الثنائيات
الثنائيات
تمهيد:
يعرِّف قاموس مريام – ويبستر الثنائية بأنها:
1- تلك النظرية التي تنظر للواقع على أنه مكوَّنٌ من عنصرين لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر،
2- هي الحال التي تتكوَّن من طبيعة ثنائية،
3- أ. صياغة الكون تحت مبدأين متضادَّين؛ احدهما خيرٌ والآخر شرٌّ.
3- ب. النظرة إلى الإنسان على أنه مكوَّن من عنصرين لا بُدَّ منهما، كالروح والمادَّة.
1. a theory that considers reality to consist of two irreduci – ble elements or modes.
2. the quality or state of being dual or of having a dual nature.
3. a: a doctrine that the universe is under the dominion of two opposing principles one of which is good and the other evil.
3.b: a view of human beings as constituted of two irreduci – ble elements (as matter and spirit)[1].
• وحول هذه التعريفات الثلاثة نَظَر، من حيث الرؤية التأصيلية للحقيقة والحال والكون بين الخير والشرِّ والإنسان بين المادِّية والروحانية. على أنَّ لكلِّ توجُّهٍ فكريّ نظرتَه للثنائية انطلاقًا من النظرة للحياة، بما فيها من ثنائيات قد يراها بعض المفكِّرين من المتناقضات، وما هي منها. وهذا ما يمكن نقاشه بتفصيل في هذا البحث.
• وفي موضوع الثنائيات (Duality or Dualism, 1794ac) المتناقضة أو المتضادَّة «غير المتقابلة» – سواءٌ أكان هذا التناقُض أو التضادُّ طبيعيًّا أم كان مصطنعًا ومفتعلاً – يحتاج النقاشُ فيه إلى شيء من التفصيل في النظر إلى طبيعة الأشياء. تقول سمر الديوب: «تجتمع في النفس البشرية إذن ثنائيَّات ضدِّية، يمكن عدُّها كامنةً في أغوار النفس الإنسانية. فالحياة غريزة واضحةٌ الأثر في حركاتنا وسكناتنا، والموت غريزة ماثلة أمام أعيننا، والسواد والبياض موجودان جنبًا إلى جنبٍ في الحياة. ويمكن القول: إنَّ مظاهر الحياة كلها هي نتيجة ذلك التجاذُب بين قطبي هذه الثنائية»[2].
• ويرى الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (159- 255هـ) أنَّ طبيعة الثنائية الضدِّية هو نظام الحياة المعيشة، «وأنَّ مكوِّنات الوجود تقوم بأمور ثلاثة: منسجم ومتغاير ومتضادّ، وتعود هذه المستويات الثلاثة إلى ثنائية الثابت والمتحوِّل. ويقول «تلك الأنحاء الثلاثة كلُّها في جامدٍ ونامٍ» أي ساكن ومتحرِّك. وتعلِّق الباحثة غيثاءُ قادرةُ على قول الجاحظ هذا بقولها: «وعلى الرغم من ذلك لم يُظهِر الجاحظ ما هو الجامد وما هو المتحرِّك النامي، ولم يوضِّح أنَّ النموَّ يناهض الجمود، وأنَّ الحركة تجُبُّ السكون، وأنَّ أثر الثنائيات في نفس قائلها كبيرةٌ وبُعدُها النفسي واضح»[3].
• وتقول أيضًا في مقام آخر: «تقوم الثنائية،، بوصفها فكرة فلسفية، على فكرة أنَّ ثمة قدرةً على الربط بين الظواهر التي يبدو أنها منفصلة، فالتضادُّ رابطة مثل التماثل، والتناقُض رابطة؛ لأنه يعني نفي النقيض، فوجود النور ينفي وجود الظلام؛ لذا يدخل النور والظلام في علاقة تناقض، أما وجود الأبيض فيتضادّ مع الأسود، فالعلاقة بينهما علاقة تضاد، فالحالتان المتضادتان إذا تتالتا، أو اجتمعتا معًا في نفس المدرك، كان شعوره بهما أتمَّ وأوضح. وهذا لا يَصْدُق على الإحساسات والإدراكات والصور العقلية فحسب، بل يصدق على جميع حالات الشعور كاللذة والألم والتعب والراحة. فالحالات النفسية المتضادة يوضح بعضها بعضًا، وبضدِّها تتميَّز الأشياءُ. وقانون التضادّ أحدُ قوانين التداعي والتقابُل»[4].
• والحديث هنا لا يركِّز على الثنائيات الضدِّية، كما هو الشائع في الأدب العربي. فقد أُشبع هذا الموضوع بحثًا في القرآن الكريم[5] والشعر العربي القديم[6] والحديث[7]، بل النقاش يتعدَّى هذا إلى ثنائياتٍ أشمل.
