حقيقة الصيام وفضائله


حقيقة الصيام وفضائله

 

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

 

فإن أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

معاشر المؤمنين، ها نحن في شهر الصيام والقيام في شهر القرآن والعتق من النيران، في أوائل هذا الشهر المبارك الذي فرض الله صيامه على المسلمين، فقال سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 – 185].

 

ففرض الله صوم شهر رمضان على كل مسلم عاقل بالغ صحيح مقيم، وعذر الله في ذلك المرضى ومن كان قد بلغ به المرض في جسده، فلم يستطع الصيام، أو كان شيخًا هرمًا، فكان لهم في ذلك تكفيرٌ مقابل الصوم؛ كما في قوله: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة:184].

 

وهكذا شأن الحبلى والمرضع إن خافت على نفسها أو طفلها، والحامل على جنينها، أباح الله لها الفطر، فهذا من رحمة الله بهذه الأمة وهو من التيسير، ومن رفع الحرج الذي عناه الله بقوله: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج:78].

 

فمنزلة الصوم هو الركن الرابع من أركان الإسلام، هذا الصوم هو من دين المسلمين، ومن أفطر يومًا من رمضان عامدًا متعمدًا، فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب والآثام، ذهب كثير من الفقهاء إلى أنه لو صام الدهر كاملًا ما قضى ذلك اليوم الذي استحل به حرمة هذا الشهر المبارك، هذا الشهر هو شهر الصيام، فرض الله صيامه على المسلمين، فتأملوا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، كيف استقبلوا هذا الشهر المبارك بعناية فائقة، وهكذا كان المسلمون جيلًا بعد جيل من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، يعيشون هذا الشهر المبارك شهر الصيام والقيام وشهر المغفرة يعيشونه صائمين قائمين راجين العفو والثواب والغفران من رب الأرض والسماوات هذا الشهر أنزل الله فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا ثم نزل القرآن منجمًا حسب الوقائع والأحداث وهكذا نزل القرآن على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل أمين وحي السماء في شهر رمضان ودلالة القرآن شاهدة على ذلك: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة:185] فهو شهر الصيام وشهر القرآن وشهر المغفرة؛ كما في الحديث: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه)[1]، وهو شهر القيام: صلاة التراويح تكون في شهر رمضان، وعلى ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه)[2].

 

هذا الشهر الكريم في أول ليلة من لياليه تُفتَّح أبواب الجنة كلها، فلم يغلق منها باب، وتغلق أبواب النيران السبعة، فلم يفتح منها باب، وتُصفَّد فيه الشياطين مَردة الجن؛ كما في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفدت الشياطين ومردة الجن، وغُلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عُتقاءُ من النار، وذلك كل ليلة)[3].

 

هذا شهر مقدس الطاعة فيه يتضاعف أجرها؛ لذا كان العلماء فيما مضى يحرصون على الخير، يحرصون على مدارسة القرآن، فلقد كان الحافظ الكبير محمد بن شهاب الزهري[4] الحافظ الذي قال فيه ابن حجر العسقلاني[5]: ثقةٌ ثبت متفق على جلالته وإتقانه[6]، هذا العالم الكبير كان إذا دخل شهر رمضان طوى كتب الرواية، ووضعها جانبًا وأقبل على قراءة القرآن، ومثله مالك بن أنس[7] وسفيان الثوري[8]، وكل هؤلاء مقتدون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكلهم من رسول الله مقتبسٌ ذلك الهدي المبارك، كلهم أخذوا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)[9].

 

شهر رمضان شهر الصبر، ففيه ترويض للنفوس على الصبر، والصبر ومنزلة الصابرين عظيمة عند رب العالمين؛ يقول سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر:10].

 

فمن أراد ترويض نفسه في هذا الباب وفي هذه القضية الكبرى قضية الصبر، فها هو في شهر الصبر في شهر رمضان، فمزاياه عديدة وفضائله كثيرة، لا يستطيع أحدٌ حصرها غير رب العالمين سبحانه وتعالى.

