي إسحاقَ زيادةً حسنةً، والمقصودُ: ذِكْرُ القربِ مِن الإمامِ في صلاةِ الفجرِ وتقديمُها في أولِ وقتِها، والله أعلم[24].
[1] أبو داود في كتاب الصلاة، باب: في فضل صلاة الجماعة (1/ 151) (554)، وانظر حكم الألباني على الحديث في مشكاة المصابيح حديث رقم (1066).
[2] البخاري في الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر (5/ 2229) (5631).
[3] البخاري في الجنائز، باب: الدُّخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه (1/ 419) (1186)، وانظر في المعنى اللغوي: لسان العرب (3/ 238)، وكتاب العين (3/ 398).
[4] وجامع البيان (7/ 5390).
[5] شرح العقيدة الطحاوية (ص: 89).
[6] النهج الأسمى (1/ 440 – 451).
[7] جامع البيان (7/ 90)، وبنحوه في (17/ 98).
[8] المصدر السابق (22/ 71).
[9] اشتقاق الأسماء (ص: 132).
[10] هو المعروف بثعلب، انظر: تفسير ابن جرير (3/ 139)، وغيره.
[11] شأن الدُّعاء (ص: 75 – 76).
[12] المقصد الأسنى (ص: 79)، ونحوه في النهاية (2/ 513).
[13] التفسير (3/ 210)، وهو بنحو قول الأصبهاني في الحجَّة (ق 23 أ) إذ يقول: الشهيد على العباد بأعمالهم وأحوالهم، قال الله عز وجل: ﴿ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ [يونس: 61].
[14] تيسير الكريم (5/ 303).
[15] الحجَّة (ق 23 ب).
[16] وقريبٌ مِن هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله حفاةً عراةً غُرلًا»، ثم قال: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾، إلى آخر الآية، ثم قال: «ألا وإِنَّ أوَّلَ الخلائقِ يُكسى يومَ القيامة إبراهيمُ، ألا وإنه يُجاء برجالٍ مِن أمَّتي فيؤخذُ بهم ذاتَ الشِّمال فأقولُ: يا رب أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أَحدَثوا بَعدَك، فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 117، 118] ، فيُقالُ: إَنَّ هؤلاءِ لم يزالوا مُرتدِّين على أعقابِهم منذ فارقتهم» رواه البخاري (8/ 286)، ومواضع أُخَر، ومسلم (4/ 2194 – 2195)، فإنه صلى الله عليه وسلم يَتبرَّأُ ممَّنْ ارتدَّ عن هذا الدِّينِ بَعدَه، وممَّنْ أَحدثَ فيه ما ليس منه مِن المبتدعةِ، ويَكِلُ أمرَهُمْ إلى (الشهيد) سبحانه، فإنه بأحوالهم أَعلَم، وبما كانوا عليه أَشهَد.
[17] جامع البيان (7/ 103).
[18] التفسير القيم (ص: 174 – 179) مع اختصار.
[19] أخرج البخاري (8/ 171 – 172)، (13/ 316)، والترمذي (5/ 207) عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدْعَى نوحٌ يومَ القيامةِ فيقول: لبَّيك وسعدَيك يا ربِّ، فيقول: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا مِن نذير، فيقول: مَن يَشهد لك؟ فيقول: محمدٌ وأمَّته، فيشهدون أنه قد بلَّغَ، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾، الوسط: العدل».
[20] ذكر الرازي في سبب تسميته بذلك وجوهًا:
الأول: أَنَّ ملائكةَ الرحمنِ يحضرون، ويرفعون روحه إلى منازل القُدس، فيكون فعيلًا بمعنى مفعول.
الثاني: يسمَّى شهيدًا مبالغة مِن الشاهد، ومعناه أنه شاهدُ لطفِ اللهِ ورحمتِه وما أعدَّ له مِن الدرجات.
الثالث: قال النضر بن شميل: الشهيد هو الحي؛ لأن كل مَن كان حيًّا كان شاهدًا ومشاهدًا للأحوال، والشهيد حيٌّ بَعد أن صار مقتولًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾[آل عمران: 169]
الرابع: سمِّي شهيدًا لأنه شهد الوقعة في المعركة.
الخامس: سمِّي شهيدًا لأنه مِنْ جملة مَنْ سيشهدُ يومَ القيامةِ على الأممِ الخاليةِ، قال تعالى: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]، شرح الأسماء (ص: 288).
ولا يخفى ما في القول الرابع مِن ضعف إذ ليس كلُّ مَنْ شهد المعركةَ يسمَّى شهيدًا.
[21] وهذا على تفسير مَن فسَّر الشهيدَ هنا بأنه الإنسان، وقيل: هو الله سبحانه شهيدٌ على ابن آدم بما يعمل انظر: تفسير القرطبي (20/ 162).
[22] شفاء العليل (ص: 298).
[23] رقم (649) في كتاب الأذان، باب: فضل صلاة الفجر في جماعة.
[24] طريق الهجرتين (ص: 325).