خارطة الطريق = رحلة البحث عن معنى
خارطة الطريق = رحلة البحث عن معنى
في دائرة من الاكتئاب الليلي والصمت الحزين الهادئ تطرق إلى مخيلتي أسئلة دائرة لا متناهية من الأسئلة الصماء دون إجابات! أسئلة من النوع الذي يسبب قلقًا مضنيًا وأرقًا مزمنًا، وعلى رأس هذا الركام الهرمي من الأسئلة يتجلَّى سؤال الهُوية؛ لماذا أنا هنا الآن؟ أو كما سمعته من صدى عقلي القلق “أنا عايش ليه؟!“
سبحت وسط ركام الأسئلة هذا بحثًا عن الإجابة المقنعة التي ترفع الحرج عن عقلي الذي أعلن إفلاسه فكريًّا، فلم يعد يملك أدنى حدٍّ من المنطقية في إجابته!
بعد مُضي وقتٍ طويل، وصمت هزيل، ورأس مشوش، بدأ يلوح في خاطري همسٌ من الأفكار وكأنه صَدَر عن شخص غيري، كان أكثر منطقيةً وإقناعًا فيما يبدو لي.
انقض هذا المنقض ينتقد السؤال كحلٍّ بديل للبحث عن إجابة! شكَّك في صحة الصيغة التي تَكَوَّن بها السؤال: “أنا عايش ليه؟!”؛ لأن من يُسأل عن سبب (علة) وجود الشيء هو المتسبب في وجوده، وليس الإنسان هو من أتى بنفسه إلى الدنيا، فهو لم يختر!
مثال بسيط:
لك أخ أتى بسيارة جديدة وأنت تعلم أنه يمتلك غيرها وليس في السيارة الجديدة ما يُميِّزها فيما يبدو لك، فالمنطقي أن تسأل: لماذا جئت بهذه السيارة؟
السؤال لم يتخلَّ عن المنطق كما أنك وجهته بدهيًّا إلى أخيك ولم توجِّهه إلى السيارة نفسها!
كذلك الأمر فمن أتى بالإنسان إلى الأرض ليس الإنسان نفسه، بل آخر، وهو الإله، وهذا الإله هو من لديه العلم، وهو من تجد عنده إجابة سؤالك الحائر.
فهل بَيَّن الإله (الله سبحانه وتعالى) السبب؟ هذا السؤال إذًا، وكذلك يكون.
أما سؤال: لماذا نحن هنا؟ = البحث عن معنى الحياة من دواخل الإنسان، فهو طريق ضالٌّ منقطع، لا يصل من يسلكه إلى غاية نافعة أو إجابة مانعة!
سلك هذا المسلك الكثير من الفلاسفة الفضلاء ونعترف ونقرُّ بفضلهم ولو كنا نتبنَّى مسلكًا مغايرًا لما سلكوه، فلا يمنعنا هذا من الاعتراف بمجهودهم المبذول في هذا الأمر.
إذًا من الجيد أن نثبت من جانبنا أننا سنبحث عن الإجابة للسؤال في صيغته التي اتفقنا عليها سلفًا بين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكتب الفقه وكلام الصحابة.
ولنعتبرها سردية بديلة عن السير وراء أحاديث الفلاسفة، ونبحث ونبحر في روافدنا نحن وثقافتنا نحنُ وعلمنا نحنُ.
توسيع نطاق النظر.
السر في ذلك سببه أن معظم الفلاسفة ليس لديهم نفس المرجعية التي لدى المسلم؛ فمرجعية المسلم الوحي يضبط له المسائل والبوصلة والمفاهيم.
أما الكثير من الفلاسفة كان يقتصر تعريفهم للحياة على الجانب المادي منها؛ أي: الذي يعايشونه بالفعل.
فقط تلك الحياة المتمثلة فيما لا يزيد عن سبعين عامًا يلهث فيهن وراء البحث عن معنى.