 

أما ما يتعلق بأمر الصيام، فكما في الحديث الصحيح: (والصيام جُنة)[10]، فهناك فضائل لشهر رمضان باعتبار أنه شهر رمضان، وهناك مزايا أخرى وفضائل أخرى للصيام، فالصيام معناه الإمساك، ومعناه في الشرع: إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة، يترك المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها الطعام والشراب والنكاح وسائر المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، بنية التقرب والتعبد، فالصيام كما في الحديث السابق: (الصيام جنة)، ومعنى جنة؛ أي: وقاية، فالصيام وقاية من النار، ووقاية من الشهوات، وقاية من الأمراض، فهناك مستشفيات يخصصون فيها تصويم المرضى لا بنية التعبد، ولكن بنية الاستشفاء، أوَ ما رأيت رجلًا قد أصيب ببعض الأمراض، فهو يمنع من طعام كذا وكذا؛ لأنه يهيج هذا الداء، وهكذا المسلم مُنع من الطعام والشراب في نهار رمضان استشفاءً واستطبابًا، وقبل ذلك تعبدًا.

 

ذكر بعض الثقات أن رجلًا من النصارى كان يدرس في جامعة صنعاء، فلما جاء شهر رمضان رأى تغيرًا واختلافًا، كل الناس لا يأكلون، ليس هناك مكانًا للشراب والطعام، فقد أوصدت البوفيات والمطاعم أبوابها، فلا طعام ولا شراب، وهكذا أيضًا تأمَّل في حال زملائه من المدرسين المسلمين كلهم، قد لزموا الإمساك عن الطعام والشراب، فيخرج إلى الشارع فيرى أمرًا مهيلًا، كل المحلات موصدة في صباح رمضان والمطاعم، كذلك فسأل ما الخبر؟ فقالوا له: يا أستاذ هذا شهر رمضان دخل على المسلمين، فقال لهم: وما رمضان؟ فقالوا له: شهر الصيام يمسكون عن الطعام والشراب بنية التعبد، فاستمرَّ خمسة أيام مشابهة للمسلمين فلا ذوق للطعام لديه، فوجد راحة في جسده، ثم بعد ذلك هداه الله للإسلام، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وترك عقيدة التثليث عقيدة النصارى، قال المتحدث: ولقد رأيته بعيني وهو يمرغ جبينه في السجود لله رب العالمين، فعلى ماذا يدل هذا؟ يدل على أن دين المسلمين هو الدين الصحيح، وهو الدين الكفيل بتغيير مجرى حياتهم من الضياع والهيام إلى الهداية، وإلى الرشاد التام إلى النور، وإلى الصراط المستقيم، فالصيام جنة، وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك)[11].

 

فهذه النكهة التي تكون من الصائمين عند الله شأنها عظيم، فهي يوم القيامة أطيب عند الله من ريح المسك، (وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) [12].

 

وجاء عند الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه فيشفعان) [13].

 

الصيام يشفع والقرآن يشفع، هذه الأعمال الصالحة التي كنت تقوم بها في الدنيا، تشفع لك عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، فهنيئًا لمن أدرك شهر رمضان شهر الصيام والقرآن وشهر العتق من النيران، هنيئًا له والله هنيئًا لمن أدرك شهر الصيام، فالتزم آداب الإسلام، فعرَف قدر الشهر والصيام، وخسارة لمن دخل عليه شهر رمضان وهو ما يزال على إعراض، ما يزال على بُعد وسخط من الله الواحد القهار.

 

معاشر المسلمين، شهر رمضان مدرسة لصلاح نفوسنا وتهذيب أخلاقنا، ومراجعة حسابنا مع ربنا سبحانه وتعالى، شهر رمضان كفيلٌ بنا جميعًا أن نحاسب أنفسنا وما فينا من شتات وما فينا من عقوقٍ وإعراض، فاسمعوا يا رعاكم الله إلى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (رغم أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يُغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما، فلم يدخلاه الجنة)[14].