• وفي نقاش الثنائيات في هذا البحث يتَّضح قدرٌ من التكرار في ذكر الأفكار، مما يفرضه التداخُلُ في استجلاب ثنائيات ذات ارتباط بأخرى. فلزم التنويه إلى أنَّ هذا التكرارَ مقصودٌ، إذ قد يفرضه السياق.
• وليست هذه الوقفات حول الثنائيات حصريَّةً، بل إنَّ المحيط الثقافي والحياتي يزخر بالثنائيات التي تكون بعضها طبيعية وبعضها مصطنعة. ومنها:
• تلك الثنائيات التي تلتقي ويُراد لها أنْ تلتقي، ومنها:
• ثنائيات تلتقي ولا يُراد لها أنْ تلتقي، أو يُراد لها ألا تلتقي،
• وثنائيات لا تلتقي ويُراد لها أنْ تلتقي ولكنها لن تلتقي،
• وثنائيات لا تلتقي وتبقى لا تلتقي، وهكذا.
وهناك أيضًا من الثنائيات من مثل:
1- ثنائية الوجود والفناء.
2- وثنائية المصالح والمفاسد.
3- وثنائية الحرِّ والبرد.
4- وثنائية المظهر والمضمر.
5- وثنائية الوعي واللاوعي.
6- وثنائية الشعور واللاشعور.
7- وثنائية الرأي والرأي الآخر.
8- وثنائية الحرِّيَّة والعبوديَّة.
9- وثنائية الرجاء والخوف.
10- وثنائية الغِنى والفقر.
11- وثنائية البَصَر والعمى.
12- وثنائية النفع والضرر.
13- وثنائية الكرم والبُخل.
14- وثنائية الصدق والكذب.
15- وثنائية الحبِّ والكُره أو البُغض.
16- وثنائية الإيمان والكفر.
17- وثنائية العلم والجهل.
18- وما بينهما من ثنائية التعالُم المذموم والتجاهُل المحمود.
19- وثنائية السلف والخلف في الفكر الديني.
20- وثنائية العزائم والرُّخَص في أداء العبادات والمعاملات، فإنَّ الله تعالى يحبُّ أنْ تؤتى رُخصُه كما يحبُّ أنْ تؤتى عزائمُه.
21- وثنائية اليُسر والعُسر، ومع كلِّ عُسر يُسران.
22- وثنائية التنازُع والتدافُع في الاختصاصات، عند أهل الأصول وغيرهم، وغيرها من الثنائيات التي ترد تباعًا.
• وفي تعريفٍ للثنائية الضدِّية أنها: تقوم على فكرة البنيوية، تلك النظرية الاجتماعية الأنثروبولوجية اللغوية التي ترى أنَّ جميع عناصر ثقافة الإنسان يمكن فهمها من خلال العلاقات التبادُلية، وكيف تتصرَّف من خلال نظام أعمَّ أو من خلال البيئة العامَّة. ونواجه الثنائية الضدِّيَّة في الدراسات الثقافية عند الكشف عن الفروقات بين مجموعات من البشر، مثل الطبقات العليا والطبقات الدنيا، أو المعوْقين وغير المعوْقين. ويظهر أنَّ هذا مجرَّد تنميط، أما الذي يجعلها ثنائيَّة ضدِّية فهو فكرة أنها لا تتعايش مع بعضها ولا تلتقي ولو أُريد لها أنْ تلتقي.
وهذا تقريبٌ لما عرَّفتها به بعض الموسوعات الأجنبية على النحو الآتي:
Binary opposition is a key concept in structuralism, a theory of sociology, anthropology, and linguistics that states that all elements of human culture can only be understood in relation to one another and how they function within a larger system or the overall environment. We often encounter binary oppositions in cultural studies when exploring the relationships between different groups of people, for instance: upper – class and lower – class or disabled and non – disabled. On the surface, these seem like mere identifying labels, but what makes them binary opposites is the notion that they cannot coexist.
• والتضادُّ في النقد العربي القديم مرادفٌ للطِباق والتكافؤ. وتحدَّث عنه أبو هلال العسكري (308- 395هـ) في كتابه الصناعتين، أنَّ الطباق أو المطابقة هي «الجمع بين الشيء وضدِّه في جزء من أجزاء الرسالة أو الخطبة أو البيت من بيوت القصيدة، مثل الجمع بين البياض والسواد والليل والنهار والحرِّ والبرد»[8]. ولا يركِّز هذا البحث على الثنائية الضدِّيَّة في الأدب العربي، بل لا يتوسَّع فيما توسَّع فيه باحثون في هذا المجال، ويتخطَّى ذلك إلى البحث في ثنائيات ذات مدلولات أشمل من الضدِّيَّات.