أما المرجعية المتكوِّنة سلفًا لدى الإنسان المؤمن فتجعل نطاق النظر أكثر اتساعًا حيث تتمثل في: ما قبل الخلق، “الحياة الدنيوية”، والحياة الأخروية.
فهذه الحياة التي يعترف بها المؤمن تمكنه من تفسير سبب وجوده أو على الأقل تكشف له ما يجب عليه أن يفعله لكي ينجو من الحياة الدنيا، ويعبر إلى الحياة الأخروية التي هي في الأصل مبتغاه من قبل أن يكون!
وبهذه الرؤية الثلاثية للحياة بمختلف أمكنتها وزمانها وحقيقتها يتكوَّن وعي الفرد المؤمن، وتتكوَّن لديه مرجعية خاصة به تقوم على أساس الوحي، وتضبط له بوصلته في الحياة.
أما عن توجيه السؤال: لماذا نحن هنا؟ إلى المتسبب في الوجود، وهو الله عز وجل، فهو أمر غير ممكن وغير لائق أن يكون، ويتطلب الأمر الإيمان بالله أولًا حتى يمكن الإيمان بهذا.
فهناك فارق كبير بين ذات الله عز وجل وبين الذات الإنسانية!
فكيف للمخلوق أن يسأل الخالق؟ ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
وأنقل هنا بعض السطور من مقالة نافعة قد اطَّلعت عليها سابقًا:
“فالأصلُ في الإنسان أن يسعى لمعرفة الإجابات عن الأسئلة التي تؤثِّر الإجابة عنها في مسار حياته، فعليه أولًا أن يوفِّر إجابة عن أسئلة الفطرة الأربعة الأساسية: من أين جاء؟ لماذا يعيش؟ ما المنهج الذي يجب اتباعه في الحياة؟ إلى أين يمضي بعد الموت؟” عنوان المقال: لماذا خلقنا الله؟ هل نحتاج إلى إجابة؟ شريف محمد جابر.
وأقتبس أيضًا من كتاب (لماذا نحن هنا؟) للكاتب والباحث إسماعيل عرفة النص الآتي:
“لذا فإنَّ الأسئلة الوجودية التي تُؤرِّق الإنسانَ ليست أسئلة مشروعة فحسب، وإنَّما هي أسئلة ضرورية ملازمة للوجود الإنساني؛ لأنَّ هذا القلق الوجودي هو ما يُميِّزُ الإنسان عن بقية المخلوقات من الأساس، والإنسان ذو البُعد الواحد، بتعبير عبدالوهاب المسيري رحمه الله: هو الذي يرفض الأسئلة الوجودية، ولا يهتم بتجاوز العالـم المادي الآني الذي يعيش فيه، فينغلق على النسق المادي الدنيوي، ولا يعترف إلَّا بالدنيا والملاحظة والحس، ثم يعد كل ما دون ذلك من ميتافيزيقا أو تفكير في الموت والوحي، ونحو ذلك، أمورًا لا تستحق أن نلقي لها بالًا؛ لأنَّها أمورٌ هامشية لا أهمية لها من الأساس، ولن تُفيدَنا في تحديد ماهية ذواتنا وكيفية معيشتنا”.
ولكن لا يتسرَّب لنا رياح اليأس بعد ما قررناه؛ بل نضْبط من خلال ما سبق الاتجاه الصحيح، فبعدما غيرنا صيغة السؤال في المرة الأولى، وبعد الإقرار بمرجعية الوحي الكريم نأتي في الخطوة هذه ونتخلَّى تمامًا عن السؤال! ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
نحن تخلينا عن السؤال ولم نتخلَّ عن المطلب المرجو منه؛ ألا وهو “فهم أسباب الوجود = أو الصيغة الأكثر صحةً” نفهم ما يجب علينا فعله خلال هذه المرحلة “الحياة الدنيا” – بعدما قررنا الصور الثلاثة للحياة – وعلمنا أن هدف الوجود على الأرض أنه في الحقيقة ليس وجودًا إنما عبورٌ إلى الحياة الآخرة!