 

رغم أنف امرئٍ – ومعنى رغم أي التصق أنفه بالتراب، ومعناه خسارة وذلة لمن وقع عليه مثل هذا، فيقول في ثلاث قضايا – رغم أنف امرئ أدركه شهر رمضان، فانسلخ فلم يغفر له ما تقدم من ذنبه، هذا دعاءٌ من رسول الله ويقول: رغم أنف امرئٍ أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، فلم يدخلاه الجنة – يعني ما كان بارًّا بوالديه – ورغم أنف امرئٍ ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ.

 

وجاء حديث أخطر من هذا، فهو دعاء بالبعد والطرد واللعنة لمن أدرك والديه أو رمضان أو سمع الصلاة على الحبيب، لكنه لم يطاوع ذلك، فقد روى الطبراني في معجمه من حديث جابر بن سمرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، إذ قال: آمين ثلاث مرات، فسئل عن ذلك فقال: (أتاني جبريل عليه السلام فقال: من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليك، فأبعده الله، قل آمين فقلت: آمين، قال: من أدرك والديه أو أحدهما فمات ولم يغفر له، فأبعده الله، قل آمين فقلت: آمين، ومن أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، قل آمين فقلت) [15].

 

ومن فضائل الصيام أن للصائم دعوة عند فطره لا تُرد من فضائل الصيام أن الصائم له دعوة مستجابة عند فطره، كما أخبر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم[16]، والقرآن يشهد لذلك أيضًا، ففي آيات الصيام يقول سبحانه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة:186].

 

اللهم بارك لي ولكم في القرآن الكريم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، هذا ما قلته لكم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

معاشر المسلمين، ليس الصيام مجرد ترك الطعام والشراب والنكاح والمفطرات فحسب، فهناك صيام وهناك حقيقة الصيام، فحقيقة الصيام أن يتوفر في قلوبنا معنى التقوى التي كانت هي الغاية المنشودة، وهي الحكمة المرادة من الصوم؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة:183].

 

والمراد بالتقوى فعل المأمور وترك المحذور، والقيام بالواجبات وترك المحرمات والمكروهات، فحقيقة الصوم أن تصوم عن الحرام، وحقيقة الصوم أن تعظم شهر الصوم، وأن تحترم مشاعر المسلمين.

 

يا ذا الذي ما كفاه الذنبُ في رجب
حتى عصا ربَّه في شهر شعبان
لقد أضلك شهر الصوم بعدهما
فلا تصيره أيضًا شهر عصيان

 

واتلو الكتـاب وسبِّح فيـه مجتــهدًا فـإنــه شـهـــر تسـبـيــحٍ وقرآن

كم كنت تعرف ممن صام فيسلف       مـن بيـن أهـل وإخـوان وجيـران

 

أفنـاهم المـوت واستبقـاك بعـدهمـو حيا فما أقرب القاصي من الداني[17].

 

معاشر المسلمين، إن صامت البطون والفروج بقي صيام للقلوب وهو أعظم من ذلك أن تصوم القلوب عن النيات الخبيثة المحرمة، بقي صيام الألسن عن الغيبة والنميمة وقول الزور، بقي صوم الأذنين عن سماع الأغاني والطرب، وبقي صوم اليدين عن كل ما حرم الله، وبقي صوم القدمين، وبقي صوم الجوارح، إن من الناس من يصوم لكن قلبه لم يصم.

 

صيام العارفين له حنينٌ
إلى الرحمن رب العالمين
تصوم قلوبهم في كل وقت
وبالأسحار هم يستغفرون

 

من الناس من يصوم لكن حاله كحال عاملٍ من غير أجرة، إنه عمل من بداية اليوم، لكنه لم يعطَ أُجرته آخر النهار، فيا خسارة ويا حسرة على العباد إذا كانوا يصومون لكن من غير أجور؛ جاء في حديث صحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)[18].

