إضاءة حول آخر آية من سورة يونس (خطبة)
إضاءة حول آخر آية من سورة يونس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
قد قال الله سبحانه في كتابه العزيز في آخر آية من سورة يونس التي ذَكَرَ الله عز وجل فيها دلائل التوحيد، وبراهينه، وآثاره وثمراته، وأشهد بمنزلة القرآن العظيم:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 37].
﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57].
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
وما ذُكِرَ في هذه السورة الكريمة عن المشركين وخصوماتهم الدالة على الجحود والإنكار، وعلى الصدود والاستهزاء، وعن مقالاتهم الفاسدة، وآرائهم الكاسدة، وما ذُكِرَ فيها من قصص نوح وموسى عليهما السلام، وما جرى لهما من أقوامهما، وكيف أهلك الله عز وجل قوم نوح وقوم فرعون، وما ذكر الله عز وجل عن القوم الذين قَسَتْ قلوبهم، وتجافت عن الحق عقولُهم:
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].
ختم الله عز وجل هذه السورة المباركة بقوله:
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109]، أمَرَ الله سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم ومصطفاه – والأمة تَبَعٌ له – بما فيه نجاته من مضلَّات الفتن والشرور، وبما فيه ثباته على الإيمان والحق المبين.
ويتجلى في هذه الآية أن درب السائرين إلى الله عز وجل يُحتاج فيه إلى ثبات وصبر، وإلى عزيمة وصدقة، وإلى إخلاص ويقين، وأن الله سبحانه خَلَقَ عباده ليبلوَهم أيهم أحسن عملًا: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 14].
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ))؛ [مسلم 2564].
والمنهج الذي يسير عليه المسلم – عبادَ الله – هو صراط الله المستقيم الذي عنوانه اتباع الوحي: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ [يونس: 109].
والوحي إما علم نافع أو عمل صالح؛ إذ الإيمان لا يكون إلا بالعلم والعمل: علم القلب وعمله، وعمل اللسان والجوارح، ثم إن هذا الاتباع لا يُمدح عليه المرء إلا إذا ثبت وصبر واستمر؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ ﴾ [يونس: 109]، وحقيقة الصبر – عباد الله – الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله عز وجل المؤلمة.
وثباتُك – أيها المسلم – لا يكون إلا بكتاب الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا *وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 32، 33].
والصبر على أعباء الدعوة والثبات على الدين لا يكون إلا باليقين بوعد الله ووعيده؛ إذ الإمامة في الدين لا تُنال إلا بالصبر واليقين؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
﴿ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 109]: واصبر حتى يحكم الله عز وجل بالنصر وقهر الأعداء، وإظهار الدين والفتح المبين، وهذا يدل على أن الصراع دائر بين الحق والباطل، بين الجماعة المؤمنة وبين المخالفين للحق المبين، وهم الكافرون بالله، التاركون لشريعة الله، فالمؤمن ثابت على الحق، متمسك بالوحي، صابر على مخالفة مَن خالفه من الناس، والمؤمن الذي يتعرض لأذى الناس لإيمانه ودينه، أو المؤمن الذي يُنال من عِرْضه وماله من أجل إسلامه، أو المؤمن الذي أُخِذَت أرضه وبُغِيَ عليه، ﴿ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109]، وسيرى من حكم الله العادل ومشيئته النافذة ما تقَرُّ به عينه، وما يفرح به قلبه، ويُذهِب الله عز وجل تعالى غَيظَ قلبه.
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما سمعنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه من كل ذنب يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم ملاقو الله، فقدِّموا لأنفسكم ما يقرِّبكم إلى الله والجنة، ويباعدكم عن سخطه والنار: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، ثم اعلموا أن في قوله سبحانه: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109] ثلاثَ حقائق:
الأولى: الاتباع للوحي: ويكون هذا الاتباع في جميع شؤون العبد؛ من الاعتقاد والعمل الصالح والتبليغ، على وجه الثبات والتجدد والاستمرار.
الحقيقة الثانية: الصبر على ما يعتري الإنسان من مشاقِّ التبليغ وأذى مَن ضَلَّ؛ روى البخاري من حديث خباب بن الأرتِّ رضي الله تعالى عنه قال: ((شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، فَقُلْنا: ألَا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ))؛ [البخاري].
فاصبر – عبدَالله – على الحق، اصبر على الإيمان، لا تَمَلَّ وانتظر الفَرَج من الله، فالدرب طويل، والوعد حق، والعاقبة للمتقين، وإن الله مُوهِنُ كيدِ الكافرين.
أما الحقيقة الثالثة، فهي حُكْمُ الله تعالى، فإنه كائن لا محالة، سيقع حكمه، ويفرح المؤمنون بنصر الله: ﴿ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ [التين: 7، 8]، ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109]، عندما يحكم الله عز وجل بالنصر والظَّفَر في الدنيا، وعندما يحكم بين عباده في الآخرة من حكمه الجزائي: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7]، ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، والزيادة هي النظر إلى وجه الله، ﴿ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26]، جعلنا الله وإياكم من أهلها.
﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 27]، أجارنا الله وإياكم من النار.
نسأل الله تعالى أن يمُنَّ علينا بهداية من عنده، وأن يغفر لنا ويرحمنا.