فما الذي يجب علينا فعله لكي نعبر بسلام إلى ضفة الحياة الآخرة؟ وهذا هو السؤال، وكذلك يكون.
نضبط إذًا المرجعية التي نتبنَّاها في هذا المقال، وهي معرفة: لماذا نعيش؟ ومعرفة المنهج الذي يجب اتباعه في الحياة.
ولكن مرة أخرى قبل الشروع في هذه الرحلة، قد يتساءل أحدهم ويقول: وهل البحث عن معنى الحياة مهمٌّ لهذه الدرجة؟ ألا يمكن أن يتمتع الإنسان بحياته دون بحث عن معنى؟! لِمَ كل هذا العناء؟ ليحيا الإنسان سعيدًا دون تفسيرات وتبريرات وفلسفة!
نرد على هذا القول بأن نقول إن الإنسان ما بحث عن معنى لحياته إلا بحثًا في الأساس عن السعادة، فمهما أغرق نفسه في الملذَّات، وتمتَّع باللذات، وغاص في الماديات لا تتحقق له السعادة – في الغالب – دون فهم المعنى وراء حياته، دون فكرة أو معتقد يؤمن به، ويعيش حياته على إثره.
“إن أردت أن تجعل حياتك سعيدة، فاربطها بأهداف وليس بأشخاص ولا أشياء”؛ ألبرت أينشتاين.
والأمر ليس خاصًّا بالفلاسفة؛ بل كل إنسان في الحقيقة مهما فعل فهو يبحث عن السعادة من وراء أفعاله هذه؛ ولكن قد يكون الفلاسفة هم في الأغلب من انقطعوا وتفرغوا بحثًا عن المعنى ومحاولة في فهم الحياة.
“من امتلك سببًا يعيش من أجله، يستطيع تحمُّل العيش بأي طريقةٍ كانت”؛ نيتشه.
وهذه قاعدة يتضح فيها أهمية الأمر، وتُفسِّر لنا الدافع الذي يدفع الشهداء ليكونوا أمواتًا رُقُودًا تحت التراب!
ويُثبت لنا أيضًا أن (المال، والسلطة، والقوة، والصداقة، والحب، والعائلة، والوطن…) كل هذه ليست أسبابًا لتحقيق السعادة في ذاتها إنما هي سبب لمن آمن بذلك لها.
وما أسلفنا قوله يرمي إلى أهمية معرفة المعنى الذي يعيش به الإنسان في حياته؛ لأن فهم المعنى يُسهِّل علينا فهم واستيعاب أفعال الإنسان كنتيجة إيمانه بهذا المعنى.
تعريف المعنى:
لن أذهب إلى كلام الفلاسفة وكُتُبهم في ذلك؛ بل أقول ما أجده في أبسط التفاسير وأيسر المفاهيم بالنسبة إلي وكما فهمته أنا.
فالمعنى: هو المقابل الذي ارتضينا أن يكون لنا في مقابل بذل كل الحياة في سبيله، فمن ارتضى الإسلام دينًا له، يتخلَّى عن الزنا والخمر والربا وأشياء كثيرة في سبيل تحقيق إيمانه هذا.
ولنبدأ في رحلتنا أخيرًا (فلسفة الإسلام في الحياة).
وبما أن القرآن الكريم هو دستور المسلم، فكان لا بد أن نولِّيَ وجهنا شطره بدايةً، ونحتكم إليه بداهةً.
وقد بيَّن الرب الرحيم في آيات القرآن الكريم عِلَّة خلق الإنسان، ونفى العبثية التي يقول بها جمع من الفلاسفة والمتكلمين بأنه ليس من وراء خلق الإنسان ووجوده سبب! وهذا التيه عرض من عوارض البعد عن نور الوحي وصفوة البيان؛ كلام الله القرآن.
من استقرأ القرآن، ينقب فيه عن عِلَّة خلق الإنسان، يرى واضحًا أنه ليس الإنسان إلا مظلتان يندرج أسفل منهما جميع أفعاله وحركاته وسكناته وأنفاسه، وهما: العبادة، وإعمار الأرض.