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش، ورُب قائم حظُّه من قيامه السهر)[19]، هو صام كمثل العامل عمل، لكنه لم يكن عمله مقبول، وهذا صام لكنه لم يعرف حقيقة الصوم، صام عن الطعام والشراب، وصام عن زوجته ذات العقد الشرعي الصحيح، صام عن أمور مباحة، لكن هناك محرمات بالأصالة هي محرمة في رمضان وبعد رمضان، إنه لم يصم عنها في نهار رمضان ولا في ليل رمضان، النظر إلى المتبرجات، النظر إلى الفاتنات في القنوات، النظر إلى النساء مباشرة، قول الزور وتعاطي الزور، والاشتغال بالربا المحرم، والغيبة والنميمة، هتك الأعراض عقوق الوالدين، إن من الناس من يصوم لكنه صوم أجوف لا حقيقة له ولا طعم له؛ إذ إنه لا تأثير له على صاحبه.

 

شريطة الصوم أن يكون له تأثيرٌ على صاحبه، فحينما شعر بالجوع والعطش شعر بإخوانه الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، فانكسرت نفسه وانكسرت شهوته، وتذكر اليوم الآخر يوم يجمع الله الأولين والآخرين، في بعض المستشفيات في نهار رمضان يأتون بمجموعة قد طعن بعضهم بعضًا، وأطلق بعضهم الرصاص على بعض، هذا في شهر الصيام، أهكذا الصوم يجعل الصائمين يفعلون؟ في نهار رمضان بعضهم ينفق سلعته بالغش والحلف الكاذب؛ أي صيام يا عباد الله؟ فالمطلوب هو الصيام الشرعي أن يكون صاحبه مخلصًا، فإن الصيام سرٌّ بين الله وبين عباده؛ كما في الحديث الصحيح الحديث القدسي الصحيح يقول رب العالمين: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي)[20].

 

فأنت في نهار رمضان تأكل أو تشرب، لا يطلع على ذلك أحدٌ غير رب العالمين، فكان للصوم هذه المزية لكن الصلاة أمرٌ ظاهري، ينكر عليك الناس وأنت في الشارع والناس في المساجد، أما الصوم فقد يأكل الآكل ويشرب الشارب، ولا يطلع عليه إلا رب العالمين ويزعم أنه من الصائمين القائمين، ولكنه سرٌّ بين الله وبين عباده، فإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من إحسانه لا بد من إتقانه، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه)[21]، وهذا عمل مجرد عمل.

 

ينزِّل هذا الحديث على الفلاح وعلى الصانع وعلى الحداد والنجار وصاحب الألومنيوم والمهندسين، تقول له: أتقن العمل وتأتيه بهذا الحديث، فما بالك بعمل الشريعة ما بالك بالصلاة والصيام، إذًا نحن نطالب أنفسنا بأن يكون الصيام قد غيَّر مجرى حياتنا من حسن إلى أحسن وأفضل.

 

شهر رمضان هو شهر المسلمين فيه تأريخ عظيم، ومجدٌ لأهل الإسلام، واقرؤوا كتب التأريخ، فمتى كانت غزوة بدرٍ[22]؟ وفتح مكة[23]؟ وعين جالوت[24]؟ وغيرها من الوقائع العظيمة؟ في شهر رمضان، فليس شهر رمضان شهر نوم وكسل وتثاقل عن الطاعات، إنه شهر النشاط والجدية، شهر مدارسة القرآن، شهر التسبيح والتعظيم والتهليل، وشهر تفقُّد الأرامل والمساكين، شهر الإحساس بإخواننا المسلمين الجوعى في فلسطين وغيرها من بقاع المسلمين، إنه شهر عظيم لمن تأمَّله، أما قليل النظرة قاصر النظرة، فهو يحصر الشهر على أن يأكل القات في الليل، ثم يسهر إلى آخره، فينام من النهار، بل ربما البعض يرحب ويحبذ برمضان وقد سمعت هذا والله، أنه يحبذ رمضان؛ لأنه في الليل سهر وفي النهار نوم وضياع، والله ما هكذا كان المسلمون، وإنما كان الشهر عبارة عن مفاقدة وصيانة وتهذيب وتعليم وتربية، فتفقهوا يا معاشر المسلمين، لقد صرنا فقهاءَ في الدنيا، لكننا جهال في الآخرة، فتفقهوا يا رعاكم الله في دينكم، تعلَّموا شريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد تيسر العلم وتيسرت أسبابه، فاقرؤوا المطويات واسمعوا الأشرطة النافعة، اسمعوا كلام علمائكم ونصائح وتوجيهات الدعاة إلى الله؛ حتى تغنموا هذا الشهر وتستفيدوا منه.