• ومن هنا فإنه يمكن القول إنَّ ما ورد ذكره من الثنائيات في هذا البحث إنَّما خضع لأسلوب الانتقائية لا محاولة الحصر. وجاءت الانتقائية فيما يرى الباحث أنها ثنائيات أثارت جدلاً – وما تزال – بين أهل العلم والفكر والفلسفة، وأنها طُوِّعت للثقافة التي ينطلق منها مَن يتصدَّون لها. وبعضها في طرحها لا يخلو من الهوى أو التعمية أحيانًا إلى حدِّ التضليل. فكانت المحاولات لوضع الأمور في نصابها من منطلق تأصيلي لا يخلو من الانتماء الثقافي، ولكنها محاولاتٌ لم تُخضع النقاشَ للهوى – في زعم الباحث -.
• وعلى أيِّ حال فإنَّ الطبعة الأولى من أيِّ عملٍ علميٍّ أو فكري تكاد تكون الطبعة «التجريبية». فإذا ما قُرئت هذه الأفكار وورد للباحث صداها ونقدها وتقويمها فإنَّ ذلك حريٌّ بصقلها وتهذيبها بمراجعتها بالحذف أو الإضافة، شأن أي طبعةٍ تاليةٍ لأي عمل تُنشر فيه الأفكار، فتتحوَّل إلى معرفة عامَّة مُشاعة قابلة للنقد والتمحيص.[9] وهذه من ميزات نشر الأفكار والرؤى حين يتَّسع صدر الكاتب أو الباحث للنقد ويتقبَّله بقبول حسن، ويثق أنه إنما يُراد لها أنْ تحسِّنَ من الطرح وتضفي عليه من القبول ما لم يكن حاضرًا في الطبعة الأولى «التجريبية».
• وهذه دعوةٌ صريحةٌ للتفضُّل على الباحث بتزويده بالرؤى والأفكار والتقويمات التي تُثري الموضوع وتجعله أقربَ إلى الكمال، وإنْ لم يصل إلى الكمال ولا يُنتظر له أنْ يصل إليه، على حدِّ قول القاضي الفاضل (526- 596هـ) في كتابه «خطابه» للعماد الأصفهاني (519- 597هـ): «إني رأيتُ أنه لا يكتُب إنسانٌ كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا لكان يُستحسن، ولو قدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُركَ هذا لكان أجملَ. وهذا من أعظم العِبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جُملة البشر»[10].
[1] انظر في تعريف الثنائية http://www.merriam-webster.com/true-or-false/index/htm: (16/ 11/ 1436هـ 1/ 8/ 2015م).
[2] انظر: سمر الديوب. مصطلح الثنائيات الضدِّيَّة. – عالم الفكر. – ع 1 مج 41 (يونيو – سبتمبر 2012م). – ص 99 – 126. – والنصُّ من ص 99.
[3] انظر: الجاحظ. الحيوان. – 1: 26. – نقلاً عن: غيثاء قادرة. الثنائيات الضدِّيَّة وأبعادها في نصوصٍ من المعلَّقات. – مجلَّة دراسات في اللغة العربية وآدابها. – ع 10 (صيف 1391هـ. ش/ 2012م. – ص 25 – 46.
[4] انظر: سمر الديوب. الثنائيات الضدية: دراسات في الشعر العربي القديم. – دمشق: وزارة الثقافة، الهيئة العامَّة السورية للكتاب، 2009م – ص 5.
[5] انظر: مازن موفَّق صديق الخيرو. الثنائيات الضدِّيَّة في سورة الرعد. – آداب الرافدين. – ع 57 (1431هـ/ 2010م. – ص 117 – 135.
[6] انظر: سراته البشير. الخطاب الشعري والثنائيَّات الضدِّية. – ديوان العرب. (1/ 10/ 2015م). – diwanalarab.com
[7] انظر: أحمد العرود. الثنائيَّات الضدِّيَّة في شعر «عرار»: قصيدة «نور نسميهم» نموذجًا. – الروَّاد. (17/ 12/ 1436هـ – 1/ 10/ 2015م). – rooad.com
[8] انظر: أبو هلال العسكري. الصناعتين. – ص 339. – نقلاً عن: غيثاء قادرة. الثنائيات الضدِّيَّة وأبعادها في نصوصٍ من المعلَّقات. – مجلَّة دراسات في اللغة العربية وآدابها. – مرجع سابق. – ص 25 – 46.
[9]M. J. Ziman, Public Knowledege. – Cambridge: Cambridge University Press, 1968.
[10] انظر: ياقوت الحموي. مُعجمُ الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)/ راجعته دار المعارف العمومية بمصر. – 20 ج في 10 مج. – بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت. (نسخة مصوَّرة من مطبوعات دار المأمون بمصر، 1355هـ/ 1936م). وتُنسب هذه العبارة للعماد الأصفهاني، وهي للقاضي الفاضل كتب بها للعماد.