1- العبادة[1]:
﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10] ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115].
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
وعن مُعاذ بن جبلٍ، قال: كنتُ رديف النبيِّ صلى الله عليه وسلم على حمارٍ، فقال لي: ((يا معاذ، أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وحقَّ العباد على الله ألَّا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا))، قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشر الناس؟…الحديث.
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة، ولا يختلف على وجوب إفراد العبادة لله موحِّدٌ، ولكن الإشكال يقع في المفهوم الذي يجب أن نتبنَّاه في التعريف بالعبادة، وقد اختلف الأقوام في معنى العبادة وتعريفها، وأجمل وأجمع ما قيل في الأمر هو تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله”؛ (العبودية، ص38).
“ذا ما أوجزه الحكمي بقوله:
ثُمَّ العِبادةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعُ لِكُلِّ مَا يَرْضَى الإلَهُ السَّامِعُ” |
الشيء يكتسب قيمته من أداء وظيفته، فإذا هو لم يحسنها لم يعد له قيمة!
فمن يشتري سيارة ووجد أنها لا تتحرَّك! فسوف يبيعها ويبحث عن سيارة أخرى، كذلك الإنسان وظيفته على الأرض العبادة، وهو ما وضَّحته الآيات والأحاديث؛ بل العبادة هي الوظيفة الأولى لكل ما هو مخلوق.
يؤيد القول أن كل شيء في الحقيقة يُسبح لله عز وجل، الملائكة والشجر والحجر والأرض.
حتى إن فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يلهم التسبيح في الجنة دون تكلف؛ معنى ذلك أن حتى حين يفوز المسلم بالجنة لا تنفك عنه العبادة: التسبيح والتحميد والتهليل.
يتبنَّى كثيرون مِمَّن ينتسبون إلى الإسلام مفهومًا قاصرًا للعبودية، فهي لا تتجسد لديهم إلا في الصلاة والزكاة والصوم والحج!
وهذا التبنِّي لهذا المفهوم القاصر يُشكِّل بدوره في عقل المسلم وعيًا مشوهًا، وهو ما يؤثر بدوره في شتى مجالات الحياة وجوانبها عند المسلم، ليُنتِج لنا في نهاية الأمر إنسانًا مهزومًا حضاريًّا ومغلوبًا على أمره، لا يخرج علماؤه عن صومعة العبادة.
وهذا التبني المشوه يجعل المسلم يؤثر العبادة بمفهومها القاصر هذا – في غير الواجبات والفروض – على إعمار الأرض؛ فتختل موازين الحياة، فلا يقدر على إقامة حضارة قوية، وبدوره لا يكون قادرًا على إظهار دينه ونشره والدعوة إليه وبه، فبضاعته مزجاة لا تلفت الأنظار ولا تخطف الأضواء.
وهذا ما يجب علينا؛ بيان المفهوم الشمولي للعبادة في الإسلام[2]:
“وبهذا المفهوم الشامل تكون العبادة دائرة واسعة؛ تشمل الفرائض والأركان، والنوافل، والمعاملات، والأخلاق، وتتَّسع لتشمل الحياة كلها، كما تشمل كيان الإنسان كله في الباطن والظاهر، وبهذا تكون حياةُ الإنسان المسلم وحركاته وسكناته عبادةً لخالقه، وقد بيَّن الله تعالى هذا الشمول في كتابه العزيز، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]”[3].
“وعلى ذلك، فإن كل عمل اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو تربوي نافع يعد عبادة عند الله تعالى، وما أن يخلص المؤمن في عبادته لله، وفق هذا المعنى، حتى تصبح حياته جهادًا في سبيل الله، ينطبق ذلك على أقلِّ الأعمال وأكثرها في آنٍ معًا: فمساعدة الزوج زوجه في أعمال البيت عبادة، واللعب مع أطفاله عبادة، وإطعام أهله من الرزق الحلال عبادة، وسيره إلى العمل ورجوعه منه عبادة، وذهابه إلى الجامعة ورجوعه منها عبادة، وإماطته الأذى عن الطريق صدقة، وتبسُّمه في وجه أخيه المسلم صدقة، ونظافة بدنه عبادة، وتلبية حاجته الجنسية في الحلال عبادة؛ ففي الحديث: أنَّ أناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون بفضول أموالهم، قال: ((أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون؟ إنَّ بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله، أياتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر!))[4].