 

فصم يومك الأدنى لعلك في غدٍ       تفوز بعيد الفطر والناس صوَّم

 

أسأل الله بمنِّه وكرمه وبأسمائه الحسنى وبصفاته العلى أن يجعل شهر رمضان شهر خيرات وبركات للمسلمين، اللهم اجعله شهر خير شاهدًا علينا بالخير يا رب العالمين.

 

اللهم اجعلنا من عبادك الصائمين القائمين.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا في شهرنا يا أرحم الراحمين.

اللهم أعتقنا من نيرانك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

اللهم لا تدَع لنا ذنبًا إلا غفرته ولا همًّا إلا فرَّجته ولا دَينًا إلا قضيته، ولا عسيرًا إلا يسرته ولا منفقًا إلا أخلفت له بالخير يا رب العالمين.

اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شرٍّ.

اللهم انصُر عبادك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

اللهم عليك بالكفرة المعادين الملحدين يا رب العالمين.

أرنا فيهم عجائب قدرتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

 

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين، وأقِم الصلاة.


[1] متفق عليه: البخاري (38، 1802، 1910) ومسلم (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] متفق عليه: البخاري (37، 1904، 1905) ومسلم (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] صحيح: رواه الترمذي (682) وابن ماجة (1642) وابن خزيمة (1883) وابن حبان (3435) والحاكم (1532) والبيهقي في: الشعب (3598) والكبرى (8284) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وصححه الألباني في: المشكاة (1960) وصحيح ابن ماجة (1331) وانظر: صحيح الجامع (759).

والحديث متفق عليه: البخاري (1800، 3103) ومسلم (1079) بلفظ: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم، وسُلسلت الشياطين ـ وفي رواية ـ وصفدت الشياطين).

[4] الزهري (58 – 124 هـ = 678 – 742 م) محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، من بني زهرة بن كلاب، من قريش، أبو بكر: أول من دون الحديث، وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء، تابعي، من أهل المدينة، كان يحفظ ألفين ومائتي حديث، نصفها مسند، وعن أبي الزناد: كنا نطوف مع الزهري ومعه الألواح والصحف ويكتب كل ما يسمع، نزل الشام واستقر بها، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه؛ قال ابن الجزري: مات بشغب آخر حد الحجاز وأول حد فلسطين.

انظر: الأعلام للزركلي (7/97).

[5] ابن حجر العسقلاني (773 – 852 هـ = 1372 – 1449م)، أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حجر: من أئمة العلم والتاريخ، أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة، أولع بالأدب والشعر، ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت له شهرة، فقصده الناس للأخذ عنه، وأصبح حافظ الإسلام في عصره، قال السخاوي: (انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر)، وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفًا بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه، وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل، أما تصانيفه فكثيرة جليلة؛ انظر: الأعلام للزركلي (1/178).

[6] في تقريب التهذيب ص (506) قال: الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه.

[7] الإمام مالك (93 – 179 هـ = 712 – 795 م) مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، أبو عبد الله: إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه تنسب المالكية، مولده ووفاته في المدينة، كان صلبًا في دينه، بعيدًا عن الأمراء والملوك، وُشِي به فضُرب سياطًا انخلعت لها كتفه، ووجه إليه الرشيد العباسي ليأتيه فيحدثه، فقال: العلم يؤتى، فقصد الرشيد منزله واستند إلى الجدار، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، من إجلال رسول الله إجلال العلم، فجلس بين يديه، فحدثه، وسأله المنصور أن يضع كتابًا للناس، فصنَّف “الموطأ”؛ انظر: الأعلام للزركلي (5/ 257).