“ولا شك أنَّ الإسلام ليس أفعالًا تعد على الأصابع من دون زيادة أو نقصان؛ وإنما هو صلاحية الإنسان للسير في الحياة في حين هو يؤدي رسالة محددة؛ رسالة الاستخلاف في الأرض وعمارتها. فإنَّ لكل آلة صلاحية ما، فصلاحية الطائرة للانطلاق، وصلاحية المدفع للقذف، وصلاحية القلم للكتابة، وهذه الصلاحيات هي مناط الحكم على قيمة الأشياء، فإذا اطمئننا إلى وجودها [الصلاحية] قبلناها ورجونا ثمرتها، كذلك الإنسان، يريد الإسلامُ أن تسْتقيمَ أجهزتُهُ النفسية أولًا، فإذا توفرت لها صلاحيتها المنشودة بصدق اليقين، وسلامة الوجهة، فإن كل عمل تتعرض له في الحياة يتحول من تلقاء نفسه إلى طاعة لله، ففي شؤون الحياة ليس للأعمال الصالحة حصر تنتهي عنده، ولا رسم تخرج فيه، إنما هو إسلام الوجه لله وإصلاح العمل والبلوغ به حد الكمال”[5].
وأنقل هنا كلامًا نافعًا للإمام النووي في تعليقه على الحديث (56) في شرح صحيح البخاري:
قال النووي: “هذا بيان لقاعدةٍ مهمَّة؛ وهي أن ما أُريد به وجهُ الله تعالى، ثبتَ فيه الأجر، وإن حصل لفاعله في ضمنه، حظُّ نفسٍ من لذة أو غيرها؛ فلهذا مثَّل صلى الله عليه وسلم بوضع اللقمة في فم الزوجة، لاستمالة قلبها نحوه…”؛ انتهى[6].
وكما اختلف الفقهاء في مفهوم العبادة، اختلفوا أيضًا في الغاية منها؛ (يُراجع في ذلك المقالة المُشار إليها).
2- عمارة الأرض:
﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61]، ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 10].
كما قال تعالى على لسان صالح لقومه: ﴿ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].
وجاء في حديث البخاري: ((ما أكل أحد قط طعامًا أفضل من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده))؛ رواه البخاري.
فعمارة الأرض هي المهمة الثانية من مهام الإنسان الأساسية في الحياة، وهي مهمة ملاصقة له طيلة حياته، لا تنفكُّ عنه أبدًا.
“هذا في سياق من يقطعون الطريق أمام إعمار الأرض وازدهارها، أما عن الوسائل والمشاركة المباشرة في إعمار الأرض فتشريعات الإسلام مليئة بالتقعيد والتنظير لإعمار الكون بأفضل منهج متوازن يحقق الاستقرار النفسي والروحي للكون وساكنيه، فقد حث أبلغ الحث على بذل الجهد واستفراغ الوسع في إعمار الأرض حتى في أحلك الظروف، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة) فإن استطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”؛ [أخرجه أحمد (3/191)، والبخاري في الأدب المفرد (1/168)]، وحثَّ على الزراعة وتشجير الأرض منعًا للتلوُّث ونشرًا للخضرة والخير، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة))؛ [رواه البخاري (2/ 817)]، وعند مسلم: ((ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يَرْزَؤُه أحد إلا كان له صدقة))؛ [أخرجه مسلم (3 /1188، رقم 1552)][7].
وأرجو أن يطَّلِع القارئ على كتاب (نحو عمران جديد – هبة عبدالرؤوف عزت) ففيه نفع كبير.