[8] سفيان الثوري (97 – 161 هـ = 716 – 778 م) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، من بني ثور بن عبد مناة، من مضر، أبو عبد الله: أمير المؤمنين في الحديث، كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى، وُلد ونشأ في الكوفة، وراوده المنصور العباسي على أن يلي الحكم، فأبى، وخرج من الكوفة (سنة 144 هـ فسكن مكة والمدينة، ثم طلبه المهدي، فتوارى، وانتقل إلى البصرة فمات فيها؛ انظر: الأعلام للزركلي (3/ 104).

[9] متفق عليه، البخاري (6، 1803، 3048، 3361، 4711) ومسلم (2308)، وغيرهما.

[10] جزء من حديث متفق عليه: البخاري (1805) ومسلم (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[11] جزء من الحديث السابق[ والصيام جنة ].

[12] وهذا أيضا جزء من الحديث السابق[ والصيام جنة ].

[13] صحيح: رواه أحمد (6626) والحاكم (2036) والبيهقي في الشعب (1994) وأبو نعيم في الحلية (8/161) وغيرهم وصححه الألباني في: صحيح الجامع (3882) والمشكاة (1963) وصحيح الترغيب (984).

[14] صحيح: رواه أحمد (7444) والترمذي (3545) وابن خزيمة (1888) وابن حبان (908) والبخاري في الأدب المفرد (646) وصححه الألباني في: صحيح الجامع (3510) والمشكاة (927) وصحيح الترغيب (1680) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[15] صحيح: رواه الطبراني في: الكبير (2022) جابر بن سمرة وبرقم (11115) عن ابن عباس رضي الله وأخرجه ابن حبان (409) عن مالك بن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده رضي الله عنه .

والحديث صححه الألباني في: صحيح الجامع (75) وصحيح الترغيب (996، 1678)

[16] لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند ابن ماجة (1753) {إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد} لكن الحديث ضعيف كما في ضعيف الجامع (1965) والإرواء (921) والضعيفة (4325) ولكن جاءت أحاديث عامة أن للصائم دعوة مستجابة دون تقييدها بوقت الإفطار فقد روى البيهقي في الشعب (3594) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3030) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم و دعوة المظلوم و دعوة المسافر”.

وروى البيهقي في الكبرى (6185) من حديث أنس رضي الله عنه وصححه الألباني بشواهده في: الصحيحة (1797) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ثلاث دعوات لا ترد دعوة الوالد ودعوة الصائم ودعوة المسافر”.

[17] انظر: لطائف المعارف لابن رجب (279)

[18] رواه البخاري (1804، 5710) وأحمد (9838) وأبو داود (2362) والترمذي (707) والنسائي في الكبرى (3245) وابن ماجة (1689) وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعند بعضهم : من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به” قوله: ” فليس لله حاجة ” أي إن الله تعالى لا يلتفت إلى صيامه ولا يقبله.

[19] صحيح: رواه أحمد (8843) وابن ماجة (1690) والنسائي في: الكبرى (3249، ومواضع) والحاكم (1571) وابن خزيمة (1997) وابن حبان (3481) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في: صحيح الجامع (3488، 3490) وصحيح الترغيب (1083) والمشكاة (2014) والحديث جاء عن ابن عمر رضي الله عنه.

[20] جزء من حديث في الصحيحين وقد سبق وهو حديث [والصيام جنة ].

[21] صحيح بشواهده: رواه الطبراني في: الأوسط (897) وأبو يعلى (4386) والبيهقي في: الشعب (5312، 5313، 5314) عن عائشة رضي الله عنه، وانظره مع شواهده في الصحيحة (1113).

[22] كانت غزوة بدر الكبرى يوم الجمعة في شهر رمضان في السابع عشرة على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة ( يناير سنة 624 م)

[23] كان فتح مكة في يوم الجمعة في العشرين أو الحادي والعشرين من شهر رمضان عام ثمانية من الهجرة.

[24] كانت عين جالوت التي انتصر فيها المسلمون ضد التتر في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان من سنة (658هـ ـ 1260م ) انظر: تأريخ الإسلام (48/61)





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
(يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب)
قانون: اللاءات الثلاث